عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: إذا زكى رجل رجلا كفاه
  
              

          ░16▒ (ص) بابٌ: إِذَا زَكَّى رَجُلٌ رَجُلًا كَفَاهُ.
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَر فيه: إذا زكَّى رجلٌ رجلًا كفاه؛ أي: كفى رجلًا الذي هو المزكَّى _بفتح الكاف_ يعني: لا يحتاج إلى آخرَ معه، وقد ذُكِر في أوائل (الشهادات) : (بابُ تعديلِ كم يجوز) فتوقف في جوابه، وههنا صرَّح بالاكتفاء بالواحد، وفيه خلافٌ؛ فعند مُحَمَّد بن الحسن: يُشتَرط اثنان؛ كما في الشهادة، وهو المرجَّح عند الشَّافِعِيَّة والمالكيَّة، واختاره الطَّحَاويُّ، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف: يُكتَفى بواحدٍ، والاثنان أحبُّ، وكذا الخلاف في الرسالة والترجمة.
          (ص) وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ: وَجَدْتُ مَنْبُوذًا، فَلَمَّا رَآنِي عُمَرُ ☺ قَالَ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا، كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي، قَالَ عَرِيفِي: إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، قَالَ: كَذَلكَ، اذْهَبْ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ.
          (ش) مطابقته للترجمة تُؤخَذ مِن قوله: (قَالَ عَرِيفِي: إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ، قَالَ: كَذَلكَ اذْهَبْ) فَإِنَّهُ يدلُّ على أنَّ عمر ☺ قَبِل تزكيةَ الواحد واكتفى به.
          و(أَبُو جَمِيلَةَ) بفتح الجيم وكسر الميم، واسمه سُنَيْنٌ؛ بِضَمِّ السين المُهْمَلة وبنونين أولاهما مفتوحةٌ مُخَفَّفَةٌ بينهما ياءٌ آخر الحروف، كذا ضبطه عبد الغنيِّ بن سعيدٍ والدَّارَقُطْنيُّ وابن ماكولا، وقال بعضهم: ووهم مَن شدَّد التحتانيَّة كالداوديِّ.
          قُلْت: كيف يَنسِب الداوديَّ إلى الوهم ولم يَنفرد هو بالتشديد، فإنَّ البُخَاريَّ ذكر في «تاريخه» كان ابن عُيَيْنة وسليمان بن كثيرٍ يُثقِّلان سُنَيِّنًا، واقتصر عليه ابنُ التين.
          وهذا التعليق رواه البُخَاريُّ عن إبراهيم بن موسى: حدَّثنا هشامٌ عن معمرٍ عن الزُّهْريِّ عن سُنَيْنٍ أبي جميلة، وأنَّه أدرك النَّبِيَّ صلعم وخرج / معه عامَ الفتح، وأنَّه التقطَ منبوذًا، فأتى عمرَ ☺ ، فسأل عنه، فأَثنى عليه خيرًا، وأنفق عليه مِن بيت المال، وجعل ولاءه له، وقال الكَرْمَانِيُّ: أبو جميلة سُنَينٌ، وقيل: مَيْسَرة _ضدُّ الميمنة_ ابن يعقوب الطُّهَويُّ؛ بِضَمِّ الطاء وفتح الهاء، وقيل: بسكونها، وقد يَفتحون الطاءَ مع سكون الهاء، ففيه ثلاثُ لغاتٍ، ورُدَّ عليه بأنَّ أبا جميلة الذي ذكره وترجمَه ليس بأبي جميلة المذكور في «البُخَاريِّ» فَإِنَّهُ تابعيٌّ طُهْوِيٌّ كوفيٌّ، وذاك صحابيٌّ عند الأكثرين وإن كان العِجْلِيُّ ذكره من التَّابِعينَ، واسمه سُنَيْن بن فَرْقَدٍ، وقال ابن سعدٍ: هو سُلميٌّ، وقال غيرُه: هو ضَمْريٌّ، وقيل: سَليطيٌّ، وذكره الذهبيُّ في «الصحابة» وقال: أبو جميلة سُنَينٌ السُّلَميُّ، أدرك النَّبِيَّ صلعم ، وحديثه في «التِّرْمِذيِّ» روى عنه الزُّهْريُّ.
          قُلْت: تفرَّد الزُّهْريُّ بالرواية عنه.
          قوله: (وَجَدْتُ مَنْبُوذًا) بفتح الميم وسكون النون وضمِّ الباء المُوَحَّدة وسكون الواو وفي آخره ذالٌ مُعْجَمةٌ، ومعناه: اللقيط.
          قوله: (فَلَمَّا رَآنِي عُمَرُ) أي: فلمَّا رآه عُمَرُ بن الخَطَّاب ☺ ؛ (قَالَ: عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا) كذا وقع في رواية الأصيليِّ وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشْميهَنيِّ، وسقط في رواية الباقين، وكذا رواه ابن أبي شَيْبَةَ فقال: حدَّثنا ابن عُلَيَّةَ عن الزُّهْريِّ: أنَّهُ سمع سُنَيْنًا أبا جميلة يقول: وجدتُ منبوذًا، فذكره عريفِي لعمرَ ☺ ، فأتيته فقال: هو حرٌّ، وولاؤه لك ورضاعُه علينا، ومعنى تمثيلِ عمرَ بهذا المَثَل (عسى الغُوَير أبؤسًا) : أنَّ عمر اتَّهمه أن يكون ولدَه، أتى به للفرض له في بيت المال، ويحتمل أن يكون ظنَّ أنَّهُ يُريد أن يُفرَض له ويلي أمرَه ويأخذَ ما يُفرَض له ويصنع ما شاء، فقال عمر هذا المثل، فلمَّا قال له عريفُه: إنَّهُ رجلٌ صالحٌ؛ صدَّقه، وقال الميدانيُّ في «مجمع الأمثال» تأليفه: «الغُوَير» تصغير «غار»، و«الأَبْؤُس» جمع «بؤس»، وهو الشدَّة، ويقال: «الأبؤُس» الداهية، وقال الأصمعيُّ: إنَّ أصل هذا المثل: أنَّهُ كان غارٌ فيه ناسٌ فانهار عليهم، أو قال: فأتاهم عدوٌّ فقتلهم فيه، فقيل ذلك لكلِّ مَن دخل في أمرٍ لا يَعرِف عاقبتَه، وفي «علل الخَلَّال» قال الزُّهْريُّ: هذا مثلٌ يضربُه أهلُ المدينة، وقال سفيان: أصلُه أنَّ ناسًا كان بينهم وبين آخرين حَرْبٌ، فقالت لهم عجوزٌ: احذروا واستعدُّوا مِن هؤلاء، فَإِنَّهُم يألونكم شرًّا، فلم يلبثوا أن جاءهم فزعٌ، فقالت العجوز: عسى الغُوَير أبؤسًا؛ تعني: لعلَّه أتاكم الناسُ مِن قِبَل الغُوَير؛ وهو الشِّعب، وقال الكلبيُّ: «غويرٌ» ماءٌ لكلبٍ معروفٌ في ناحية السماوة، وقال ابن الأعرابيِّ: «الغُوَير» طريق يَعبرون فيه، وكانوا يتواصَون بأن يحرسوه؛ لئلَّا يُؤتَوا منه، وروى الحربيُّ عن عَمْرٍو عن أبيه: أنَّ «الغُوَير» نفقٌ في حصن الزبَّاء، ويُقال: هذا مثلٌ لكل شيءٍ يُخَاف أن يؤتى منه شرٌّ، وانتصابُ «أبؤسًا» بعاملٍ مقدَّرٍ؛ تقديره: عسى الغُوَير يصير أَبْؤُسًا، وقال أبو عليٍّ: جعل «عسى» بِمعنى «كان» ونزَّله منزلتَه، يُضرَب للرجل يُقال له: لعلَّ الشرَّ جاء مِن قِبَلك، ويقال: تقديره: عسى أن يأتيَ الغوير بِشرٍّ.
          قوله: (كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي) أي: بأن يكون الولدُ له؛ كما ذكرنا: أن يكون قصدُه الفرضَ له مِن بيت المال.
          قوله: (قَالَ عَرِيفِي) (العريف) النقيب، وهو دون الرئيس، قال ابن بَطَّالٍ: وكان عمر ☺ قسَّم الناسَ أقسامًا، وجعل على كلِّ ديوانٍ عريفًا ينظر عليهم، وكان الرجلُ النابذُ مِن ديوان الذي زكَّاه عند عمر ☺ .
          قوله: (قَالَ: كَذَلكَ) ؛ أي: قال عمرُ لعريفه: هو صالحٌ مثل ما يقول، وزاد مالكٌ في روايته: قال: نعم؛ يعني: كذلك.
          قوله: (اذْهَبْ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ) وفي رواية مالكٍ: اذهبْ فهو حرٌّ، ولك ولاؤه وعلينا نفقتُه؛ يعني: مِن بيت المال، وقال ابن بَطَّالٍ في هذه القضيَّة: إنَّ القاضي إذا سأل في مجلس نظرِه عن أحدٍ فَإِنَّهُ يجتزِئ بقول الواحد؛ كما صنع عمر ☺ ، وأَمَّا إذا كُلِّف المشهود له أن يُعدِّل شهودَه، فلا يُقبَل أقلُّ مِن اثنين.
          وفيه: جواز الالتقاط وإن لم يشهد، وأنَّ نفقته إذا لم يُعرَف في بيت المال، وأنَّ ولاءه لملتقِطه.
          وفيه: أنَّ اللقيط حرٌّ، وقال قومٌ: إنَّهُ عبدٌ، وممَّن قال: (إنَّهُ حرٌّ) عليُّ بن أبي طالبٍ وعمرُ بن عبد العزيز وإبراهيم والشعبيُّ.