عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب القرعة في المشكلات
  
              

          ░30▒ (ص) بابُ الْقُرْعَةِ فِي الْمُشْكِلَاتِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان مشروعيَّة القرعة في الأشياء المشكلات التي يقع فيها النزاعُ بين اثنين أو أكثر، ووقع في رواية السرخسيِّ: <مِنَ المشكلات>، وبكلمة (في) أصوب، وأَمَّا كلمة (مِن) إن كانت محفوظةً فيكون للتعليل؛ أي: لأجل المشكلات؛ كما في قوله تعالى: {مِمَّا خَطَايَاهُمْ}[نوح:25] أي: لأجل خطاياهم، قيل: وجهُ إدخال هذا الباب في (كتاب الشهادات) أنَّها مِن جملة البيِّنات التي تثبت بها الحقوقُ.
          قُلْت: الأحسن أن يُقال: وجه ذلك أنَّهُ كما يُقطَع النزاعُ والخصومة بالبيِّنة؛ فكذلك يُقطَع بالقرعة، وهذا المقدار كافٍ لوجه المناسبة.
          (ص) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}[آل عِمْرَان:44] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اقْتَرَعُوا فَجَرَتِ الأَقْلَامُ مَعَ الْجِرْيَةِ وَعَالَ قَلَمُ زَكَرِيَّاءَ ◙ ، فَكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ.
          (ش) (وَقَوْلِهِ) بالجرِّ عطفًا على (القرعة)، وذكرَ هذه الآية في معرض الاحتجاج لصحَّة الحكم بالقرعة، بناءً على أنَّ شرع مَن قبلنا هو شرعٌ لنا ما لم يقصَّ الله علينا بالإنكار، ولا إنكار في مشروعيَّتها.
          وما نَسَب بعضُهم إلى أبي حنيفة بأنَّه أنكرها فغيرُ صحيحٍ، وقد بسطنا الكلام فيه عن قريبٍ في تفسير قصَّة الإفك.
          وأَوَّل الآية: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[آل عِمْرَان:44].
          قوله: {ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذكر مِن قضيَّة مريم.
          قوله: {مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ} أي أخبار الغيب، {نُوحِيهِ إِلَيكَ} أي: نقصُّه عليك {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي: وما كنت يا مُحَمَّدُ عندهم ({إِذْ يُلْقُون}) أي: حين يلقون الأقلام ({أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}؟) أي: يضمُّها إلى نفسه ويُربِّيها؟ وذلك لرغبتهم في الأجر، {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي: حين يختصمون في أخذها.
          وأصل القصَّة أنَّ امرأة عِمْرَان _وهي حَنَّة بنت فَاقُود_ لا تَحمِل، فرأت يومًا طائرًا يزقُّ فَرخَه، فاشتهت الولدَ، فَدعت الله تعالى أن يهبَها ولدًا، فاستجاب اللهُ دعاءها، فواقعها زوجها فحملت منه، فلما تحقَّقت الحملَ نذرت أن يكون مُحرَّرًا؛ أي: خالصًا لخدمة بيت المقدس، فلمَّا وضعت / قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى}[آل عِمْرَان:36] ثُمَّ خرجت بها في خِرقتِها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى بن عِمْرَان، وهم يومئذ يلون مِن بيت المقدس ما يلي الحجبة مِنَ الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فإنِّي حرَّرتُها وهي ابنتي، ولا تدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردُّها إلى بيتي، فقالوا: هذه ابنة إمامنا، وكان عِمْرَان يؤمُّهم في الصلاة وصاحب القربان، فقال زكريَّاء: ادفعوها إليَّ، فإنَّ خالتها تحتي، فقالوا: لا تطيب نفوسنا، هي ابنةُ إمامنا، فعند ذلك اقترعوا بأقلامهم عليها، وهي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراةَ، فقرعهم زكريَّاء، ◙ ، وقد ذكر عِكْرِمَةُ والسُّدِّيُّ وقتادة وغيرُ واحدٍ: أنَّهم ذهبوا إلى نهر الأردنِّ، واقترعوا هنالك على أن يُلقوا أقلامَهم فيه، فأيُّهم ثبت في جِرية الماء فهو كافلُها، فألقَوا أقلامَهم فاحتملها الماء إلَّا قلم زكريَّاء فَإِنَّهُ ثبت، فأخذها وضمَّها إلى نفسه، وقد ذكر المفسِّرون أنَّ الأقلامَ هي الأقلامُ التي كانوا يكتبون بها التوراة؛ كما ذكرنا، ويقال: الأقلامُ السهام، وسُمِّي السهمُ قلمًا لأنَّه يُقلَم؛ أي: يُبرَى.
          قوله: ({أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}) أي: يأخذها بكفالتها.
          قوله: (اقْتَرَعُوا) يعني: عند التنافس في كفالة مريم.
          قوله: (مَعَ الْجِرْيَةِ) بكسر الجيم؛ للنوع، مِن الجريان، وقال ابن التين: صوابه: أقرعوا، أو: قارعوا؛ لأنَّه رباعيٌّ.
          قُلْت: قد جاء (اقترعوا) كما جاء (أقرعوا) فلا وجه لدعوى الصواب فيه.
          قوله: (عَالَ) أي: غلب الجِرية، ويروى: <علا> ويروى: <عدا>، حاصله: ارتفع قلم زكريَّاء، ويقال: إنَّهم اقترعوا ثلاثَ مرَّاتٍ، وعن ابن عَبَّاسٍ: لمَّا وُضِعت مريم في المسجد اقترع عليها أهلُ المصلَّى وهم يكتبون الوحيَ.
          (ص) وقَوْلِهِ: {فَسَاهَمَ} أقْرَعَ {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}[الصافات:141] يَعْنِي: المَسْهومِينَ.
          (ش) (وَقَوْلِهِ) بالجرِّ عطفًا على (قولِه) الأَوَّل.
          قوله: (أَقْرَعَ) تفسيرٌ لقوله: ({فَسَاهَمَ}) والضمير فيه يرجع إلى يونس ◙ ، وفسَّر البُخَاريُّ ({الْمُدْحَضِينَ}) بمعنى (المَسْهومِينَ) يعني: المغلوبين، يقال: ساهمته فسهمتُه؛ كما يقال: قارعته فقرعتُه، وقوله: ({فَسَاهَمَ} أَقْرَعَ) تفسيرُ ابن عَبَّاسٍ، أخرجه الطَّبَريُّ مِن طريق معاوية بن صالحٍ عن عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ، ورُوِي عن السُّدِّيِّ قال: قوله: {فَسَاهَمَ} أي: قارع، قال بعضهم: هو أوضحُ.
          قُلْت: كونُه أوضح باعتبار أنَّهُ مِن (باب المفاعَلة) التي هي للاشتراك بين اثنين، وحقيقة المدحَضِ المُزْلَقُ عن مقام الظفَر والغَلَبة، وقال القرطبيُّ: يونس بن متَّى لمَّا دعا قومَه أهل نِينَوَى مِن بلاد الموصل على شاطئ دجلةَ للدخول في دينه؛ أبطؤوا عليه، فدعا عليهم ووعدهم العذابَ بعد ثلاثٍ، وخرج عنهم، فرأى قومُه دخانًا ومُقدِّمات العذاب، فآمنوا به وصدَّقوه وتابوا إلى الله ╡ ، وردُّوا المظالمَ حَتَّى ردُّوا حجارةً مغصوبةً كانوا بنَوا بها، وخرجوا طالبين يونسَ فلم يجدوه، فلم يزالوا كذلك حَتَّى كشف اللهُ عنهم العذابَ، ثُمَّ إنَّ يونس ركب سفينةً فلم تَجْرِ، فقال أهلُها: فيكم آبقٌ، فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فالتقمه الحوتُ، وقد اختُلِف في مدَّة لبثِه في بطنه مِن يومٍ واحدٍ إلى أربعين يومًا، فأوحى الله إلى الحوت أن يلتقمه ولا يكسرَ له عظمًا، وذكر مقاتلٌ: أنَّهم قارعوه ستَّ مرَّاتٍ؛ خوفًا عليه مِن أن يُقذَف في البحر، وفي كلِّها يَخرج عليه، وفي (يونس) ستُّ لغاتٍ: ضمُّ النون وفتحها وكسرها مع الهمز وتركه، والأشهر ضمُّ النون بغير همزٍ.
          (ص) وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ☺ : عَرَضَ النَّبِيُّ صلعم عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ؟
          (ش) هذا التعليق قد مرَّ موصولًا في (باب إذا سارع قومٌ في اليمين) وقد مرَّ عن قريبٍ، وهذا أيضًا يدلُّ على مشروعيَّة القرعة.