نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون

          604- (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ) بفتح الغين المعجمة، العدويُّ المروزي (قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) هو ابن همَّام (قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ) هو عبد الملك. (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (نَافِعٌ) مولى ابن عمر (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ) بن الخطَّاب ☻ .
          ورجال هذا الإسناد قد تقدَّم كلُّهم في باب: «النوم قبل العشاء لمن غلب» [خ¦570]. وقد أخرج متنه مسلم، والترمذي، والنسائي أيضاً.
          (كَانَ يَقُولُ) وفي رواية: <عن عبد الله بن عمر أنه قال> (كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ) أي: من مكَّة مهاجرين (يَجْتَمِعُونَ، فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاَةَ) بالحاء المهملة من التحيُّن على وزن التفعُّل الذي وُضِعَ للتكلُّف غالباً، من الحين بمعنى: الوقت والزَّمان؛ أي: يقدِّرون حينها ليأتوا إليها، وفي رواية: <للصلاة> باللام الجارَّة.
          (لَيْسَ يُنَادَى) على البناء للمفعول (لَهَا) أي: للصلاة، قال ابن مالك: هذا شاهد على جواز استعمال «ليس» حرفاً لا اسمَ لها ولا خبرَ، أشار إليها سيبويه، ويحتمل أن يكون اسمها ضمير الشأن، والجملة بعدها خبر. ويؤيِّده ما في رواية مسلم: «ليس ينادي بها أحد» كذا قيل، فافهم.
          (فَتَكَلَّمُوا) أي: الصحابة ♥ (يَوْماً فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ) قال الحافظ العسقلاني: لم يقع لي تعيين المتكلِّمين، ولا ذلك البعض القائل (اتَّخِذُوا) بكسر الخاء، على صيغة الأمر (نَاقُوساً مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى) الذي يضربونه لوقت صلاتهم.
          (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ) اتخذوا، وسقطت الواو في <وقال> في رواية، وسقطت في أخرى: «بل» (بُوقاً) بضم الموحدة وبعد الواو الساكنة قاف، وهو الذي ينفخ فيه، ووقع في بعض النسخ: «بل قرناً»، وهو رواية مسلم والنسائي.
          (مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ) الذي يُنفَخ فيه فيجتمعون عند سماع صوته، والبوقُ والقرنُ معروفان، وهو من شعار اليهود، ويسمى أيضاً: الشَّبُّور _بفتح الشين المعجمة وضم الموحدة المشددة_.
          (فَقَالَ عُمَرُ) ☺ (أَوَلاَ تَبْعَثُونَ) بهمزة الاستفهام، وواو العطف على مقدر؛ أي: أتقولون بموافقتهم أو مشابهتهم، ولا تبعثون (رَجُلاً)، وزيد في رواية: <منكم> (يُنَادِي بِالصَّلاَةِ)، قال القرطبي: يَحتَمِل أن يكون عبد الله بن زيد لمَّا أخبر برؤياه، وصدَّقه النَّبي صلعم بادر عمر ☺ فقال: أولا تبعثون رجلاً ينادي؛ أي: يؤذِّن / بالرؤيا المذكورة.
          (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : يَا بِلاَلُ، قُمْ فَنَادِ) بكسر الدال، على صيغة الأمر (بِالصَّلاَةِ) أي: اذهب إلى موضعٍ بارزٍ فنادِ فيه بالصلاة ليسمعك الناس، فعلى هذا فالفاء في قوله: «فقال عمر»، فصيحةٌ، والتَّقدير: فافترقوا، فرأى عبد الله بن زيد، فجاء إلى النَّبي صلعم فقصَّ عليه فصدَّقه، فقال عمر: أوَلا تبعثون.
          وقال الحافظ العسقلاني: وسياق حديث عبد الله بن زيد يُخالف ذلك، فإنَّ فيه: لمَّا قصَّ رُؤياه على النَّبي صلعم قال له: «ألقها على بلال فليؤذِّن بها»، قال: فسمع عمر الصَّوتَ، فخرج فأتى النَّبيَّ صلعم فقال: لقد رأيت مثل الذي رأى، فدلَّ على أن عمرُ ☺ لم يكن حاضراً؛ لما قصَّ عبد الله بن زيد ☺ رؤياه. والظَّاهر أنَّ إشارة عمر بإرسال رجلٍ يُنادي بالصلاة كانت عقيب المشاورة فيما يفعلونه، وأنَّ رؤيا عبد الله بن زيد كانت بعد ذلك. انتهى.
          أقول: حديث عبد الله بن زيد ☺ أخرجه أبو داود بسنده إليه أنه قال: لمَّا أمرَ رسولُ الله صلعم بالنَّاقوس يُعمل ليُضرب به للنَّاس لجمعهم للصَّلاة طاف بي وأنا نائمٌ رجل يحمل ناقوساً في يده، فقلت: أتبيع النَّاقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصَّلاة، قال: أفلا أدلُّك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى، قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: ثمَّ استأخَرَ عنِّي غير بعيد، ثم قال: تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحتُ أتيت رسول الله صلعم ، فأخبرته بما رأيته، فقال: «إنها لرؤيا حقٌّ إن شاء الله تعالى، فقم يا بلال فألقِ عليه ما رأيتَ، فليؤذِّن به، فإنه أندى صوتاً منك» فقمتُ مع بلال، فجعلت ألقيه عليه، ويؤذِّن به، قال: فسمع ذلك عمرُ بن الخطاب ☺، وهو في بيته، فخرج يجرُّ رداءه يقول: والذي بعثك بالحقِّ يا رسول الله لقد رأيتُ مثل ما أرى، فقال رسولُ الله صلعم : / «فللَّه الحمد». وأخرجه الترمذي أيضاً، فلم يذكر فيه كلمات الأذان ولا الإقامة، وقال: حديث حسنٌ صحيحٌ. ورواه ابن ماجه أيضاً، فلم يذكر فيه لفظ الإقامة، وزاد فيه شعراً، فقال عبد الله بن زيد في ذلك:
أحمدُ الله ذَا الجلالِ وذَا                     الإكرَامِ حمْداً علَى الأَذانِ كَثيراً
إذْ أتانِي بهِ البشيرُ منَ اللهِ                     فألمَّ بهِ (1) لديَّ بَشِيراً
فِي ليَالٍ وافَى بهنَّ ثلا                     ثٍ كلَّما جَاءنِي زادَني تَوقيراً
          وأخرج ابن حبَّان هذا الحديث في «صحيحه»، ورواه أحمد في «مسنده». وقال أبو عمر بن عبد البر: رَوَى عن النَّبي صلعم في قصَّة عبد الله بن زيد في بدء الأذان جماعةٌ من الصَّحابة بألفاظ مختلفة، ومعانٍ مُتقاربة، وكلها تتَّفق على أمره عند ذلك، والأسانيدُ في ذلك من وجوهٍ صحاحٍ، وفي موضع آخر من وجوهٍ حسانٍ.
          قال: ونحن نذكرُ أحسنها، فذكر ما رواه أبو داود بسندٍ صحيحٍ إلى أبي عُمير بن أنس، عن عمومةٍ من الأنصار قالوا: اهتمَّ النَّبي صلعم للصلاة كيف يجمع الناس لها؟ فقيل: انصبْ رايةً عند حضور وقت الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك. قال: فذكروا له القُنْع _بضم القاف وسكون النون_، يعني: البوق، فلم يعجبه ذلك، وقال: «من أَمْرِ اليهود»، وذكروا النَّاقوس فقال: «هو من أمر النصارى» فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتمٌّ بهمِّ رسولِ الله صلعم ، فأُرِيَ الأذان في منامه، فغدا على رسول الله صلعم فأخبره فقال: يا رسول الله إني لبين نائم ويقظان، إذ أتاني آتٍ فأراني الأذان. قال: وكان عمر ☺ قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يوماً، ثمَّ أخبر به النبيِّ صلعم فقال: «ما منعك أن تخبرنا؟» فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييتُ، فقال رسول الله صلعم : «يا بلال، قمْ فانظرْ ما يأمركَ به عبدُ الله بن زيد فافعله» فأذَّن بلال.
          فأبو داود ترجم لهذا الحديث: «باب بدء الأذان».
          وقال محمود العيني: فهذا الذي هو أحسن أحاديث الباب، كما ذكره أبو عمر يقوِّي كلام القرطبي؛ لأنَّه ليس فيه ما يخالفه من أنَّ عمر ☺ سمع الصَّوت، فخرج فأتى النبي صلعم ، فدلَّ بحسب الظاهر: أنَّ عمر ☺ كان حاضراً، فهو يردُّ كلام بعضهم، وهو قوله: فدلَّ على أنَّ عمر ☺ لم يكن حاضراً لمَّا قصَّ عبد الله بن زيد رُؤياه.
          هذا [و] يريد بذلك البعض: الحافظَ العسقلاني. وأنت خبير بأن ما أثبت في رواية من قوله: «فسمع عمر الصوت، فخرج فقال». يدلُّ ظاهراً على أنَّه / لم يكن حاضراً عند قصِّ عبد الله بن زيد رُؤياه، والله أعلم.
          وأما مطابقةُ الحديث للترجمة: فبقوله: «قم يا بلال فنادِ بالصَّلاة» إذ المراد بالنِّداء: هو النداء المعهود.
          ويدلُّ عليه: أنَّ الإسماعيليَّ أخرج هذا الحديث، ولفظه: «فأذِّن بالصلاة»، وكذا قال أبو بكر ابن العربي: أنَّ المراد هو الأذان المشروع.
          فإن قيل: قال القاضي عياض: المراد هو الإعلام المحض بحضور وقتها، لا خصوص الأذان المشروع.
          فالجواب: أنَّه يحتمل أنه استند في ذلك على ظاهر اللَّفظ، ولئن سلَّمنا ما قاله، فالمطابقة بينهما موجودةٌ أيضاً باعتبار أنَّ أمره صلعم لبلال بالنِّداء للصَّلاة كان بدأَ الأمرُ في هذا الباب، فإنه لم يسبق في ذلك أمرٌ قبله، بل إنما قال ذلك صلعم بعد تحيُّنهم للصلاة، وتشاورهم فيما بينهم ماذا يفعلون في الإعلام بالصلاة.
          قيل: وكان الذي يُنادي به بلال للصلاة قوله: الصلاة جامعة. أخرجه ابن سعد في «الطبقات».
          ثم في قوله: «يا بلال، قم فناد بالصلاة» على ما قاله القاضي عياض وغيره، دليلٌ على مشروعيَّة الأذان قائماً، وأنه لا يجوز قاعداً. وتعقَّبه النووي بوجهين:
          أحدهما: أنَّ المراد بالنداء هنا الإعلامُ.
          والثاني: أن المراد: قم فاذهب إلى موضع بارز، فنادِ فيه بالصلاة ليسمعك الناس، وليس فيه تعرُّض للقيام في حال الأذان.
          وقال الحافظ العسقلاني: وما نفاهُ ليس ببعيد من ظاهر اللَّفظ، فإنَّ الصيغة محتملة للأمرين، وإن كان ما قاله أرجح.
          هذا وأمَّا ما نقله القاضي عياض من أنَّ مذهب كافة العلماء أن الأذان قاعداً لا يجوز إلا أبا ثورٍ، ووافقه أبو الفرج المالكي؛ فمتعقَّبٌ بأن الخلاف معروف عند الشافعية. قال النووي منهم: ومذهبنا المشهور أنَّه سنة، فلو أذَّن قاعداً بغير عذرٍ صحَّ أذانه، لكن فاتته الفضيلة، ولم يثبت في اشتراط القيام شيء سوى ما في كتاب أبي الشَّيخ بسندٍ لا بأس به. عن وائل بن حجر قال: حقٌّ وسنَّة مسنونة أن لا يؤذِّن إلَّا وهو طاهر، ولا يؤذِّن إلَّا وهو قائم.
          وبأن المشهور عند الحنفية كلِّهم: أن القيام سنَّة، وأنَّه لو أذَّن قاعداً صحَّ. وقال ابن المنذر: إنَّهم اتَّفقوا على أنَّ القيام من السنَّة.
          وفي «المحيط»: إن أذَّن لنفسه فلا بأس أن يؤذِّن قاعداً من غير عذرٍ مراعاةً لسنَّة الأذان، وعدم الحاجة إلى إعلام الناس، وإن أذَّن قاعداً بغير عذرٍ صحَّ، وفاتته الفضيلة.
          وفي الحديث دليلٌ على مشروعيَّة طلب الأحكام من المعاني المستنبطة دون الاقتصار على الظواهر. /
          وفيه: منقبةٌ عظيمةٌ لعمر بن الخطَّاب ☺ في إصابته الصَّواب.
          وفيه: التَّشاور في الأمور المهمَّة، وأنه ينبغي للمتشاورين أن يقولَ كلٌّ منهم ما عنده، ثمَّ صاحبُ الأمرِ يفعلُ ما فيه المصلحة.
          وفيه: التَّحين لأوقات الصلاة.
          ثم إنَّه قد استشكل إثبات الأذان برؤيا عبد الله بن زيد؛ لأنَّ رؤيا غير الأنبياء ‰ لا يُبنى عليها حكمٌ شرعيٌّ.
          والجواب: هو احتمالُ مقارنة الوحي لذلك، أو لأنَّه صلعم أمر بمقتضاها لينظر أيُقِرُّ على ذلك أم لا، ولاسيَّما لما رأى نظمها يَبْعُد دخول الوسواس فيه، وهذا مبنيٌّ على القول بجواز اجتهادهِ صلعم في الأحكام، كما هو القول المنصور في الأصول.
          ويؤيِّد الأول: ما في «مسند الحارث بن أبي أسامة»: أوَّل من أذَّن بالصَّلاة جبريل ◙ في السَّماء الدُّنيا، فسمعه عمر وبلال ☻ ، فسبق عمر بلالاً إلى النَّبي صلعم فأخبره بها، فقال النَّبي صلعم : «سبقَكَ بها عمر».
          وقال الدَّاودي: رُوِي أنَّ النَّبي صلعم أتاه جبريل ◙ بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيَّام، ذكره ابن إسحاق، قال: وهو أحسن ما جاء في الأذان.
          وقد مرَّ في أول الباب: أنَّ الزَّمخشري نقل عن بعضهم: أنَّ الأذان بالوحي لا بالمنام وحده. وقد روى عبد الرَّزَّاق وأبو داود في «المراسيل» من طريق عُبيد بن عُمير اللَّيثي _أحد كبار التابعين_: أنَّ عمر ☺ لما رأى الأذان جاء ليخبر به النَّبي صلعم ، فوجد الوحي قد وردَ بذلك، فما راعه إلَّا أذانُ بلال ☺، فقال له النَّبي صلعم : «سبقَكَ بذلك الوحي».
          وفي كتاب أبي الشيخ بسندٍ فيه مجاهيل: عن عبد الله بن الزُّبير قال: أُخذ الأذانُ من أذان إبراهيم ◙: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] الآية، قال: فأذَّنَ رسولُ الله صلعم .
          وقد روى أبو نُعيم في «الحلية» بسندٍ فيه مجاهيل أيضاً: أنَّ جبريل ◙ نادى بالأذان لآدم ◙ حين أهبط من الجنَّة.
          وقال السُّهيلي في الحكمة في مجيء الأذان على لسانِ الصَّحابيِّ: أن النَّبي صلعم سمعه فوق سبع سموات، وهو أقوى من الوحي، فلمَّا تأخَّر الأمر بالأذان عن فرض الصلاة، وأراد إعلامهم بالوقت، رأى الصَّحابي المنامَ فقصَّها، فوافقت ما كان النَّبي صلعم سمعه، فقال: «إنَّها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى».
          وعلم حينئذٍ أنَّ مُراد الله تعالى بما أراه في السَّماء أن يكون / سُنَّة في الأرض، وتقوَّى ذلك بموافقة عمر ☺؛ لأنَّ السَّكينة تنطق على لسان عمر ☺. واقتضتِ الحكمة الإلهية أن يكون الأذان على غير لسان النَّبي صلعم ؛ لما فيه من التَّنويه بعبده، والرَّفعِ لذكره فيكون أقوى لأمره، وأفخر لشأنه، وهو معنى قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]. ووقع في «الأوسط» للطبراني: أنَّ أبا بكر ☺ أيضاً رأى الأذان. ووقع في «الوسيط» للغزالي: أنه رآه بضعة عشر رجلاً. وعبارة الجيلي في «شرح التنبيه»: أربعة عشر.
          وأنكره ابن الصَّلاح ثمَّ النووي. ونقل مغلطاي: أن في بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة، ولم يثبتْ شيءٌ من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصَّةُ عمر جاءت في بعض طُرقه. ويُؤخذ منه عدم الاكتفاء برؤيا عبد الله بن زيد؛ ليصير في معنى الشَّهادة.
          وقد جاء في رواية ضعيفة ما ظاهره: أنَّ بلالاً أيضاً رأى، لكنَّها مأوَّلة، فإنَّ لفظها: «سبقك بها بلال» فيُحمل المراد بالسَّبق على مباشرة التَّأذين برؤيا عبد الله بن زيد.
          هذا. ثم إنَّ حديث ابن عمر ☻ المذكور في هذا الباب ظاهر في أنَّ الأذان شُرع بعد الهجرة، فإنَّه نفى النِّداء بالصلاة قبل ذلك مطلقاً. وقد وردتْ أحاديث تدلُّ على أنَّ الأذان شُرع بمكَّة قبل الهجرة:
          منها: ما رواه الطَّبراني من طريق سالم بن عبد الله بن عمر ☻ ، عن أبيه قال: لما أُسري بالنَّبي صلعم أوحى الله إليه الأذان، فنزلَ به فعلَّمه بلالاً. وفي إسناده طلحة بن زيد، وهو متروكٌ.
          وما رواه الدَّارقطني في «الأفراد» من حديث أنس ☺: أنَّ جبريل ◙ أمر النَّبيَّ صلعم بالأذان حين فُرِضت الصَّلاة. وإسناده ضعيف أيضاً.
          وما رواه ابن مردويه من حديث عائشة مرفوعاً: «لما أُسري بي، أذَّن جبريل ◙، فظنَّت الملائكة أنَّه يصلِّي بهم، فقدَّمني فصلَّيت»، وفيه من لا يُعرَف.
          وما رواه البزَّار وغيره من حديث عليٍّ ☺: لمَّا أراد الله أن يُعلِّم رسوله الأذان أتاه جبريل بدابَّة يقال لها: البراق فركبها، فذكر الحديث، وفيه: «إذ خرجَ مَلَك من الحجاب فقال: الله أكبر، الله أكبر، وفي آخره: ثم أخذَ المَلَك بيده، فأمَّ بأهلِ السَّماء»، وفي إسناده: زيادُ بن المنذر أبو الجارود، وهو متروكٌ أيضاً.
          ويمكن على تقدير الصِّحة: أن يُحمَل على تعدُّد الإسراء، فيكون ذلك وقع بالمدينة. وأمَّا قول القرطبي: لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعاً في حقِّه؛ ففيه نظر؛ لقوله في أوَّله: «لما أراد أن يُعلِّم رسوله الأذان»، وكذا قول المحبِّ الطبري: يُحمل الأذان ليلة الإسراء على المعنى اللُّغوي، وهو الإعلام؛ ففيه نظر أيضاً؛ لتصريحه / بكيفيته المشروعة فيه.
          قال الحافظ العسقلاني: والحقُّ أنه لا يصحُّ شيء من هذه الأحاديث، وقد جزم ابن المنذر بأنه صلعم كان يُصلِّي بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، وإن وقع التَّشاور في ذلك على ما في حديث عبد الله بن عمر ☻ ، ثم حديث عبد الله بن زيد، والله أعلم.
          ثم إنَّه مما يكثر السؤال عنه: هل باشر النبيُّ صلعم الأذان بنفسه؟
          وقد وقع عند السُّهيلي: أن النَّبيَّ صلعم أذَّن في سفر وصلَّى بأصحابه، وهم على رواحلهم، السماءُ من فوقهم، والبلَّة من أسفلهم. أخرجه الترمذي من طريقٍ يدور على عمر بن الرَّماح يرفعه إلى أبي هريرة، وليس هو من حديث أبي هريرة، وإنما هو من حديث يَعلى بن مرَّة.
          وكذا جزم النَّووي: بأن النَّبي صلعم أذَّن مرة في سفر. وعزاه للترمذي وقوَّاه. ولكن في «مسند أحمد» من الوجه الذي أخرجه الترمذي: فأمر بلالاً فأذَّن، فعُرِف أنَّ في رواية الترمذي اختصاراً.
          وأن معنى قوله: «أذَّن»: أمر بلالاً به، كما يقال: أعطى الخليفة العالم الفلاني، وإنما باشر العطاءَ غيرُه؛ لكونه أمر به.
          بقي هاهنا مباحث لا علينا أن نذكرها، منها:
          الترجيع في الأذان، وهو أن يرجِّع فيرفع صوته بالشَّهادتين بعدما خفض بهما، وبه قال الشافعي ومالك، إلَّا أنَّه لا يؤتى بالتَّكبير في أوَّله إلا مرتين. وقال أحمد: إن رجَّع فلا بأس به، وإن لم يرجِّع فلا بأس به. وقال أبو إسحاق من أصحاب الشافعي: إن ترك الترجيع يعتدَّ به.
          وحُكِي عن بعض أصحابه: أنه لا يعتدُّ به كما لو ترك سائر كلماته، كذا في «الحلية». وفي «شرح الوجيز»: والأصحُّ أنه إن ترك التَّرجيع لم يضره. وحجَّةُ الشافعي: حديث أبي محذورةَ: أنَّ رسول الله صلعم علَّمه الأذان: «الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله»، الحديث رواه الجماعة إلَّا البخاري.
          وحجَّة أصحابنا حديث عبد الله بن زيد من غير ترجيعٍ، وكان حديث أبي محذورة لأجل التعليم، فكرَّره، فظنَّه أبو محذورة أنَّه ترجيع، وأنَّه في أصل الأذان.
          وقد روى الطَّبراني في «معجمه الأوسط» عن أبي محذورة أنَّه قال: ألقى عَلَيَّ رسولُ الله صلعم الأذانَ حرفاً حرفاً: «الله أكبر» إلى آخره لم يذكر فيه ترجيعاً.
          وأذان بلالٍ ☺ بحضرةِ رسول الله صلعم سفراً وحضراً، وهو مؤذِّنُ رسول الله صلعم بإطباق أهل الإسلام إلى أن توفِّي رسول الله صلعم ، ومؤذِّنُ أبي بكر / الصِّديق إلى أن توفي ☺ من غير ترجيع.
          ومنها: أنَّ التكبير في أوَّل الأذان مربَّعٌ على ما في حديث أبي محذورة، رواه مسلم وأبو عَوانة والحاكم، وهو المحفوظ عن الشافعي من حديث ابن زيد ☺. وقال أبو عمر: ذهب مالك، وأصحابه إلى أن التكبير في أول الأذان مرتين. قال: وقد رُوِي ذلك من وجوه صحاح في أذان أبي محذورة، وأذان ابن زيد، والعمل عندهم بالمدينةِ على ذلك في آل سعد القُرَظ إلى زمانهم.
          ونقول: الذي ذهب أصحابنا إليه هو أذان الملك النَّازل من السماء.
          ومنها: ما في أذان الفجر من قوله: «الصلاة خير من النوم»، مرتين بعد الفلاح؛ لِمَا روى الطَّبراني في «معجمه الكبير» بإسناده عن بلال: أنه أتى النبيَّ صلعم يُؤذِنُهُ بالصبح، فوجده راقداً فقال: الصلاة خير من النوم، مرتين، فقال النبي صلعم : «ما أحسن هذا يا بلال، اجعلْه في أذانك».
          وأخرجه الحافظ أبو الشيخ في كتاب «الأذان» له عن ابن عمر ☻ قال: جاء بلالٌ إلى النبي صلعم يُؤذِنه بالصلاة، فوجده قد أغفى، فقال: الصَّلاة خير من النوم، فقال له: «اجعله في أذانك إذا أذَّنت للصبح» فجعل بلالٌ يقولها إذا أذَّن للصُّبح.
          ورواه ابن ماجه من حديث سعيد بن المسيِّب عن بلال: أنه أتى النَّبي صلعم يُؤذِنه بصلاة الفجر فقيل: هو نائم، فقال: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، فأُقرَّت في تأذين الفجر، وخُصَّ الفجر به؛ لأنه وقت نومٍ وغفلة.
          ومنها: معاني كلمات الأذان، ذكر ثعلب: أن أهل العربية اختلفوا في معنى أكبر؛ فقال أهل اللغة: معناه: كبير، واحتجوا بقوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] معناه: وهو هينٌ عليه.
          كما في قول الشاعر:
تمنَّى رجالٌ أنْ أموتَ وإنْ أمُتْ                     فتلْكَ سبيلٌ لسْتُ فيهَا بأوحَدِ
          أي: بواحد.
          وقال الكسائي والفرَّاء وهشام: معناه: أكبر من كلِّ شيءٍ، فحذفت «من»، كما حذفت في قول الشاعر:
إذَا مَا سُتُور البيتِ أرخيْتَ لمْ يكُنْ                     سراجٌ لنَا إلَّا ووجهُكَ أنورُ
          أي: أنور من غيره.
          وراءُ «أكبر» مرفوع على الأصل. وقال ابنُ الأنباري: وأجاز أبو العباس المبرِّد فتحها؛ لالتقاء الساكنين بوصلها إلى لفظة «الله». واحتجَّ بأن الأذان سُمِعَ وقفاً لا إعراب فيه، فليتأمل.
          وقولنا: «أشهد أن لا إله إلا الله»، معناه: أَعْلم وأُبيِّن ذلك، ومنه: شهد الشاهد / عند الحاكم، معناه: قد بيَّن له وأعلمه الخبر الذي عنده.
          وقال أبو عُبيدة: معناه: أقضي، كما في قوله تعالى: {شْهِدُ اللَّهَ} [آل عمران:18] أي: قضى الله. وقال الزَّجاجي: ليس كذلك، وإنما حقيقة الشَّهادة هو تعيُّن الشيء، وتحقُّقه من شهادةِ الشيء؛ أي: حضورهِ.
          وقولنا: «رسول الله»: قال ابن الأنباري: الرَّسول معناه في اللُّغة: الذي يتابع الأخبار من الذي بعثه، مِن قولِ العرب: قد جاءت الإبل رَسَلاً، إذا جاءت متتابعة، ويقال في تثنيته: رسولان، وفي جمعه: رسل.
          ومن العرب من يوحِّده في موضع التثنية والجمع، فيقول: الرجلان رسولك، والرجال رسولك، قال الله تعالى: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [طه:47]، وفي موضع آخر: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16]، ففي الأول خرج الكلام على ظاهره؛ لأنه إخْبار عن موسى وهارون عليهما السلام، وفي الثاني: بمعنى الرسالة كأنَّه قال: إنَّا رسالة ربِّ العالمين، قاله يونس.
          وقال أبو إسحاق الزَّجاج: ليس ما ذكره ابن الأنباري في اشتقاق الرَّسول صحيحاً، وإنما الرَّسول: المُنْفَذُ، مِن: أرسلتُ: أنفذت وبعثت. وإنما توهَّم في ذلك؛ لأنه رآه على فعول من أوزان المبالغة نحو ضروب وشبهه، فإنه لتكرار الفعل وتكثيره، وليس كذلك، وإنما هو اسمٌ بمنزلة عمود ونحوه، فتأمل.
          ثم قال ابن الأنباري: وفصحاء العرب أهل الحجاز ومَن والاهم يقولون: «أشهد أن»، بالهمزة، وجماعة من العرب يبدلون من الهمزة عيناً، فيقولون: «أشهد عن».
          وقوله: «حي على الصلاة». قال الفراء: معناه: هلمَّ، وفُتِحت الياء من حيَّ؛ لسكون الياء التي قبلها.
          ومعنى الفلاح: الفوز، يقال: أفلح الرجل، إذا فاز.
          اللَّهمَّ اجعلنا من المفلحين الفائزين، واحشرنا مع الأبرار السَّابقين. آمين يا من إيَّاك نعبدُ، وإيَّاك نستعين، بحرمة نبيك الأمين. اللَّهمَّ صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبة أجمعين.
          فائدة: قال ابن سعد في «الطبقات»: إنَّ اختصاص بلال بالأذان دون غيره بسبب أنَّه كان يعذَّب بمكة؛ ليرجعَ عن الإسلام، فيقول: أحدٌ أحدٌ، فجوزِي بولاية الأذان المشتملة على التَّوحيد في ابتدائه وانتهائه، وهي مناسبة حسنةٌ في اختصاص بلال بذلك الأمر العظيم.


[1] في مطبوع ابن ماجه «فأكرم به» والمثبت موافق للعمدة.