عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب شهادة القاذف والسارق والزاني
  
              

          ░8▒ (ص) باب شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِي.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ حكم شهادة القاذف؛ وهو الذي يقذِفُ أحدًا بالزنى، وأصل (القَذْف) الرميُ، يقال: قَذَفَ يَقْذِفُ، مِن (باب ضرَب يضرِب) قَذْفًا، فهو قاذفٌ، ولم يصرِّح بالجواب؛ لمكان الخلاف فيه.
          (ص) وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}[النور:4-5].
          (ش) (وَقَوْلِ الله) مجرورٌ عطفًا على قوله: (شهادة القاذف) وأوَّله قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[النور:4-5] ظاهر الآية لا يدلُّ على الشيء الذي به رموا المحصنات، وذِكْر الرامي لا يدلُّ على الزنى؛ إذ قد يرميها بسرقة وشرب خَمْرٍ، فلا بُدَّ مِن قرينةٍ دالَّة على التعيين، وقد اتَّفق العلماء على أنَّ المراد الرمي بالزنى؛ لقرائن دلَّت عليه، وهي تَقَدُّم ذِكر الزنى، وذكرُ المحصنات _التي هي العفائف_ يدلُّ على أنَّ المراد بِالرمي بِضدِّ العفاف، وقوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} ومعلومٌ على أنَّ المراد مِنَ الشهود غيرُ مشروطٍ إلَّا في الزنى، والإجماع على أنَّهُ لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنى.
          قوله: {فَاجْلِدُوهُمْ} الخطاب للأئِمَّة.
          قوله: ({إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ}) هذا استثناءٌ منقطع؛ لأنَّ التائبين غير داخلين في صدر الكلام، وهو قوله: ({وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}) إذ التوبة تَجُبُّ ما قبلها مِنَ الذنوب، فلا يكون التائب فاسقًا، وأَمَّا شهادته فلا تُقبَل أبدًا عند الحَنَفيَّة؛ لأنَّ رَدَّ الشهادة مِن تتمَّة الحدِّ؛ لأنَّه يصلح جزاء فيكون مشاركًا للأَوَّل في كونه حدًّا، وقوله: ({وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}) لا يصلح جزاءً؛ لأنَّه ليس بخطابٍ للأئِمَّة، بل هو إخبارٌ عَن صفةٍ قائمة بالقاذفين، فلا يصلح مِن تمام الحدِّ؛ لأنَّه كلامٌ مبتدأ على سبيل الاستئناف، منقطعٌ عمَّا قبله؛ لعدم صحَّة عطفه على ما سبق؛ لأنَّ قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} جملة إخباريَّة ليس بخطاب للأئِمَّة، وما قبله جملةٌ إنشائيَّة خطابٌ للأئِمَّة، وكذا قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا} جملة إنشائيَّة خطاب للأئِمَّة، فيصلح أن يكون عطفًا على قوله: {فَاجْلِدُوا}، والشَّافِعِيُّ ☼ قطع قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا} عن قوله: {فَاجْلِدُوا} مع دليل الاتِّصال؛ وهو كونه جملةً إنشائيَّة صالحةً للجزاء، مفوَّضةً إلى الأئِمَّة مثل الأولى، وأوصل قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} مع قيام دليل الانفصال؛ وهو كونه جملةً اسْميَّةً غير صالحةٍ للجزاء، ثُمَّ إنَّهُ إذا تاب قُبِلَت شهادته عند الشَّافِعِيِّ، وعند أبي حنيفة رَدُّ شهادته يتعلَّق باستيفاء الحدِّ، فإذا شهد قبل الحدِّ، أو قبل تمام استيفائه؛ قُبِلَت شهادته، فإذا استوفى لم تُقبل شهادته أبدًا وإن تاب وكان مِنَ الأبرار الأتقياء، وعند الشَّافِعِيِّ / ردُّ شهادته متعلِّق بنفس القذف، فإذا تاب عَنِ القذف بأن يرجع عنه؛ عادَ مقبول الشهادة، وكلاهما متمسِّك بالآية على الوجه الذي ذكرناه، وقال الشَّافِعِيُّ: التوبة مِنَ القذف إكذابه نفسه، وقال الإصطخريُّ: معناه أن يقول: كذبت فلا أعود إلى مثله، وقال أبو إسحاق: لا يقول: كذبت؛ لأنَّه ربَّما كان صادقًا، فيكون قوله: «كذبتُ» كذبًا، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبةً عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطلٌ، ندمتُ على ما قلتُ، ورجعتُ عنه، ولا أعود إليه.
          قوله: {وَأَصْلَحُوا} قال أصحابنا: إنَّهُ بعد التوبة لا بدَّ مِن مضيِّ مدَّةٍ عليه في حسن الحال، وقدَّروا ذلك بسَنة؛ لأنَّ الفصول الأربعة تتغيَّر فيها الأحوال والطباع، كما في العِنِّين.
          قوله: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يقبل التوبة مِن كرمه.
          (ص) وَجَلَدَ عُمَرُ ☺ أَبَا بَكْرَةَ وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ وَنَافِعًا بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ، وَقَالَ: مَنْ تَابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ.
          (ش) (أَبو بَكْرَةَ) اسمه نُفَيع _مصغَّر نَفْعٍ بالفاء_ ابن الحارث بن كَلَدة _بالكافِ واللام والدَّال المُهْمَلة المفتوحات_ ابن عَمْرو بن علاج بن أبي سَلَمَةَ _واسمه: عبد العزَّى، ويقال: ابن عبد العزَّى_ ابن غَيرة بن عوف بن قَسيٍّ؛ وهو ثقيفٌ الثَّقَفيُّ، صاحب رسول الله صلعم ، وقيل: كان أبوه عبدًا للحارث بن كَلَدة، فاستلحقه الحارث، وهو أخو زيادٍ لأمِّه، وكانت أمُّهما سميَّةُ أَمَةً للحارث بن كَلَدة، وإِنَّما قيل له: أبو بكرة؛ لأنَّه تدلَّى إلى النَّبِيِّ صلعم ببَكرةٍ مِن حصن الطائف، فكُنيَ أبا بكرة، فأعتقه رسول الله صلعم يومئذٍ، رويَ له عَن رسول الله صلعم مئةُ حديثٍ واثنان وثلاثون حديثًا، اتَّفقا على ثمانية، وانفرد البُخَاريُّ بخمسةٍ، ومسلمٌ بحديثٍ، وكان ممَّن اعتزل يوم الجمل، ولم يقاتل مع أحد مِنَ الفريقين، مات بالبصرة سنة إحدى وخمسين، وصلَّى عليه أبو بَرْزة الأسلميُّ ☺ .
          و(شِبْلٌ) بكسر الشين المُعْجَمة وسكون الباء المُوَحَّدة (ابْنُ مَعْبَد) بفتح الميم وسكون العين المُهْمَلة وفتح الباء المُوَحَّدة، ابن عبيد بن الحارث بن عَمْرو بن عليِّ بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار البجليُّ، قاله الطَّبَريُّ، وهو أخو أبي بكرة لأمِّه، وهم أربعة إخوةٍ لأمٍّ واحدة اسمها سُمَيَّة، وقد ذكرناها الآن، وقال بعضهم: ليست له صُحبة، وكذا قال يحيى بن مَعِين، روى له التِّرْمِذيُّ، و(نَافِعُ) ابن الحارث أخو أبي بكرة لأمِّه، نزلا مِنَ الطائف فأسلما وله رواية، قاله الذهبيُّ، وقال الكَرْمَانِيُّ: الثلاثة _يعني: أبا بكرة وشبل بن مَعْبَد ونافعًا_ إخوةٌ صحابيُّون شهدوا مَعَ أخٍ آخر لأبي بكرة اسمه: زياد، على المغيرة فَجُلِد الثلاثةُ، وزياد ليست له صحبة ولا رواية، وكان مِن دُهَاة العرب وفُصَحائهم، مات سنة ثلاثٍ وخمسين، وقصَّتهم رُوِيَت مِن طُرُقٍ كثيرة، ومُحصَّلُها: أنَّ المغيرة بن شعبة كان أميرَ البصرة لعمر بن الخَطَّاب ☺ ، فأَتْهَمَه أبو بَكرةَ وشِبْلٌ ونافعٌ وزيادٌ _الذي يقال له: زياد بن أبي سفيان، وهم إخوة من أمٍّ تسمَّى سُميَّة، وقد ذكرناها_ فاجتمعوا جميعًا، فرأوا المغيرة متبطِّنَ المرأة _وكان يقال لها: الرَّقْطاء، أمُّ جميل بنت عَمْرو بن الأفقم الهلاليَّة، وزوجها الحَجَّاج بن عتيك بن الحارث بن عوف الجُشَميُّ_ فرحلوا إلى عمر ☺ فشَكَوه، فعزله عُمَر وولى أبا موسى الأشعريَّ، وأحضر المغيرة فشهد عليه الثلاثة بالزِّنى، وأَمَّا زياد فلم يُثَبِّت الشهادة، وقال: ورأيت منظرًا قبيحًا، وما أدري أخالطها أم لا؟ فأمر عمر بجلدِ الثلاثة حدَّ القذف، وروى الحاكم في «المستدرك» مِن طريق عبد العزيز بن أبي بكرة القصَّة مطوَّلَةً، وفيها: فقال زياد: رأيتهما في لحافٍ وسمعتُ نفسًا عاليًا، ولا أدري ما وراء ذلك، والتعليق الذي رواه البُخَاريُّ وصله الشَّافِعِيُّ في «الأمِّ» عَن سفيان قال: سمعتُ الزُّهْريَّ يقول: زعم أهل العراق أنَّ شهادة المحدود لا تجوز، / فأشهد لَأَخْبَرَنِي فلان أنَّ عُمَر بن الخَطَّاب ☺ قال لأبي بكرة: تُبْ وأقبلُ شهادتك، قال سفيان: سمَّى الزُّهْريُّ الذي أخبره فحفظته ثُمَّ نسيته، فقال لي عُمَر بن قيس: هو ابن المُسَيَِّبِ، وروى سليمان بن كثير عَنِ الزُّهْريِّ عَن سعيدٍ أنَّ عمر قال لأبي بكرة وشبل ونافعٍ: مَن تاب منكم قبلت شهادته.
          قُلْت: قال الطَّحَاويُّ: ابن المُسَيَِّبِ لم يأخذه عَن عمر ☺ إلَّا بلاغًا؛ لأنَّه لم يصحَّ له عنه سماعٌ، وروى أبو داود الطَّيَالِسِيُّ وقال: حدَّثنا قيس بن سالم الأفطس عن قيس بن عاصم قال: كان أبو بكرة إذا أتاه رجلٌ لِيُشْهِدَهُ قال: أشهِد غيري، فإنَّ المسلمين قد فَسَّقوني، والدليل على أنَّ الحديث لم يكن عند سعيدٍ بالقويِّ، أنَّهُ كان يذهب إلى خلافه، روى عنه قتادة وعن الحسن أنَّهما قالا: القاذفُ إذا تاب توبةً فيما بينه وبين ربِّه ╡ لا تُقبَل له شهادة، ويستحيل أن يسمعَ مِن عمر شيئًا بحضرة الصحابة، ولا ينكرونه عليه ولا يخالفونه، ثُمَّ يتركه إلى خلافه، وذكر الإسماعيليُّ في كتابه «المدخل»: إذا لم يثبت هذا، كيف رواه البُخَاريُّ في «صحيحه»؟
          وأجيب: بأنَّ الخبر مخالفٌ للشهادة، ولهذا لم يتوقَّف أحدٌ مِن أهل المِصْرَين عن الرواية عنه، ولا طعن أحدٌ على روايته مِن هذه الجهة مع إجماعهم أنَّ لا شهادة لمحدودٍ في قذفٍ غير ثابت، فصار قبول خبره جاريًا مجرى الإجماع، وفيه ما فيه.
          (ص) وَأَجَازَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُتْبَةَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَطاوُوس وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْريُّ وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ وَشُرَيْحٌ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ.
          (ش) أي: وأجاز الحُكْمَ المذكورة؛ وهو قبول شهادة المحدود في القذف.
          (عَبْدُ اللهِ بْنُ عُتْبَةَ) بِضَمِّ العين المُهْمَلة وسكون التاء المُثَنَّاة مِن فوق، ابن مسعودٍ الهُذليُّ، ووصله الطَّبَريُّ مِن طريق عِمْرَان بن عُمَيْر قال: كان عبد الله بن عُتْبَة يجيزُ شهادة القاذف إذا تاب، و(عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الخليفة المشهور، وصله الطَّبَريُّ والخلَّال مِن طريق ابن جُرَيْج عن عِمْرَان بن موسى: سمعت عُمَر بن عبد العزيز أجاز شهادة القاذف ومعه رجلٌ، ورواه عبد الرَّزَّاق عن ابن جُرَيْج فزاد مع عُمَر بن عبد العزيز أبا بَكْر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم.
          قوله: (وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ) التَّابِعِيُّ المشهور، وصله الطَّبَريُّ مِن طريقه بلفظ: تقبل شهادة القاذف إذا تاب.
          قوله: (وَطاوُوس) هو ابن كَيْسان اليمانيُّ (وَمُجَاهِدٌ) ابن جَبْرٍ المَكِّيُّ، وصل ما رُوِي عنهما سعيدُ بن منصور والشَّافِعِيُّ والطَّبَريُّ مِن طريق ابن أبي نَجِيح قال: القاذف إذا تاب تُقبَلُ شهادته، قيل له: مَن يقوله؟ قال: عطاءٌ وطاووس ومجاهدٌ.
          قوله: (وَالشَّعْبِيُّ) هو عامر بن شَرَاحيل، وصل ما رُويَ عنه الطَّبَريُّ مِن طريق ابن أبي خالدٍ عنه أنَّهُ كان يقول: إذا تاب قُبِلَت.
          قوله: (وَعِكْرِمَةُ) هو مولى ابن عَبَّاسٍ، وصل ما رُوِيَ عنه البغويُّ في «الجَعْديَّات» عَن شعبة عن يونس هو ابن عُبَيد عَن عِكْرِمَة قال: إذا تاب القاذف قُبِلت شهادته.
          قوله: (وَالزُّهْريُّ) هو مُحَمَّد بن مسلم بن شهاب، وصل ما رُوِي عنه ابن جرير عنه أنَّهُ قال: إذا حُدَّ القاذف فَإِنَّهُ ينبغي للإمام أن يَسْتَتِيْبَهُ، فإن تاب قُبِلَت شهادته، وإلَّا لم تُقْبَل.
          قوله: (وَمُحَارِبُ) بِضَمِّ الميم وبالحاء المُهْمَلة وكسر الراء، (ابْنُ دِثَارِ) بكسر الدال المُهْمَلة وتخفيف الثاء المُثَلَّثة، الكوفيُّ قاضيها، (وَشُرَيْحٌ) بِضَمِّ الشين المُعْجَمة القاضي، (وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ) ابن إياس البِصْريُّ. أدرك جماعة مِنَ الصحابة، وقال بعضهم: هؤلاء الثلاثة مِن أهل الكوفة.
          قُلْت: لا نسلِّم قوله: إنَّ معاوية مِن أهل الكوفة، بل هو مِن أهل البصرة، ولم يُرْوَ عن أحدٍ منهم التصريحُ بقبول شهادة القاذفِ، وهؤلاء أحد عشر نفسًا ذكرهم البُخَاريُّ تقويةً لمذهب مَن يرى بقبول شهادةِ القاذف، ورَدًّا لمذهب مَن لا يرى بذلك، ومَن لا يرى بذلك أيضًا رووا عن ابن عَبَّاسٍ، ذكره ابن حزمٍ عنه بسندٍ جَيِّد مِن طريق ابن جُرَيْج عن عطاءٍ الخراسانيِّ عنه أنَّهُ قال: شهادة القاذف لا تجوز وإن تابَ، وهذا واحدٌ يساوي هؤلاء المذكورين، بل يفضل عليهم، وكفى به حجَّةً.
          وقال / ابن حزمٍ أيضًا: وصحَّ ذلك أيضًا عَنِ الشعبي في أحدِ قوليه، والحسن البِصْريِّ ومجاهد في أحد قوليه، وعِكرمة في أحد قوليه، وشُرَيح وسفيان بن سعيد، [وروى ابن أبي شَيْبَةَ في «مصنَّفه»: حَدَّثَنَا أبو داود الطَّيَالِسِيُّ عَن حمَّاد بن سلمة عن قتادة عن الحسن وسعيد بن المُسَيَِّبِ] قالا: لا شهادة له، وتوبته بينه وبين الله تعالى، وهذا سندٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ، وروى البَيْهَقيُّ مِن حديث المُثَنَّى بن الصَّبَّاح وآدم بن فائد عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أبيه عن جدِّه: أنَّ رسول الله صلعم قال: «لا تجوز شهادة خائنٍ ولا محدودٍ في الإسلام».
          فَإِنْ قُلْتَ: قال البَيْهَقيُّ: آدم والمُثَنَّى لا يُحتَجُّ بهما.
          قُلْت: في «مصنَّف ابن أبي شَيْبَةَ»: حدَّثنا عبد الرحيم بن سليمان عن حَجَّاجٍ عن عَمْرو بن شُعَيْب عن أبيه عَن جدِّه قال: قال رسول الله صلعم : «المسلمون عدولٌ بعضهم على بعضٍ إلَّا محدودًا في قذف»، فقد تابع الحَجَّاجَ _وهو ابن أرطاة_ آدمُ والمُثَنَّى، والحَجَّاج أخرج له مسلمٌ مقرونًا بآخر، ورواه أبو سعيدٍ النَّقَّاش في «كتاب الشهود» تأليفه مِن حديث حَجَّاجٍ ومُحَمَّد بن عُبيد الله العَرْزَميِّ وسليمان بن موسى عن عَمْرو بن شُعَيْب، ورواه أحمد بن موسى بن مردويه في «مجالسه» مِن حديث المُثَنَّى عن عَمْرٍو عن أبيه عن عبد الله بن عَمْرو.
          (ص) وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: الأَمْرُ عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ إِذَا رَجَعَ الْقَاذِفُ عَنْ قَوْلِهِ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.
          (ش) (أَبُو الزِّنَادِ) بكسر الزاي وتخفيف النون، عبد الله بن ذكوان، وهذا التعليق وصله سعيدُ بن منصور مِن طريق حصين بن عبد الرَّحْمَن قال: رأيتُ رجلًا جُلِدَ حدًّا في قذفٍ بالزِّنى، فلمَّا فُرِغَ مِن ضربه أَحْدَث توبة، فلقيت أبا الزناد، فقال لي: الأمر عندنا... فذكره.
          (ص) وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.
          (ش) (الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، وصل ما رُوِيَ عنه ابن أبي حاتمٍ مِن طريق داود بن أبي هندٍ عَنِ الشعبيِّ قال: إذا أكذب القاذف نفسه قُبِلَت شهادته.
          قُلْت: قد صحَّ عَن الشعبيِّ في أحد قوليه: إنَّهُ لا تُقبل، وقد ذكرناه الآن عَن ابن حزمٍ.
          (ص) وَقَالَ الثَّوْريُّ: إِذَا جُلِدَ الْعَبْدُ ثُمَّ أُعْتِقَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنِ اسْتُقْضِيَ الْمَحْدُودُ فَقَضَايَاهُ جَائِزَةٌ.
          (ش) أي: قال سفيان الثَّوْريُّ...، رواه عنه في «جامعه» عبدُ الله بن الوليد العَدَنيُّ، وروى عبد الرزَّاق عَنِ الثَّوْريِّ عَن واصل عن إبراهيم قال: لا تقبل شهادة القاذف، توبتُهُ فيما بينه وبين الله، وقال الثَّوْريُّ: ونحن على ذلك.
          (ص) وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ.
          (ش) أراد ببعض الناسِ أبا حنيفة، فيما ذهب إليه، ولكن هذا لا يمشي ولا يَبرد به قلبُ المتعصِّب، فإنَّ أبا حنيفة مسبوقٌ بهذا القول، وليس هو بمخترعٍ به، وقد ذكرنا عَن قريبٍ عَن ابن عَبَّاسٍ ☻ نحوه، وعَن جماعةٍ مِنَ التَّابِعينَ، وقد ذكرناهم، وقال بعضهم: وهذا منقولٌ عَنِ الحَنَفيَّة؛ يعني: عدمَ قبول شهادة المحدود في القذف، وقال: واحتجُّوا في ذلك بأحاديث، قال الحفَّاظ: لا يصحُّ شيءٌ منها، وأشهرُها حديثُ عَمْرو بن شُعَيْب عَن أبيه عَن جدِّه مرفوعًا: «لا تجوز شهادة خائنٍ ولا خائنة ولا محدودٍ في الإسلام»، أخرجه أبو داود وابن ماجه، ورواه التِّرْمِذيُّ مِن حديث عائشة نحوه، وقال: لا يصحُّ، وقال أبو زُرْعَةَ: منكر.
          قُلْت: قد مرَّ عَن قريبٍ حديث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أبيه عَن جدِّه، أخرجه ابن أبي شَيْبَةَ أيضًا في «مصنَّفه» وقد مرَّ الكلام فيه هناك، ولمَّا أخرجه أبو داود سكتَ عنه، وهذا دليلُ الصحَّة عنده.
          (ص) ثُمَّ قَالَ: لَا يَجُوزُ نِكَاحٌ بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ مَحْدُودَيْنِ جَازَ، وَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ.
          (ش) أي: ثُمَّ قال بعضُ الناس المذكورَ، وأراد به إثباتَ التناقض فيما ذهب إليه أبو حنيفة، ولكن لا يمشي أصلًا؛ لأنَّ حالة التحمُّل لا تشترط العدالة؛ كما ذُكِرَ عن بعضِ الصحابة أنَّهُ تحمَّل في حال كُفْرِه، ثُمَّ أدَّى بعد إسلامه؛ وذلك لأنَّ الغرض شهرة / النكاح، وذلك حاصلٌ بالعدل، وغيره عند التحمُّل، وأَمَّا عند الأداء فلا يُقبَل إلَّا العدل.
          قوله: (فَإِنْ تَزَوَّجَ...) إلى آخره أيضًا إثبات التناقض فيه، وليس فيه تناقضٌ؛ لأنَّ عدم جواز النكاح بغير شاهدين بالنصِّ، وأَمَّا التزوُّج بشهادة محدودين فقد ذكرنا أنَّ المراد مِن ذلك شهرة النكاح، وذلك حاصلٌ بشهادة المحدودين، وأَمَّا عدم جواز التزوُّج بشهادة عبدين؛ فلأنَّ الأصل فيه أنَّ كلَّ مَن ملكَ القبول بنفسه انعقد العقدُ بحضوره، ومَن لا فلا، فإذا كان كذلك لا ينعقدُ بحضور عبدين أو صبيين أو مجنونين، فمِن أين التناقض يرد؟ ومِن أين يجيء الاعتراض الصادر مِن غير تأمُّل في دقائق الأشياء؟
          (ص) وَأَجَازَ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ وَالْعَبْدِ وَالأَمَةِ لِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ.
          (ش) أي: أجازَ بعضُ الناس المشارُ إليه... إلى آخره، وهذا الاعتراض أيضًا ليس بشيءٍ أصلًا؛ وذلك لأنَّ أبا حنيفة أَجرى ذلك مُجرَى الخبر، والخبرُ يخالف الشهادة في المعنى؛ لأنَّ المخبِر له دخَل في حُكمِ ما شهِد به، وقال بهذا أيضًا غيرُ أبي حنيفة، وقال صاحب «التوضيح»: هذا غلطٌ؛ لأنَّ الشاهد على هلال رمضان لا يزول عنه اسم شاهدٍ، ولا يسمِّى مخبِرًا، فحكمه حكمُ الشاهد في المعنى لاستحقاقه ذلك بالاسم، وأيضًا فإنَّ الشهادة على هلالِ رمضان حُكمٌ مِنَ الأحكام، ولا يجوز أن يُقبَل في الأحكام إلَّا مَن تجوز شهادته في كلِّ شيءٍ، ومَن جازت شهادته في هلال رمضان، ولم تَجُز في القذف؛ فليس بعدلٍ، ولا هو ممَّن يُرضى؛ لأنَّ الله تعالى إِنَّما تعبَّدنا مَن نَرضى مِن الشهداء انتهى.
          قُلْت: هذا تطويل الكلام بلا فائدة، وكلامٌ مبنيٌّ على غير معرفة بدقائق الأشياء، وقوله: (الشاهد على هلال رمضان لا يزول عنه اسم الشاهد، ولا يسمى مخبرًا) تحكُّمٌ زائد، وعدم زوال اسم الشاهد عَنِ الشاهد على هلال رمضان لا عقليٌّ ولا نقليٌّ، فمَن ادَّعى ذلك فعليه البيان، ونفي الإخبار عَن شاهد هلال رمضان غيرُ صحيحٍ على ما لا يخفى.
          وقوله: (وحكمه حكم الشاهد في المعنى) يناقض كلامه الأَوَّل؛ لأنَّه قال: (لا يسمَّى مخبرًا) ثُمَّ كيف يقول: (فحكمه) ؟ أي: فحكم هذا المخبر حكم الشاهد في المعنى، ونحن أيضًا نقول بذلك، ولكنَّه ليس بشهادةٍ حقيقة؛ إذ لو كانت شهادة حقيقة؛ لما جاز الحكم بشهادة واحدٍ في هلال رمضان، مع أنَّهُ يُكتَفى بشهادة واحدٍ عند اعتلال المطلعِ بشيءٍ، وهو قولٌ عند الشَّافِعِيِّ أيضًا، وروايةٌ عَن أحمد، والله تعالى تَعَبَّدنا بمَن نَرضى مِنَ الشهداء عند الشهادات الحقيقيَّة، والإخبار بهلال رمضان ليس مِن ذلك، والله أعلم.
          (ص) وَكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ؟ وَقَدْ نَفَى النَّبِيُّ صلعم الزَّانِيَ سَنَةً.
          (ش) هذا مِن كلام البُخَاريِّ، وهو مِن تمام الترجمة، قال الكَرْمَانِيُّ: هذا عطفٌ على أَوَّل الترجمة، وكثيرًا ما يفعل البُخَاريُّ مثله، يُردِفُ ترجمةً على ترجمةٍ وإن بَعُدَ ما بينهما.
          قوله: (وَكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ؟) أي: كيف تُعرَفُ توبة القاذف؟ وأشار بذلك إلى الاختلاف؛ فقال أكثر السلف: لا بدَّ أن يُكَذِّب نفسَه، وبه قال الشَّافِعِيُّ، رُوِيَ ذلك عن عُمَر ☺ ، واختاره إسماعيل بن إسحاق، وقال: توبته أن يزداد خيرًا، ولم يشترط إكذابَ نفسه في توبته؛ لجواز أن يكون صادقًا في قَذفِه، وإلى هذا مال البُخَاريُّ كما نذكره الآن، وهو استدلاله على ذلك بقوله: (وقد نفى النَّبِيُّ صلعم الزاني سنةً) أي: قد نفاه عَنِ البلد، وهو التغريب، ولم يُنقَل عنه صلعم أنَّهُ شَرَط على الزاني تكذيبَه لنفسه واعترافَه بأنَّه عصى الله ╡ في مدَّة تغريبه، وسيأتي نفيُ الزاني موصولًا في آخر الباب.
          (ص) وَنَهَى النَّبِيُّ صلعم عَنْ كَلَامِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ حَتَّى مَضَى خَمْسُونَ لَيْلَةً.
          (ش) هذا أيضًا مِن جملة ما يستدلُّ بِه البُخَاريُّ على ما ذهب إليه مثل ما ذهب مالك، بيانه أنَّهُ صلعم لمَّا نهى عَن كلامِ كعب بن مالكٍ / وصاحبيه هما مرارة بن الربيع وهلال بن أميَّة {الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ}[التوبة:118] لم يُنْقَل عنه أنَّهُ شرط عليهم ذلك في مدَّة الخمسين، وقِصَّة كعبٍ ستأتي بطولها في آخر (تفسير براءة) و(غزوة تبوك)، وقال الكَرْمَانِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: ما وجه تعلُّق قصَّتهم بالباب؟ قُلْت: تخلَّفوا عَن رسول الله صلعم في غزوة تبوك، والتخلُّف عنه بدون إذنه معصية؛ كالسرقة ونحوها.