عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب بلوغ الصبيان وشهادتهم
  
              

          ░18▒ (ص) باب بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حدِّ بلوغ الصبيان وحكم شهادتهم، والترجمة مشتملة على حكمين:
          الأَوَّل: بلوغ الصبيان، قال ابن بَطَّالٍ: أجمع العلماء أنَّ الاحتلام في الرجال، والحيض في النساء هو البلوغ الذي تلزم به العبادات والحدود والاستئذان وغيره، واختلفوا فيمن تأخَّر احتلامه مِنَ الرجال أو حيضه مِنَ النساء؛ فقال الليث وأحمد وإسحاق ومالكٌ: الإنبات، أو أن يبلغ مِنَ السنِّ ما يعلم أنَّ مثله قد بلغ، وقال ابن القاسم: وذلك سبع عشرة أو ثمان عشرة سنة، وفي النساء هذه الأوصاف أو الحبل، إلَّا أنَّ مالكًا لا يقيم الحدَّ بالإنبات إذا زنى أو سرق ما لم يحتلم أو يبلغ مِنَ السن ما يُعلَم أنَّ مثله لا يَبلغه حَتَّى يَحتلمَ، فيكون عليه الحدُّ، وأَمَّا أبو حنيفة فلم يعتبر الإنبات، وقال: حدُّ البلوغ في الجارية سبع عشرة، وفي الغلام تسع عشرة، وفي / رواية: ثماني عشرة مثل قول ابن القاسم، وهو قول الثَّوْريِّ، ومذهب الشَّافِعِيِّ: أنَّ الإنبات علامة بلوغ الكافر لا المسلم، واعتبر خمس عشرة سنة في الذكور والإناث، ومذهب أبي يوسف ومُحَمَّد كمذهب الشَّافِعِيِّ، وبه قال الأوزاعيُّ وابنِ وَهْب وابن الماجشون.
          الحكم الثاني: في شهادة الصبيان، واختلفوا فيها؛ فعن النَّخَعِيِّ: تجوز شهادتهم بعضهم على بعضٍ، وعن عليِّ بن أبي طالبٍ وشُرَيح والحسن والشعبي مثله، وعن شريحٍ: أنَّهُ كان يجيز شهادة الصبيان في السنِّ والموضحة، ويأباه فيما سوى ذلك، وفي رواية: أنَّهُ أجاز شهادة غلمان في أَمَةٍ وقضى فيها بأربعة آلاف، وكان عروة يجيز شهادتهم، وقال عبد الله بن الزُّبَير ☻: هم أحرى إذا سُئِلوا عمَّ رأوا أن يشهدوا، وقال مكحولٌ: إذا بلغ خمس عشرة سنةً فَأَجزْ شهادته، وقال القاسم وسالم: إذا أنبَتَ، وقال عطاء: حَتَّى يكبُروا، وقال ابن المنذر: وقالت طائفة: لا تجوز شهادتهم، رُوِيَ هذا عنِ ابن عَبَّاسٍ والقاسم وسالم وعطاء والشعبيِّ والحسن وابنِ أبي ليلى والثَّوْريِّ والكوفيِّين والشَّافِعِيِّ وأحمد وإسحاق وأبي ثورٍ وأبي عُبَيد، وقالت طائفة: تجوز شهادتهم بعضهم على بعضٍ في الجراح والدم، رُوِيَ ذلك عن عليٍّ وابن الزُّبَير وشُرَيح والنَّخَعيِّ وعروة والزُّهْريِّ وربيعة ومالكٍ إذا لم يتفرَّقوا.
          (ص) وقَوْلِ الله تَعالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا}[النور:59].
          (ش) (وَقَوْلِ اللهِ) بالجرِّ عطفًا على (بلوغِ الصبيان) أي: وفي بيانِ قول الله ╡ ، وتمامه: {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[النور:59] وإِنَّما ذكر هذا لأنَّ فيه تعليقَ الحكم ببلوغ الحُلم؛ لأنَّ الترجمة في بلوغ الصبيان.
          و({الأَطْفَالُ}) جمع (طِفْل) وهو الصبيُّ، ويقع على الذكر والأنثى والجماعة، ويقال: طِفلة وأطفال، قاله ابن الأثير، وقال الجَوْهَريُّ: «الطفلُ» المولود، والجمع «أطفال»، وقد يكون (الطفل) واحدًا وجمعًا؛ مثل: الجُنُب، قال تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا}[النور:31] وذُكِر في كتاب «خلق الإنسان» لثابتٍ: ما دام الولد في بطن أمِّه فهو جنين، فإذا ولدته يسمَّى صبيًّا ما دام رضيعًا، فإذا فُطِم سُمِّي غلامًا إلى سبع سنين، ثُمَّ يصير يافِعًا إلى عشر حِجَج، ثُمَّ يصير حَزَوَّرًا إلى خمس عشرة سنةً، ثُمَّ يصير قُمُدًا إلى خمس وعشرين سنة، ثُمَّ يصير عَنَطْنَطًا إلى ثلاثين سنة، ثُمَّ يصير صُمُلًّا إلى أربعين سنةً، ثُمَّ يصير كَهْلًا إلى خمسين سنة، ثُمَّ يصير شيخًا إلى ثمانين سنة، ثُمَّ يصير هِمًّا بعد ذلك فانيًا كبيرًا انتهى.
          قُلْت: فعلى هذا لا يقال: (الصبيُّ) إلَّا للرضيع ما دام رضيعًا، وعلى قول ابن الأثير: الصبي والطفل واحدٌ.
          وقوله تعالى: ({وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ}) أي: الصبيان، قال النَّسَفِيُّ: {منكُم} أي: مِنَ الأحرار دونَ المماليك.
          قوله: ({الْحُلُمَ}) أي: البلوغ، ومنه: الحالم؛ وهو الذي يبلغ مبلغ الرجال، وهو مِن حَلَم؛ [بفتح اللام، والحِلم بالكسر: الأناءَةُ، وهو مِن حَلُم]؛ بِضَمِّ اللام.
          قوله: ({فَلْيَسْتَأْذِنُوا}) في جميع الأوقات في الدخول عليكم.
          قوله: {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي: الأحرار الذين بلغوا الحُلُم مِن قبلهم، وأكثر العلماء على أنَّ هذه الآية مُحكَمةٌ، وحُكِيَ عن سعيد بن المُسَيَِّبِ أنَّها منسوخةٌ، وعن ابن عَبَّاسٍ ☻: آية لا يؤمن بها أكثر الناس؛ آية الإذن، وإنِّي لآمرٌ جارتي أن تستأذن عليَّ، وسأله عطاء: أأستأذن على أختي؟ قال: نعم؛ وإن كانت في حجرك تَمُونها، وتلا هذه الآية.
          (ص) وَقَالَ مُغِيرَةُ: احْتَلَمْتُ وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً.
          (ش) (مُغِيرَةُ) بِضَمِّ الميم وكسرها، وبالألف واللام ودونها، ابن مِقسَم، الضبِّيُّ الكوفيُّ الفقيه الأعمى، وكان مِن فقهاء إبراهيم النَّخَعِيِّ، وعَن يحيى، ثقة مأمونٌ وكان عثمانيًّا، مات سنة ثلاث وثلاثين ومئة، وكان ممَّن أخذ عَن أبي حنيفة ☺ ، وكان يُفتى بقوله ويُحتجُّ به.
          قوله: (وَأَنَا ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً) وجاء مثله عن عَمْرو بن العاص، فَإِنَّهُم ذكروا أنَّهُ لم يكن بينه وبين ابنه عبد الله بن عَمْرو في السنِّ سوى اثنتَي عشرة سنةً.
          (ص) وَبُلُوغِ النِّساءِ في الحَيْضِ؛ لِقَوْلِهِ ╡ : {وَاللَّائِي يَئِسْنَ / مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ...} إلى قَوْلِهِ: {أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق:4].
          (ش) هو بقيَّة مِنَ الترجمة.
          (وَبُلُوغِ) بالجرِّ عطفًا على قوله: (وشهادتهم) أي: بابٌ في حكم بلوغ الصبيان وشهادتهم، وفي حكم بلوغ النساء في الحيض، ويجوز رفعه على أن يكون مبتدأً، وخبرُه قوله: (في الحَيْضِ).
          ووجه الاستدلال بالآية أنَّ فيها تعليق الحكم في العدَّة بالأقراء على حصول الحيض، فدلَّ على أنَّ الحيض بلوغٌ في حقِّ النساء، وهذا مُجمعٌ عليه.
          قوله: ({وَاللَّائِي}) أي: النساء اللاتي ({يَئِسْنَ}) أي: لا يرجون أن يحضنَ، وبعده: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق:4].
          قوله: ({إِنِ ارْتَبْتُمْ}) أي: إن شككتم أنَّ الدم الذي يظهر منها لكبرها مِنَ المحيض أو الاستحاضة؛ ({فعدَّتهنَّ ثلاثَةُ أشهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}) يعني: الصغار؛ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، فحذف لدلالة المذكور عليه.
          قوله: ({وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ}) أي: الحبالى ({أَجَلَهُنَّ}) أي: عدَّتهن، ({أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}) مِنَ المطلَّقات والمتوفَّى عنها زوجها، وإن ارتفعت حيضة المرأة وهي شابَّة؛ فإن ارتابت أحاملٌ هي أم لا؟ فإن استبان حملُها فأجلُها أن تضعَ حملها، وإن لم يستبِنْ فاختلف فيه؛ فقال بعضهم: يُستَأنى بها، وأقصى ذلك سنة، وهذا مذهب مالكٍ وأحمد وإسحاق وأبي عُبَيد، وروَوا ذلك عَن عمر وغيره، وأهل العراق يرَون عدَّتها بثلاث حِيَض بعدما كانت حاضت في باقي عمرها وإن مكث عشرين سنةً إلى أن تبلغ مِنَ الكبر مبلغًا تيئَس مِنَ الحيض، فتكون عدَّتها بعد الإياس ثلاثة أشهر، وهذا هو الأصحُّ مِن مذهب الشَّافِعِيِّ، وعليه أكثر العلماء، ورُوِيَ ذلك عَنِ ابن مسعود وأصحابه.
          (ص) وقال الحَسَنُ بنُ صالِحٍ: أدْرَكْتُ جارَةً جَدَّةً بِنْتَ إحْدَى وعِشرِينَ سَنَةً.
          (ش) (الحَسَنُ بنُ صالِحٍ) ابن حيِّ بن مسلم بن حَيَّان بن شُفَيِّ بن هُنَيِّ بن رافع، الهمدانيُّ الثَّوْريُّ، أبو عبد الله الكوفيُّ العابد، وُلِدَ سنة مئة،ومات سنة تسع وتسعين ومئة.
          قوله: (جَدَّةً) بالنصب على أنَّهُ بدل مِن (جَارَةً).
          وقوله: (بِنْتَ) منصوبٌ على أنَّهُ صفة لـ(جدةً)، وتصوير ذلك بأنَّ هذه حاضت وعمرها تسع سنين وولدت وعمرها عشر سنين، وعرض لبنتها مثلها، وأقلُّ ما يمكن مثله في تسع عشرة سنة، وقد رُوِيَ عن الشَّافِعِيِّ أيضًا أنَّهُ رأى باليمن جدَّة بنت إحدى وعشرين سنةً، وأنَّها حاضت لاستكمال تسعٍ، ووضعت بنتًا لاستكمال عشرٍ، ووقع لبنتها كذلك.