عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف
  
              

          ░23▒ (ص) بابٌ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَيْثُمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، وَلَا يُصْرَفُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيْرِهِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَرُ فيه أنَّ المدَّعَى عليه إذا توجَّهت عليه اليمين يحلفُ حيثما وجبت عليه، ولا يصرف مِن موضعِهِ ذلك، وهذا قول الحَنَفيَّة والحنابلة، وإليه مال البُخَاريُّ، وقال ابن عبد البرِّ: جملة مذهبِ مالكٍ في هذا أنَّ اليمين لا تكون عند المنبر مِن كلِّ جامعٍ، ولا في الجامع حيث كان، إلَّا في ربع دينارٍ فصاعدًا، وما دون ذلك حُلِّفَ فيه في مجلس الحاكم، أو حيث شاء مِنَ المواضع في السوق أو غيرها، وليس عليه التوجُّه إلى القبلة، قال: ولا يعرف مالكٌ منبرًا إلَّا منبر المدينة فقط، قال: وَمَن أبى أن يحلف عنده فهو كالناكل عَنِ اليمين، ويُجلَب في أيمان القسامة عند مالكٍ إلى مكَّة شرَّفها الله كلُّ مَن كان مِن عملها، فيُحَلَّف بين الركن والمقام، وكذلك المدينة، فيحلَّف عند المنبر، وحكى أبو عُبَيد: أنَّ عُمَر بن عبد العزيز حمل قومًا اتَّهمهم بفلسطين إلى الصخرة، فحُلِّفوا عندها، وقال أبو عمر: وذهب الشَّافِعِيُّ إلى نحو قول مالكٍ، إلَّا أنَّ الشَّافِعِيَّ لا يرى اليمين عندَ منبر المدينة، ولا بين الركن والمقام بِمَكَّةَ إلَّا في عشرين دينارًا فصاعدًا، وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجبُ الاستحلاف عند منبرِ النَّبِيِّ صلعم على أحدٍ، ولا بين الرُّكن والمقام على أحدٍ في قليل الأشياء ولا في كثيرها، ولا في الدماء ولا غيرها، لكنَّ الحكام يُحَلِّفون مَن وجب عليه اليمين في مجالسهم.
          (ص) قَضَى مَرْوَانُ بِالْيَمِينِ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: أَحْلِفُ لَهُ مَكَانِي، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ، وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْهُ.
          (ش) (مَرْوَانُ) هو ابن الحكم الأمويُّ، كان والي المدينة مِن جهة معاوية بن أبي سفيان.
          وهذا التعليق رواه مالكٌ في «الموطَّأ» عن داود بن الحُصَين: سمع أبا غطفان بن طريف المُرِّيَّ قال: اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع _يعني: عبد الله_ إلى مروان في دارٍ، فقضى باليمين على زيد على المنبر، فقال: أحلف له مكاني، فقال مروان: لا والله إلَّا عند مقاطع الحقوق، فجعل زيد يحلف أنَّ حقَّه لحقٌّ، ويأبى أن يحلف على المنبر، فجعل مروان يعجب مِن ذلك، قال مالكٌ: لا أرى أن يُحَلَّف على المنبر في أقلَّ مِن رُبْع دينارٍ، وذلك ثلاثة دراهم.
          قوله: (عَلَى الْمِنْبَرِ) يتعلَّق بقوله: على المنبر ظاهرًا، لكنَّ السياق يقتضي أن يتعلَّق باليمين.
          قوله: (أَحْلِفُ) بلفظ المتكلِّم، وإن كان المعنى صحيحًا بلفظ الأمر أيضًا.
          قوله: (فَجَعَلَ) بمعنى (طَفِقَ) مِن أفعال المقاربة، وروى ابن جُرَيْجٍ عن عِكْرِمَة قال: أبصر عبد الرَّحْمَن ابن عوف ☺ قومًا يحلفون بين المقام والبيت، فقال: أعلى دمٍ؟ قيل: لا، قال: أفَعَلى عظيمٍ مِنَ المال؟ قال: لا، قال: لقد خشِيتُ أن يتهاون الناس بهذا المقام، قال: ومنبر النَّبِيُّ صلعم في التعظيم مثل ذلك؛ لِمَا وَرَدَ فيه مِنَ الوعيد على مَن حلف عنده بيمينٍ كاذبة، واحتجَّ أبو حنيفة بما رُوِيَ عن زيد بن ثابت أنَّهُ لم يحلف عند المنبر، ومَن يَرى ذلك مالَ إلى قولِ مروان بغير حُجَّةٍ، وقال صاحب «التوضيح»: واحتجَّ عليه الشَّافِعِيُّ فقال: لو لم يعلم زيدٌ أنَّ اليمين عند المنبر سُنَّة؛ لأنَّكر ذلك على مروان، وقال له: لا والله؛ لا عليه أحلف إلَّا في مجلسك انتهى.
          قُلْت: هذا عجيبٌ! كيف يقول هذا؟ فلو علِم زيدٌ أنَّهُ سُنَّة لَمَا حلف، على أنَّهُ لا يحلف إلَّا في مجلسه، وعدمُ سماعه كلام مروان أعظمُ مِنَ الإنكار عليه صريحًا، والاحتجاجُ بزيد بن ثابت أَوْلَى بالاحتجاج، بل أحقُّ مِن مروان.
          وقد اختلف في الذي يُغلَّظ فيه مِنَ الحقوق، فعن مالكٍ: رُبْع دينارٍ، وعن الشَّافِعِيِّ: عشرون دينارًا فأكثر، ونقل القاضي في «مَعُونتِه» عن بعضِ المتأخِّرين: أنَّهُ يُغلَّظ في القليل والكثير، وقال ابن الجلَّاب: يحلف على أقلَّ مِن ربعِ دينارٍ في سائر المساجد، وقال مالكٌ فيما حكاه ابن القاسم عنه: إنَّهُ / يحلف قائمًا إلَّا مَن به عِلَّة، وروى عنه ابن كنانة: لا يلزمه القيام، وقال ابن القاسم: لا يستقبل القِبلة، وخالفه مُطَرِّف وابن الماجشون، وهل يُحَلَّف في دُبر صلاةٍ وحين اجتماع الناس إذا كان المال كثيرًا؟ قال ابن القاسم ومطرِّف وابن الماجشون وأصبَغ: ليس ذلك عليه، وقال ابن كِنانة عَن مالكٍ: يتحرَّى به الساعات التي يحضر الناسُ فيها المساجد ويجتمعون للصلاة.
          واختُلِفَ في صفة ما يحلف به؛ فقال مالك: باللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، الرَّحْمَن الرَّحِيمُ، وقال الشَّافِعِيُّ: يَزيد: الذي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، الذي يعلم مِنَ السِّرِّ ما يعلم مِنَ العلانية، وقال سُحنون: يحلف بالله وبالمصحف، ذكره عنه الداوديُّ، وعند أصحابنا الحَنَفيَّة: اليمين بالله لا بالطلاق والعتاق إلَّا إذا ألحَّ الخصم، ولا يبالي باليمين بالله، فحينئذٍ يُحَلَّف بهما، لكن إذا نَكَل لا يقضى عليه بالنكول؛ لأنَّه امتنع عمَّا هو منهيٌّ عنه شرعًا، ولو قُضي عليه بالنكول لا يَنْفَذ ويغلَّظ اليمين بأوصاف الله تعالى، وقيل: لا يُغلَّظ على المعروف بالصلاح ويغلَّظ على غيره، وقيل: يُغَلَّظ في الخطير مِنَ المال دون الحقير، ولا يغلظ بزمان ولا بمكان، وفي «التوضيح»: هل يحلف بحضرة المصحف؟ أباه مالكٌ، وألزمه ذلك بعض المكِّيِّين في عشرين دينارًا فأكثر، وعن ابن المنذر: أنَّهُ حكى عَنِ الشَّافِعِيِّ أنَّهُ قال: رأيتُ مُطرِّفًا يحلف بحضرة المُصحَف.
          (ص) وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ»، فَلَمْ يَخُصَّ مَكَانًا دُونَ مَكَانٍ.
          (ش) لمَّا كان مذهب البُخَاريِّ أن يحلف المدَّعَى عليه حيث ما وجبت عليه اليمين، احتجَّ بهذا على ما ذَهَبَ إليه، وقد مرَّ هذا مُسندًا في حديث الأشعث، وهذا عجيبٌ منه حيث وافق الحَنَفيَّة في هذا، قيل: قد اعتُرِضَ عليه بأنَّه ترجم لليمين بعد العصر، فأثبت التغليظ بالزمان، ونفى هنا التغليظ بالمكان، وأجيب بأنَّهُ لا يلزم مِن ترجمته بذلك أنَّهُ يوجب تغليظ اليمين بالزمان، ولم يصرِّح هناك بشيءٍ مِنَ النفي والإثبات.