نجاح القاري لصحيح البخاري

باب بدء الأذان

          ░1▒ (باب بَدْءِ الأَذَانِ) بالهمزة بعد الدال المهملة؛ أي: ابتدائه، وفي رواية أبي ذرٍّ: <كتاب بدء الأذان>، وفي رواية الأَصيلي: <بدء الأذان> بدون الباب والكتاب.
          (وَقَوْلِهِ ╡) وفي رواية: <وقول الله>، وهو بالجرِّ عطف على «بدءِ الأذان»، ويروى مرفوعاً أيضاً ({وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ}) يعني: إذا أذَّن المؤذِّنون داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال عند أولي الألباب، وإنما أُضيف النِّداء إلى جميع المسلمين؛ لأنَّ المؤذِّن يؤذِّن لهم ويناديهم.
          ({اتَّخَذُوهَا}) أي: الصلاة أو المناداة، ({هُزُواً وَلَعِباً}) يعني: أنَّ الكفَّار إذا سمعوا الأذان، استهزؤوا بهم، وإذا رأوهم ركوعاً وسجوداً ضحكوا عليهم، واستهزؤوا بذلك ({ذَلِكَ}) الاستهزاء ({بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ}) أي: بسبب أنهم قوم لا يعلمون، ولا يدركون معاني عبادة الله وشرائعه وثوابه، أو ليسوا من أهل العقلِ، فإنَّ الذي يؤدِّي إلى ذلك الاستهزاء هو السَّفه لا العقل.
          وقد ذكر أهل التَّفسير: أنَّ اليهود لما سمعوا الأذان قالوا: لقد أبدعتَ يا محمَّدُ شيئاً لم يكن فيما مضى فنزلت.
          وقال أسباط: عن السُّدِّي قال: كان رجل من النَّصارى بالمدينة إذا سمع المُنادي يُنادي أشهد أنَّ محمداً رسول الله قال: حرِّق الكاذب، فدخل خادمه ليلة من اللَّيالي بنار وهو نائم، وأهله نيامٌ، فسقطتْ شرارةٌ فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
          وإيراد البخاري هذه الآية هاهنا إشارة إلى أنَّ ابتداء الأذان كان بالمدينة؛ لأنَّ الآية مدنيَّة.
          وعن هذا قال الزَّمخشري في «تفسيره»: قيل: فيه دليلٌ على ثبوتِ الأذان بنصِّ الكتاب لا بالمنام وحدَه. وقال الزُّهري _فيما ذكره الحافظ ابن كثير_؛قد ذكر الله التَّأذين في هذه الآية. رواه ابن أبي حاتم.
          (وَقَوْلِهِ) تعالى بالجرِّ، ويروى: بالرفع أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} ({إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}) أراد بهذا النِّداءِ الأذانَ عند قعود الإمام على المنبر للخُطبة، ذكره النَّسفي في «تفسيره».
          وزاد في رواية الأَصيلي: قوله: <الآية>. وإنما عدَّى النِّداء في الآية الأولى بـ: «إلى»، وفي الآية الثانية بـ: «اللام»؛ لأنَّ صلات الأفعال تختلفُ بحسب مقاصدِ الكلام، فالمقصودُ في الأولى معنى الانتهاء، وفي الثانية معنى الاختصاص. ويحتمل أن تكون اللام بمعنى إلى، أو بالعكس؛ لأنَّ الحروف ينوب بعضُها عن بعض، والله أعلم. ثم إنَّ هذه الآية الثانية / تشير إلى أنَّ ابتداء الجمعة كان بالمدينة، كما سيأتي في بابه [خ¦10/1-966].
          واختلف في السَّنة التي فرض فيها:
          فالرَّاجح: أنَّ ذلك كان في السَّنة الأولى؛ فإنه روي: أنَّه صلعم لمَّا قدم المدينة نزل قباء، وأقام بها إلى الجمعة، ثمَّ دخل المدينة وصلَّى الجمعة في دارٍ لبني سالم بن عوف، وهي أوَّل جمعة جَمَّعها رسول الله صلعم ، وقيل: بل كان في السنة الثانية.
          وروي عن ابن عباس ☻ : أنَّ فرض الأذان نزل مع هذه الآية. أخرجه أبو الشيخ. وقال الزين ابن المُنيِّر: أعرض البخاري عن التَّصريح بحكم الأذان؛ لعدم إفصاح الآثار الواردة فيه عن حكم معيَّنٍ، فأثبت مشروعيَّته، وسَلِمَ من الاعتراض، وقد اختلف في ذلك، ومنشأ الاختلاف: أنَّ مبدأ الأذان لما كان عن مَشورة أوقعها النَّبي صلعم بين أصحابه حتى استقرَّ برؤيا بعضهم، فأقرَّه، كان ذلك بالمندوبات أشبه. ثمَّ لما واظبَ على تقريره، ولم يُنقل أنَّه تركه، ولا رخَّص في تركه كان ذلك بالواجبات أشبه. وسيأتي التَّفصيل في ذلك قريباً إن شاء الله تعالى.