عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود
  
              

          ░20▒ (ص) بابُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان أنَّ اليمين على المدَّعى عليه دون المدَّعِي.
          قوله: (فِي الأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ) يعني: سواءٌ كان اليمين الذي على المدَّعى عليه في الأموال أو الحدود، وأراد به أنَّ هذا الحكم عامٌّ، وقال بعضهم: يشير به إلى الردِّ على الكوفيِّين في تخصيصهم اليمين على المدَّعى عليه في الأموال دون الحدود.
          قُلْت: هذه الترجمة مشتملةٌ على حكمين:
          الأَوَّل: أنَّ اليمين على المدَّعَى عليه وهو يستلزم شيئين:
          أحدهما: ألَّا يجب يمين الاستظهار، وفيه اختلاف العلماء؛ وهو أنَّ المدَّعِي إذا أثبت ما يدَّعيه ببيِّنة فللحاكم أن يستحلفه أنَّ بيِّنته شهدت بحقٍّ، وإليه ذهب شريح وإبراهيم النَّخَعِيُّ والأوزاعيُّ والحسن بن حيٍّ، وقد روى ابن أبي ليلى عن الحكم عَن حسنٍ: أنَّ عليًّا ☺ استحلف عبدَ الله بن الحُرِّ مع بيِّنته، وذهب مالكٌ والكوفيُّون والشَّافِعِيُّ وأحمد إلى أنَّهُ لا يمين عليه، وقال إسحاق: إذا استراب الحاكم أوجبَ ذلك، والحجَّة لهم حديث ابن مسعودٍ الذي مضى في الباب السابق مِن حيث إنَّهُ صلعم لم يقل للأشعثِ: تحلف مع البيِّنة، فلم يوجب على المدَّعي غير البيِّنة، وأيضًا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} الآية[النور:4] فأبرأه الله تعالى مِنَ الجلد بإقامة أربعة شهداء مِن غير يمين.
          والآخر: ألَّا يصحَّ القضاء بشاهدٍ واحدٍ ويمين المدَّعي؛ لأنَّ الشارع جعل اليمين على المدَّعَى عليه، وفيه اختلاف أيضًا [نذكره عَن قريبٍ.
          والحكم الثاني: أنَّ اليمين على المدَّعَى عليه في الأموال والحدود، وفيه اختلاف أيضًا]
؛ فذهب الشَّافِعِيُّ ومالكٌ وأحمد إلى القول بعموم ذلك في الأموال والحدود والنكاح ونحوه، واستثنى مالكٌ النكاح والطلاق والعتاق والفدية، فقال: لا يجب في شيءٍ منها اليمين حَتَّى يقيم المدَّعي البيِّنة، ولو شاهدًا واحدًا، وقال الكوفيُّون: يختصُّ اليمين بالمدَّعَى عليه في الأموال دون الحدود، وفي «التوضيح»: قام الإجماع على استحلاف المدَّعَى عليه في الأموال، واختلفوا في الحدود والطلاق والنكاح والعتق، فذهب الشَّافِعِيُّ إلى أنَّ اليمين واجبةٌ على كلِّ مدَّعًى عليه إذا لم يكن للمدَّعِي بيِّنة، وسواء كانت الدعوى في دمٍ أو جِراح أو طلاق أو نكاح أو عتق أو غير ذلك، واحتجَّ بحديث الباب: «شاهداك أو يمينه»، قال: ولم يخصَّ مدَّعِي مالٍ دون مدَّعي دمٍ أو غيره، بل الواجب أن يُحمَل على العموم، ألَا يُرى أنَّهُ جعل القسامة في دعوى الدم، وقال للأنصار: «يُبرئكم يهودُ / بخمسين يمينًا؟» والدم أعظم حرمةً مِنَ المال، وقال الشَّافِعِيُّ وأبو ثور: إذا ادَّعت المرأة على زوجها خلعًا أو طلاقًا، وجحد الزوج الطلاق؛ فعليها البيِّنة، وإلَّا يُستَحلَف الزوج، وإن ادَّعى الخلع على مالٍ فأنكرت؛ فإن أقام البيِّنة لزمها المال، وإلَّا حُلِّفت ولزم الزوج الفراق؛ لأنَّه أقرَّ به، وإن ادَّعى العبد العتق ولا بيِّنة له؛ يُسْتَحْلَف السيِّد، فإن حلف برئ، وإن ادَّعى السَّيِّد أنَّهُ أعتقه على مالٍ، وأنكر العبد؛ حُلِّف، ولزم السيِّدَ العتقُ، وكان أبو يوسف ومُحَمَّد يريانِ بأن يُستَحْلَفَ على النكاح، فإن أبى أُلزِم النكاح.
          قُلْت: مذهب أبي حنيفة: أنَّ المدَّعَى عليه لا يُسْتَحلف في نكاح؛ بأن يدَّعي على امرأة نكاحًا وهي تجحد، أو ادَّعت هي كذلك وهو يجحد، [ولا في رَجعةٍ؛ بأن ادَّعى بعد انقضاء عدَّتها أنَّهُ كان راجعها في العدَّة، وهي تجحد، أو ادَّعت هي كذلك] وهو يجحد، ولا في فيءٍ في الإيلاء؛ بأن ادَّعى بعد مضيِّ مدَّة الإيلاء أنَّهُ فاء إليها في المدَّة وهي تجحدُ، أو ادَّعت المرأة كذلك وجحد هو، ولا في استيلادٍ؛ بأن ادَّعت الأَمَة على سيِّدها أنَّها ولدت منه، وأنكر المَولَى، ولا يتصوَّر العكس مِن قبله عليها؛ لأنَّ الاستيلاد يثبت بإقراره، ولا في رِقٍّ؛ بأن ادَّعى على مجهول النسب أنَّهُ عبده، أو ادَّعى مجهولُ النسب أنَّهُ معتقه، ولا في نسبٍ؛ بأن ادَّعى الولد على الوالد أو الوالد على الولد، وأنكر الآخر، ولا في الولاء؛ بأن ادَّعى على معروفِ النسب أنَّهُ معتقه، أو ادَّعى معروف النسب أنَّهُ معتقه، أو كان ذلك في الموالاة، وقال أبو يوسف ومُحَمَّد: يستحلف في الكلِّ، وبه قال الشَّافِعِيُّ ومالك وأحمد، ولا يستحلف باتِّفاق أصحابنا في الحدِّ؛ بأن قال رجلٌ لآخر: لي عليك حدُّ قذفٍ، وهو ينكر، لا يستحلف؛ لأنَّه يندرئ بالشبهات، إلَّا إذا تضمَّن حقًّا؛ بأن علَّق عتق عبده بالزنى، وقال: إن زنيتَ فأنت حرٌّ، فادَّعى العبد أنَّهُ زنى، ولا بيِّنة له عليه؛ يُستَحلف المولى، حَتَّى إذا نكل ثبت العتق دون الزنى، وقال القاضي الإمام فخر الدين المعروف بقاضيخان: الفتوى على أنَّهُ يُستَحلف المنكِر في الأشياء الستَّة المذكورة، وذكر ابن المنذر عن الشعبيِّ والثَّوْريِّ وأصحاب الرأي إلى أنَّهُ لا يُستَحلف على شيءٍ مِنَ الحدود، ولا على القذف، وقالوا: يُستَحلف على السرقة، فإن نكل لَزِمَهُ المال، وعند مالكٍ: لا يمين في النكاح والطلاق والعتق والفرقة إلَّا أن يُقيمَ المدَّعِي شاهدًا واحدًا، فإذا أقامه استُحلِف المدَّعى عليه، وقال ابن حبيب: إذا أقامت المرأة أو العبد شاهدًا واحدًا على أنَّ الزوج طلَّقها، أو أنَّ السيِّد أعتقه؛ فاليمين تكون على السيِّد والزوج، فإن حَلَفَا سقط عنهما الطلاق والعتق، وهذا قول مالكٍ وابن الماجشون وابن كِنانة، وقال في «المدوَّنة»: فإن نكل قضى بالطلاق والعتق، ثُمَّ رجع مالكٌ فقال: لا يقضي بالطلاق ويُسجن، فإن طال سجنه دِينَ وتُرِك، وبه قال ابن القاسم، وطولُ السجن عنده سنة.
          (ص) وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ».
          (ش) وصل البُخَاريُّ هذا التعليق في آخر الباب مِن حديث الأشعث بن قيس، وهذا صريحٌ أنَّ الذي على المدَّعِي البيِّنة، والذي على المدَّعَى عليه اليمين، فيقتضي منع يمين المدَّعِي عند الرَّدِّ عليه، ويمين الاستظهار أيضًا كما ذكرنا.
          وارتفاع (شاهِداكَ) على أنَّهُ خبر مبتدأ محذوفٍ؛ تقديره: المُثبِتُ لدعواك أو الحجَّةُ لك شاهداك، ويجوز أن يكون مرفوعًا على الابتداء، وخبره محذوفٌ؛ تقديره: شاهداك هو المطلوب في دعواك، أو شاهداك هما المثبِتَان لدعواك، ونحو ذلك.
          (ص) وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ: كَلَّمَنِي أَبُو الزِّنَادِ فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي، فَقُلْت: قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}[البقرة:28] قُلْت: إِذَا كَانَ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي؛ فَمَا يُحْتَاجُ أَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، مَا كَانَ يُصْنَعُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأُخْرَى؟
          (ش) كذا هكذا في كثيرٍ مِنَ النُّسَخ: (قَالَ قُتَيْبَةُ) معلَّقًا، وفي بعضها: <حدَّثنا قُتيبة> وكذا نُقِلَ عَن الشيخ قطب الدين الحلبيِّ / الشارح، وقال صاحب «التلويح»: وكأنَّ الأَوَّل أظهر؛ لأنَّ البُخَاريَّ لم يحتجَّ في «صحيحه» بابن شُبْرُمَة.
          و(ابنُ شُبْرُمَةَ) هو عبد الله بن شُبْرُمَة _بِضَمِّ الشين المُعْجَمة وسكون الباء المُوَحَّدة والراء المضمومة_ ابن الطُّفيل بن حسَّان الضبيُّ، أبو شُبْرُمَة الكوفيُّ القاضي، فقيه أهل الكوفة، عِدَاده في التَّابِعينَ، وكان عفيفًا صارمًا عاقلًا فقيهًا، يُشبه النُّسَّاك، ثقةً في الحديث، شاعرًا، حسن الخلق، استشهد به البُخَاريُّ في «الصحيح» وروى له في (الأدب) وروى له مسلمٌ وأبو داود وابن ماجه، مات سنة أربعٍ وأربعين ومئة، وروى عَن أبي حنيفة حديثًا واحدًا.
          و(أَبُو الزِّنَادِ) بكسر الزاي وتخفيف النون، واسمه عبد الله بن ذَكوان، القرشيُّ المَدَنِيُّ قاضي المدينة، قال العِجْلِيُّ: مدنيٌّ تابعيٌّ ثقة، سمع مِن أنس بن مالكٍ، مات سنة ثلاثين ومئة.
          قوله: (إِذَا كَانَ) شرط، وقوله: (فَمَا يُحْتَاج) جزاءٌ، وكلمة (ما) نافية، بخلافِ قوله: (مَا كَانَ؟) فَإِنَّهُا استفهاميَّة، والفعلان _أعني: (يُحتَاجُ) و(يُصْنَعُ) _ بلفظ المجهول؛ أي: إذا جاز الكفاية على شاهدٍ ويمين؛ فلا احتياج إلى تذكير إحداهما الأخرى؛ إذ اليمين تقوم مقامها، فما فائدة ذِكر التذكير في القرآن؟ وقال الكَرْمَانِيُّ: فائدته تتميم شاهدٍ؛ إذ المرأة الواحدة لا اعتبار لها؛ لأنَّ المرأتين كرجلٍ واحدٍ انتهى.
          قُلْت: هذا كلامٌ عجيبٌ! كأنَّه مخترَعُ مِن عنده! فكيف يكون حاصله: أنَّ مذهب أبي الزناد القضاء بشاهدٍ ويمين المدَّعي كأهل بلده، ومذهبُ ابنِ شُبْرُمَة [خلافه كأهل بلده؟! فاحتجَّ عليه أبو الزناد بالخبر الوارد في ذلك، واحتجَّ عليه ابن شُبْرُمَة] بما ذكره مِنَ الآية الكريمة، وقال بعضهم: وإِنَّما يتمُّ له الحجَّة بذلك على أصلٍ مختلفٍ فيه بين الفريقين؛ وهو أنَّ الخبر إذا ورد متضمِّنًا لزيادة على ما في القرآن؛ هل يكون نسخًا؟ والسُّنَّة لا تنسخ القرآن، أو لا يكون نسخًا، بل زيادةً مستقلِّةً بحكمٍ مستقلٍّ إذا ثبت سندُه وجب القول به، والأَوَّل مذهب الكوفيِّين، والثاني مذهب الحجازيِّين، ومع قطع النظر عَن ذلك لا تنهض حجَّة ابن شُبْرُمَة؛ لأنَّه يصير معارضةً للنصِّ بالرأي انتهى.
          قُلْت: مذهب ابن شُبْرُمَة هو مذهب ابن أبي ليلى وعطاءٍ والنخعيِّ والشعبيِّ والأوزاعيِّ والكوفيِّين والأندلسيِّين مِن أصحاب مالك، وهم يقولون: نصُّ الكتاب العزيز في باب الشهادة: رجلان، فإن لم يكونا فرجلٌ وامرأتان، والحكم بشاهدٍ ويمين مخالفٌ للنصِّ، فلا يجوز، والأخبار التي وردت بشاهدٍ ويمين أخبار آحاد، فلا يُعمَل بها عند مخالفتها النصَّ؛ لأنَّه يكون نسخًا، ونسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز.
          وقال بعضهم: النَّسخ رفع الحكم، ولا رَفعَ هنا، وأيضًا الناسخ والمنسوخ لا بدَّ أن يتواردا على محلٍّ واحدٍ، وهذا غير متحقَّق في الزيادة على النصِّ.
          قُلْت: قوله: (النسخ رفع الحكم) قسمٌ مِن أقسام النَّسخ؛ لأنَّه على أربعة أقسام: نسخ الحكم والتلاوة جميعًا، ونسخ الحكم دون التلاوة، ونسخ التلاوة دون الحكم، والرابع: نسخ وصف الحكم، وهو أيضًا مثل الزيادة على النصِّ، وهو نسخٌ عندنا، وعند الشَّافِعِيِّ هو بمنزلة تخصيص العامِّ، حَتَّى جوَّز ذلك بالقياس وبخبر الواحد، وقول هذا القائل: (النَّسخ رفع الحكم) ليس على إطلاقه؛ لأنَّ النَّسخ مِن قبيل بيان [التبديل؛ لأنَّ البيان عندنا على خمسة أقسام: بيان] تقرير، وبيان تفسير، وبيان تغيير، وبيان ضرورة، وبيان تبديل، والنَّسَخ منه، ومعناه: أن يزول شيءٌ ويخلُفه غيره، ولا شكَّ أنَّ الحكم بشاهدٍ ويمين رَفَعَ حكم الشاهدين، أو الشاهد والمرأة، وكيف يقول هذا: ولا رفع هنا؟
          وقوله: (وأيضًا الناسخ والمنسوخ...) إلى آخره ليس على إطلاقه؛ لأنَّا نسلِّم أنَّهُ لا بُدَّ مِن توارد الناسخ والمنسوخ في محلٍّ واحدٍ ولكن لا نسلِّم قوله: وهذا غير متحقَّق في الزيادة على النصِّ؛ لأنَّ قائل هذا أيَّ مَن كان لم يفرِّق بين نسخ الوصف وبين نسخ الذات، والنَّسخ هنا مِن قبيل نسخ الوصف لا مِن قبيل نسخ الذات، ونحن نقول: إنَّ نسخ الوصف مثل نسخ الذات / في الحكم، فلهذا منعنا الحكم بشاهدٍ ويمين، وقال هذا القائل أيضًا: وتخصيص الكتاب بالسُّنَّة جائزٌ، وكذلك الزيادة عليه.
          قلنا: لا نسلِّم أنَّ الزيادة على النصِّ كالتخصيص مُطلقًا، وإِنَّما يكون كالتخصيص إذا كانت الزيادة حكمًا مستقلًّا بنفسها، فحينئذٍ يكون كالتخصيص؛ لأنَّها لا تغيِّر، والتخصيص بيان عدم إرادة بعض ما يتناوله اللفظ، فيبقى الباقي بذلك النَّظم بعينه، فإنَّ العامَّ إذا خُصَّ منه بعض الأفراد بقيَ الحكم فيما وراءه بلفظ العامِّ بعينه، كلفظ المشركين إذا خُصَّ منه أهل الذمَّة بقي الحكم في غيرهم ثابتًا بلفظ المشركين، فلم يكن التخصيص نسخًا؛ لأنَّ النَّسخ بيان انتهاء مُدَّة الحكم الثابت، وبالتخصيص تبيَّن أنَّ المخصوص لم يكن مرادًا بالعامِّ فلا يكون رفعًا بعد الثبوت، بل منعًا عنِ الدخول في حكم العامِّ، ولهذا قلنا: إنَّ التخصيص لا يكون إلَّا مقارنًا؛ لأنَّه بيانٌ محضٌ، وشرط النَّسخ أن يكون متأخِّرًا، فيكون تبديلًا لا بيانًا محضًا، ثُمَّ نظَّر هذا القائل في كون الزيادة على النصِّ كالتخصيص بقوله: كما في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ}[النساء:24].
          وأجمعوا على تحريم العمَّة مع بنت أخيها، وسند الإجماع في ذلك السُّنَّة الثابتة، وكذلك قطع رِجْل السارق في المرة الثانية.
          قلنا: الجواب عَن هذين الحكمين أنَّهما حكمان مستقلَّان بأنفسهما، ولم يغيَّر الحكم فيهما حَتَّى يكون نسخًا، وقد قلنا: إنَّ مثل هذا كالتخصيص، ثُمَّ قال هذا القائل: وقد أخذ مَن ردَّ الحكم بالشاهد واليمين لكونه زيادة على القرآن بأحاديث كثيرةٍ في أحكام كثيرة كلُّها زائدة على ما في القرآن؛ كالوضوء بالنَّبِيذ، والوضوء مِنَ القهقهة، ومِن القيء، والمضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء، واستبراء المَسبيَّة، وترك قطع مَن سرق ما يسرع إليه الفساد، وشهادة المرأة الواحدة في الولادة، ولا قَوَدَ إلَّا بالسيف، ولا جمعة إلَّا في مصرٍ جامعٍ، ولا تقطع الأيدي في الغزو، ولا يرث الكافر المسلم، ولا يُؤكَل الطافي مِنَ السمك، ويحرَّم كلُّ ذي نابٍ مِنَ السباع ومخلبٍ مِن الطير، ولا يُقتل الولد بالوالد، ولا يرث القاتل مِنَ القتيل... وغير ذلك مِن الأمثلة التي تتضمَّن الزيادة على [عموم الكتاب.
          قلنا: هذا كلُّه لا يرِدُ علينا، والجواب عن هذا كلِّه ما قلنا: إنَّ الزائد على]
النصِّ إذا كان حكمًا مستقلًّا بنفسه لا يضرُّ ذلك، فلا يسمَّى نسخًا؛ لأنَّه لا يغيِّر ولا يبدِّل، والذي فيه التغيير بحسب الظاهر _لا مِن حيث الوصف ولا مِن حيث الذات_ يكون كالتخصيص.
          وقوله: (وأجابوا بأنَّها أحاديث شهيرة، فوجب العمل بها لشهرتها) لا نقول به؛ لأنَّا لا نلتزم شهرة تلك الأحاديث، فالأصل الذي نحن عليه فيه الكفاية.
          وقوله: (فيقال لهم: وحديث القضاء بالشاهد واليمين جاء مِن طُرُق كثيرةٍ مشهورة، بل ثبت مِن طُرُقٍ صحيحة متعدِّدة) فنقول: إن كان مرادهم بهذه الشهرة الشهرةُ عندهم؛ فلا يلزمنا ذلك، وإن كان المراد بالشهرة عند الكلِّ فلا نسلِّم ذلك؛ لأنَّ شهرتها عند الكلِّ ممنوعة، فمن ادعَّى ذلك فعليه البيان، ولئن سلَّمنا شهرتها فالزيادة بها على القرآن لا تخرج عَن كونها نسخًا، والذي قال هؤلاء وظيفة التواتر، فلا تواتر أصلًا.
          قوله: فمنها ما أخرجه مسلمٌ مِن حديث ابن عَبَّاسٍ: أنَّ رسول الله صلعم قضى بيمينٍ وشاهد، وقال في «التمييز»: إنَّهُ حديثٌ صحيحٌ لا يُرتَاب في صحَّته، وقال ابن عبد البرِّ: لا مَطعن لأحدٍ في صحَّته ولا إسناده.
          والجواب عنه مِن وجهين:
          أحدهما: بطريق المنع؛ وهو أنَّ مسلمًا روى هذا الحديث مِن حديث سيف بن سليمان عَن قيس بن سعد عن عَمْرو بن دينار عن ابن عَبَّاسٍ... إلى آخره، وذكر التِّرْمِذيُّ في «العلل الكبير»: سألت مُحَمَّد بن إسماعيل عنه، فقال: عَمْرو بن دينار لم يسمع عندي هذا الحديث مِن ابن عَبَّاسٍ، وقال الطَّحَاويُّ: قيسٌ لا نعلمه يحدِّث عن عَمْرو بن دينار بشيءٍ، فقد رُمِيَ الحديث بالانقطاع في موضعين مِنَ «البُخَاريِّ» بين عَمْرٍو وابن عَبَّاسٍ، ومِنَ «الطَّحَاويِّ» بينَ قيسٍ وعمرٍو، وردَّ البَيْهَقيُّ في «الخلافيَّات» على الطَّحَاويِّ، وأشار إلى أنَّ قيسًا سمع مِن عَمْرٍو، واستدلَّ / على ذلك برواية وهب بن جرير عَن أبيه قال: سمعتُ قيس بن سعدٍ يحدِّث عن عَمْرو بن دينار عَن سعيد بن جُبَير عن ابن عَبَّاسِ، فذكر المُحرِمَ الذي وَقَصَته ناقته، ثُمَّ قال البَيْهَقيُّ: ولا يبعدُ أن يكون له عَن عَمْرو غير هذا.
          قُلْت: لم يُصرِّح أحدٌ مِن أهل هذا الشأن _فيما علمنا_ أنَّ قيسًا سمع مِن عَمْرٍو، ولا يلزم مِن قول جرير: (سمعتُ قيسًا يحدِّث عن عَمْرو) أن يكون قيسٌ سمع ذلك مِن عَمْرٍو، وذكر الذهبيُّ سيفًا في كتابه في «الضعفاء» وقال: رُمِيَ بالقدر، وقال في «الميزان»: ذكره ابن عَدِيٍّ في «الكامل» وساق له هذا الحديث، وسأل عَبَّاس يحيى بن مَعِين عن هذا الحديث، فقال: ليس بمحفوظٍ، وضعَّف أحْمَد ابن حَنْبَل مُحَمَّد بن مسلم.
          ثُمَّ ذكر البَيْهَقيُّ هذا الحديث مِن وجهٍ آخر مِن حديث معاذ بن عبد الرَّحْمَن عن ابن عَبَّاسٍ.
          قُلْت: رواه الشَّافِعِيُّ عَن إبراهيم بن مُحَمَّد عن ربيعة بن عثمان، وإبراهيم هو الأسلمي مكشوف الحال، مرميٌّ بالكذب وغيره مِنَ المصائب، وربيعة هذا، قال أبو زُرْعَةَ: ليس بذاك، وقال أبو حاتم: مُنْكَر الحديث.
          والجواب الآخر: بطريق التسليم؛ وهو أنَّهُ مِن أخبار الآحاد، فلا يجوز الزيادة به على النصِّ.
          قوله: ومنها حديث أبي هُرَيْرَة: «أنَّ النَّبِيَّ صلعم قضى باليمين مع الشاهد».
          قُلْت: هذا أخرجه أبو داود وقال: حدَّثنا أحمد بن أبي بكر أبو مصعبٍ الزُّهْريُّ: حدَّثنا الدراورديُّ عن ربيعة بن أبي عبد الرَّحْمَن عن سُهَيل بن أبي صالحٍ عن أبيه عَن أبي هُرَيْرَة... إلى آخره، وأخرجه التِّرْمِذيُّ أيضًا، وقال: حديثٌ حسنٌ غريب.
          قلنا: هذا حديثٌ معلولٌ؛ لأنَّ عبد العزيز الدراورديَّ قد سأل سهيلًا عنه فلم يعرفه، وهذا قدحٌ فيه؛ لأنَّ الخصم يضعِّف الحديث بما هو أدنى مِن ذلك.
          فَإِنْ قُلْتَ: يجوز أن يكون رواه ثُمَّ نسيه.
          قُلْت: يجوز أن يكون وهِم في أَوَّل الأمر، وروى ما لم يكن سَمِعَه، وقد علمنا أنَّ آخر أمرِه كان جحوده وفقد العلم به، فهو أولى، وقال صاحب «الجوهر النَّقيُّ» فيه مع نسيان سُهَيل أنَّهُ قد اختلف عليه؛ فرواه زهير بن مُحَمَّد عنه عن أبيه عن زيد بن ثابت، كما ذكره البَيْهَقيُّ.
          قوله: ومنها حديث جابرٍ، مثل حديث أبي هُرَيْرَة، أخرجه التِّرْمِذيُّ وابن ماجه وصحَّحه ابن خزيمة وأبو عَوَانَة.
          قُلْت: أخرجه التِّرْمِذيُّ وابن ماجه عن عبد الوَهَّاب الثَّقَفيِّ عن جعفر بن مُحَمَّدٍ عن أبيه عن جابرٍ: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قضى باليمين مع الشاهد، [وأخرجه التِّرْمِذيُّ أيضًا عن إسماعيل بن جعفر: حَدَّثَنَا جعفر بن مُحَمَّد عن أبيه: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قضى باليمين مع الشاهد] الواحد انتهى، الأَوَّل مرفوعٌ، والثاني مرسلٌ، وعبد الوَهَّاب اختُلِطَ في آخر عمره، كذا ذكره ابن مَعين وغيره، وقال مُحَمَّد بن سعدٍ: كان ثقةً وفيه ضعفٌ، وقال ابن مهديٍّ: أربعة كانوا يحدِّثون مِن كُتُب الناس ولا يحفظون ذلك الحفظ...، فذكر منهم عبد الوَهَّاب، وقد خالفه في هذا الحديث مَن هو أكبر منه وأوثق كمالكٍ وغيره، فأرسلوه، وقال صاحب «التمهيد»: إرساله أشهر، وكذا قال التِّرْمِذيُّ: إنَّ المرسل أصحُّ، وكذا روى الثَّوْريُّ عَن جعفر عن أبيه مرسلًا؛ ولهذا ذكر البيهقيُّ في كتاب «المعرفة»: أنَّ الشَّافِعِيَّ لم يحتجَّ بهذا الحديث في هذه المسألة؛ لذهاب بعض الحُفَّاظ إلى كونه غلطًا.
          وقال هذا القائل: وفي الباب عَن نحوٍ مِن عشرين مِنَ الصحابة، فيها الحِسَان والضِّعاف، وبدون ذلك تثبت الشهرة، ودعوى نسخه مردودة.
          قُلْت: الجواب: ثبوت الشهرة بذلك قد ذكرناه عَن قريبٍ، وأَمَّا قوله: (ودعوى نسخه مردودة) فمردودٌ؛ لأنَّ قوله صلعم : «اليمين على المدَّعى عليه»، وقوله: «البيِّنة على المدَّعِي واليمين على مَن أنكر» يردُّ ما قاله، وكذا قوله: «شاهداك أو يمينه» مع ظاهر القرآن؛ لأنَّه أوجب عند عدمِ الرجلين قبول رجلٍ وامرأتين، وإذا وُجِدَ شاهد واحد فالرجلان معدومان، ففي قبوله مَعَ اليمين نفيُ ما اقتضته الآية، ويؤيِّد قول مَن يدَّعي / النَّسخ أنَّ الأشعث إِنَّما وفد سنة عشرٍ، وقد قال صلعم : «شاهداك أو يمينه»، وأيضًا فَإِنَّهُ تعالى قال: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء}[البقرة:282] وليس المدَّعي بشاهدٍ واحد ممَّن يرضى باستحقاق ما يدَّعيه بقوله ويمينه، وزعموا أنَّ يمين المدَّعي قائمةٌ مقام المرأتين، فعلى هذا لو كان المدِّعي ذميًّا فأقام شاهدًا وجب ألَّا يُقبَل منه، كما لو كانت المرأتان ذمِّيَّتين.
          وأَمَّا الذي رُوِيَ عَن جماعة مِنَ الصحابة ♥ ؛ فمنهم: ابن عَبَّاس وأبو هُرَيْرَة وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله وعليُّ بن أبي طالب وسُرَّق وسعد بن عُبَادَة وعبد الله بن عَمْرو وعمرو بن حزم والمغيرة بن شعبة وزُبَيْب بن ثعلبة وعمارة بن حزم وعبد الله بن عُمَر ورجل له صحبة والزُّبَير بن العوَّام، وقد ذكرنا أحاديث ابن عَبَّاسٍ وأبي هُرَيْرَة وجابرٍ، ♥ .
          أَمَّا حديث زيد ابن ثابت فأخرجه ابن عَدِيٍّ والبَيْهَقيُّ في «سننه» مِن رواية زهير بن مُحَمَّد عن سُهَيل بن أبي صالحٍ عن أبيه عن زيد بن ثابت، أورده ابن عَدِيٍّ في ترجمة زهير بن مُحَمَّد، قال: لم يقل: «عن سُهَيلٍ عن أبيه عن زيدٍ» غيره، وقال أبو عُمَر في «التمهيد»: هذا خطأ، والصواب: عَن أبيه عَن أبي هُرَيْرَة، وقال ابن حِبَّان: «زيد بن ثابت» وهمٌ مِن زهير بن مُحَمَّد.
          وأَمَّا حديث علي ☺ فأخرجه ابن عَدِيٍّ أيضًا في ترجمة الحارث بن منصور الواسطيِّ عن سفيان الثَّوْريِّ عن جعفر بن مُحَمَّد عن أبيه عن [عليٍّ ☺ قال: وهذا لا أعلم رواه عَنِ الثَّوْريِّ غير الحارث، وقال التِّرْمِذيُّ: وهكذا روى سفيان الثَّوْريُّ عن جعفر بن مُحَمَّد عن] أبيه عَنِ النَّبِيِّ صلعم مرسلًا.
          وأَمَّا حديث سُرَّقٍ فأخرجه ابن ماجه مِن رواية عبد الله بن يزيد مولى المُنْبَعث عن رجلٍ مِن أهل مصر عن سُرَّق: أنَّ رسول الله صلعم أجاز شهادة الرجل ويمين الطالب، وهذا فيه مجهولٌ.
          وأَمَّا حديث سعد بن عُبَادَة؛ فقال التِّرْمِذيُّ بعد أن روى حديث أبي هُرَيْرَة مِن رواية ربيعة بن أبي عبد الرَّحْمَن قال: قال ربيعة: وأخبرني ابنٌ لِسَعد بن عُبَادَة قال: وجدنا في كتاب سعدٍ: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قضى باليمين مع الشاهد، هكذا رواه غير مسمًّى.
          وأَمَّا حديث عبد الله بن عَمْرو فرواه ابن عبد البرِّ في «التمهيد» وابن عَدِيٍّ أيضًا مِن رواية مُحَمَّد بن عبد الله بن عُبَيد بن عُمَير الليثيِّ عن عَمْرو بن شُعَيْب عن أبيه عَن جدِّه، قال ابن عَدِيٍّ: ومُحَمَّد هذا غير ثقة.
          وأَمَّا حديث عَمْرو بن حزم والمغيرة بن شعبة فأخرجهما البَيْهَقيُّ في «سننه» مِن رواية سعيد بن عَمْرو بن شُرَحْبِيل بن سعد بن عُبَادَة: أنَّهُ وجد كتابًا في كُتُب آبائه: هذا ما وقع _أو ذكر_ عَمْرو بن حزمٍ والمغيرة بن شُعبة قالا: بينا نحن عند رسول الله صلعم دخل رجلان يختصمان، مع أحدهما شاهدٌ له على حقِّه، فجعل رسول الله صلعم يمين صاحب الحقِّ مع شاهده، فاقتطع بذلك حقَّه.
          وأَمَّا حديث زُبَيْب _بِضَمِّ الزاي وفتح الباء المُوَحَّدة_ ابن ثعلبة العنبريُّ، فأخرجه أبو داود مِن رواية شُعَيْب بن عبد الله بن زُبَيْب العَنبَريِّ: حدَّثني أبي قال: سمعت جَدِّي الزبيب... الحديث مطوَّلًا، فلينظر فيه، وأورده ابن عَدِيٍّ في ترجمة شُعَيْب بن عبد الله، وقال: أرجو أنَّهُ يَصدُقُ فيه.
          وأَمَّا حديث عُمارة بن حزمٍ فأخرجه أحمد في «مسنده» قال: حدَّثنا يعقوب: حدَّثنا عبد العزيز بن المطَّلب عن سعيد بن عَمْرو بن شُرَحْبِيل عن جدِّه أنَّهُ قال: كتاب وجدته في كتب سعيد ابن سعد بن عُبَادَة: أنَّ عُمارة بن حزمٍ شهد أنَّ رسول الله صلعم قضى باليمين والشاهد، وقد اختلف فيه على عبد العزيز بن المطَّلب.
          وأَمَّا حديث عبد الله بن عُمَر فأخرجه ابن عَدِيٍّ مِن رواية أبي حذافة السهميِّ عن مالكٍ عن نافع عن ابن عمر، وقال: هذا عَن مالكٍ بهذا الإسناد باطلٌ، وقال أبو عمر: حديث أبي حذافة منكرٌ.
          وأَمَّا حديث رجلٍ له صُحبة فأخرجه البَيْهَقيُّ في «سننه» مِن حديث الشَّافِعِيِّ: أخبرنا إبراهيم / بن مُحَمَّد عن ربيعة بن عثمان عن معاذ بن عبد الرَّحْمَن عن ابن عَبَّاس وآخر له صحبة: أنَّ رسول الله صلعم قضى باليمين مَعَ الشاهد، وقد ذكرنا عَن قريبٍ أنَّ إبراهيم بن مُحَمَّد يُرمَى بالكذب، وربيعة منكر الحديث، قاله أبو حاتم.
          وأَمَّا حديث عبد الله بن الزُّبَير فذكره الحافظ أبو سعيدٍ مُحَمَّد بن عليِّ بن عَمْرو في كتاب «الشهود»: أخبرنا أحمد بن مُحَمَّد بن موسى: حدَّثنا الحسين بن أحمد بن بسطام: حدَّثنا أحمد بن عَبْدة: حدَّثنا عَبَّاد عن شُعَيْب بن عبد الله بن الزُّبَير عَن أبيه عن جدِّه الزُّبَير بن العوَّام: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قضى بيمينٍ مع الشاهد.
          فَإِنْ قُلْتَ: هذه الأحاديث دلَّت على جواز الحكم باليمين والشاهد، وروى النَّسائيُّ أيضًا مِن حديث أبي الزناد عَن ابن أبي صفيَّة الكوفيِّ: أنَّهُ حضر شريحًا في مسجد الكوفة قضى باليمين مع الشاهد، وعَن أبي الزناد: أنَّ عُمَر بن عبد العزيز وشريحًا قضيا باليمين مَعَ الشاهد، قال أبو الزناد: كتب عمر إلى عبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن عامله على المدينة، أن يقضي به، وفي «المُحلَّى» روينا عن عُمَر بن الخَطَّاب أنَّهُ قضى باليمين والشاهد الواحد، قال: ورُوِيَ عن سليمان بن يسار وأبي سَلَمَةَ بن عبد الرَّحْمَن وأبي الزناد وربيعة ويحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ وإياس بن معاوية ويحيى بن يعمر والفقهاء السبعة وغيرهم، وقال أبو عُمَر: ورُوِيَ عَن أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليٍّ وأُبَيِّ بْن كعب وعبد الله بن عَمْرو القضاءُ باليمينِ وإن كان في الأسانيد عنه ضعف.
          قُلْت: أَمَّا الأحاديث فقد وقفت على حالها، وأَمَّا هؤلاء المذكورون فإن كان روى عنهم بأسانيد ضعيفة، فقد رُوِيَ عن غيرهم بأسانيد صحاح أنَّهُ لا يجوز؛ منها: ما رواه ابن أبي شَيْبَةَ: حدَّثنا حمَّاد بن خالد عن ابن أبي ذئبٍ عن الزُّهْريِّ قال: هي بدعة وأَوَّل مَن قضى بها معاوية، وهذا السند على شرط مسلم، وقال عطاء بن أبي رَبَاح: أَوَّل مَن قضى به عبد الملك بن مروان، وقال مُحَمَّد بن الحسن: إن حكم به قاضٍ نُقِضَ حكمه، وهو بدعةٌ، وقد ذكرنا عَن جماعةٍ فيما مضى عدمَ الجواز به.