عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: إذا شهد شاهد أو شهود بشيء فقال آخرون
  
              

          ░4▒ (ص) بابٌ إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَوْ شُهُودٌ بِشَيْءٍ، فَقَالَ آخَرُونَ: مَا عَلِمْنَا ذَلِكَ؛ يُحْكَمُ بِقَوْلِ مَنْ شَهِدَ.
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذْكَرُ فيه إذا شهد شاهد بقضيَّة أو شهد شهودٌ بها، فقال جماعةٌ آخرون: ما علمنا بذلك، أراد به أنَّهم نفَوا ما أثبت الشهود الأوَّلون.
          قوله: (يُحْكَمُ بِقَوْلِ مَنْ شَهِدَ) جواب (إذا) وأراد به أنَّ الإثبات أولى مِنَ النفي؛ لأنَّ المثبت أولى وأقدم مِنَ النافي، قال بعضهم: وهو وِفاقٌ مِن أهل العلم.
          قُلْت: فيه خلافٌ، فقال الكَرخيُّ: المثبِت أَولى مِن النافي؛ لأنَّ المثبِت معتمدٌ على الحقيقة في خبره، فيكون أقرب إلى الصدق مِنَ النافي الذي يبني الأمر على الظاهر، ولهذا قيل: الشهادة على الإثبات دون النفي، ولأنَّ المثبِت يُثْبِت أمرًا زائدًا لم يكن فيفيد التأسيس، والنافي مبقٍ للأمر الأَوَّل، فيفيد التأكيد، والتأسيسُ أولى، وقال عيسى بن أَبَان: يتعارض المثبِت والنافي فلا يترجَّح أحدهما على الآخر إلَّا بدليلٍ مرجِّح، فلأجل هذا الاختلاف ذَكَرَ أصحابنا في ذلك أصلًا كلِّيًّا جامعًا يرجع إليه في ترجيح أحدهما، وهو أنَّ النفي لا يخلو إمَّا أن يكون مِن جنس ما يُعرف بدليله، بأن يكون مبناه على دليلٍ أو مِن جنس ما لا يُعرف بدليله، بأن يكون مبناه على الاستصحاب دون الدليل، أو احتمل الوجهان؛ فالأَوَّل مثل الإثبات فيقع التعارض بينهما لتساويهما في القوَّة، فيُطَلب الترجيح، ويعمل بالراجح، والثاني: ليس فيه تعارضٌ، فالأخذ بالمثبِت أولى، والثالث يُنْظَر في النفي، فإن تبيَّن أنَّهُ مِمَّا يُعرَف بالدليل يكون كالإثبات فيتعارضان، فيُطلَب الترجيح، وإن تبيَّن أنَّهُ بناء على الاستصحاب فالإثبات أولى، ولهذه الأقسام صورٌ موضعها في الأصول تركناها خوفًا مِنَ التطويل.
          (ص) قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: هَذَا كَمَا أَخْبَرَ بِلَالٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ، وَقَالَ الْفَضْلُ: لَمْ يُصَلِّ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِشَهَادَةِ بِلَالٍ ☺ .
          (ش) هذا مِن جملة الصور التي ذكرنا أنَّها ثلاثةُ أقسامٍ، وهو مِنَ القسم الذي لا يُعرَف النفيُ فيه إلَّا بظاهر الحال، فلا يُعارِض الإثباتَ، فلهذا أخذوا بشهادة بلالٍ: أنَّهُ صلَّى في جوف الكعبة عامَ الفتحِ، ورجَّحوا روايتَه على رواية الفضل بن عَبَّاسٍ: أنَّهُ لم يصلِّ، وإطلاقُ الشهادة على إخبارِ بلالٍ تَجَوُّزٌ.
          فَإِنْ قُلْتَ: الترجمة في قول الآخرين ما علمنا ذلك، والذي ذكره عن الحُمَيْديِّ صورةُ المنافيَين، فلا مطابقةَ؟
          قُلْت: معنى قول الفضل: (لم يصلِّ) ما علم أنَّهُ صلَّى، ولعلَّه كان مُشتغلًا بالدعاء ونحوه فلم يره صلَّى، فنفاه عملًا بظنِّه، وقد مضى هذا الذي علَّقه عن الحُمَيْديِّ _وهو عبد الله بن الزُّبَير بن عيسى بن عبد الله بن الزُّبَير بن عُبيد الله بن حُمَيدٍ_ بأتمَّ منه في (كتاب الزكاة) في (باب العشر) فَإِنَّهُ أخرجه هناك عن سعيد بن أبي مريمَ عن عبد الله بن وَهْبٍ.... الحديث، وقد مرَّ الكلام فيه هناك.
          (ص) كَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَشَهِدَ آخَرَانِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِ مِئَةٍ؛ يُقْضَى بِالزِّيَادِةَ.
          (ش) أي: كالحكم المذكور يُحكَم (إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ) بأنْ شهدا أنَّ لزيدٍ على عَمْرٍو مثلًا ألفَ درهمٍ، (وَشَهِدَ) شاهدان (آخَرَانِ) أنَّ له عليه ألفًا وخمس مئةِ درهمٍ؛ (يُقْضَى) أي: يُحكَم (بِالزِّيَادِةَ) أيضًا، وهي خمس مئةٍ؛ يعني: يُحكَم بألفٍ وخمسِ مئةٍ؛ لأنَّ عدم علم الغير لا يعارض علمَ مَن عَلِمَه، وفي بعض النُّسَخ: <يُعطَى بالزيادة> فالباء في (بالزيادة) على هذا زائدةٌ.
          وقيَّد بقوله: (وشهد آخران) لأنَّه لو شهدَ واحدٌ بالزيادة لا يلزم الزيادةُ إلَّا بشاهدٍ آخرَ، وفي تمثيل هذه المسألة بما قبله بقوله: (كَذَلِكَ) نظرٌ؛ لأنَّ ما قبله مشتملٌ على صورتين؛ إحداهما صورة ما علمنا، والثانية صورة المنافيَين، ولا تُطابق هذه المسألةُ الصورتين المذكورتين ولا واحدةً منهما.
          فَإِنْ قُلْتَ: شهادةُ الآخرين بألفٍ / وخمسِ مئةٍ تنافي شهادةَ الشاهدين بألفٍ ظاهرًا.
          قُلْت: لا نُسلِّم ذلك، بل كلُّهم متَّفقون في الألف، وإِنَّما انفرَدَ الآخَرانِ بالخمس مئة الزائدة، فثبتت الزيادة؛ لوجود نصابِ الشهادة، حَتَّى لو كان الذي يشهدُ بالزيادة واحدًا؛ لا يلزم الزيادة إلَّا بشاهدٍ آخرَ، كما ذكرنا.