نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: من يرد الله به خيرًا يصب منه

          5645- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسي، قال: (أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) الإمام (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ) المازري، هكذا ذكر مالك نسبته، ومنهم من ينسبه إلى جدِّه، ومنهم من ينسب عبد الله إلى جدِّه، ووقع في رواية الإسماعيلي عن مالك: ((حدَّثني محمد بن عبد الله)) فذكره.
          (قَالَ) أي: إنَّه قال: (سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ أَبَا الْحُبَابِ) بضم المهملة وتخفيف الموحدة الأولى، من علماء المدينة (يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) ☺ (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ) كذا للأكثر بكسر الصَّاد، والفاعل: الله، والضَّمير في «منه» يرجع إلى «من». قال أبو عبيد الهروي: معناه: يبتليه بالمصائب؛ ليثيبه عليها، وكذا قال محيي السُّنَّة، وقيل: معناه: يوجه إليه البلاء فيصيبه، وقال المظهريُّ: يوصله الله إلى مصيبة ليطهِّره من الذُّنوب، وليرفع درجته.
          وقال ابنُ الجوزي: أكثر المحدِّثين يروونه: بكسر الصاد، وسمعت ابن الخشَّاب: بفتح الصاد، وهو أحسن وأليقُ. وقال الطِّيبي: الفتح أحسن وأليق بالأدب؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]. وقال الزَّمخشري: أي: نيل منه بالمصائب، فعلى الفتح يكون «يُصَب» على البناء للمفعول. ويشهد للأوَّل: ما أخرجَه أحمدُ من حديث محمود بن لُبيد رفعَه بسند رواته ثقاتٌ، إلَّا أنَّه اختلف في سماع محمود بن (1) لبيد عن النَّبي صلعم ، وقد رآه وهو صغير، ولفظه: ((إذا أحبَّ الله قومًا ابتلاهم، فمن صبر فله الصَّبر، ومن جزع فله الجزع)). وله شاهدٌ من حديث أنس ☺ عند التِّرمذي وحسنه.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة تؤخذ من قوله: ((يُصِب منه)). وقد أخرجه النَّسائي في «الطِّب».
          وفي هذه الأحاديث بشارةٌ عظيمةٌ لكلِّ مؤمن؛ لأنَّ الآدمي لا ينفك غالبًا من ألم بسبب مرض، أو همٍّ، أو نحو ذلك؛ لأنَّ الأمراض والأوجاع والآلام بدنيَّة كانت أو قلبيَّة تكفِّر ذنوبَ من تقع له.
          وسيأتي في الباب الذي بعده من حديث ابن مسعود ☺: ((ما من مسلمٍ يصيبه أذى إلَّا حاتَّ الله عنه خطاياه)). وظاهره: تعميمُ جميع الذُّنوب، لكن الجمهور خصوا ذلك بالصَّغائر للحديث الذي تقدَّم في أوائل / «الصَّلاة»: ((الصَّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفَّارات لما بينهنَّ ما اجتنبت الكبائر)) [خ¦160] فحملوا المطلقات الواردة في التَّكفير على هذا المقيَّد، ويحتمل أن يكون معنى الأحاديث التي ظاهرها التَّعميم: أنَّ المذكورات صالحة لتكفير الذُّنوب، فيكفر الله بها ما شاء من الذُّنوب، وتكون كثرة التَّكفير وقلَّته باعتبار شدَّة المرض وخفَّته. ثمَّ المراد بتكفير الذُّنب ستره، أو محو أثره المرتَّب عليه من استحقاقِ العقوبة، وقد استُدلَّ به على أنَّ مجرَّد حصول المرض أو غيره ممَّا ذكر يترتب عليه التَّكفير المذكور، سواء انضمَّ إليه صبر المصاب أم لا.
          وأبى ذلك قوم كالقرطبي في «المفهم» فقال: محلُّ ذلك إذا صبر المصاب واحتسبَ، وقال ما أمر الله به في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} الاية [البقرة:156]، فحينئذٍ يصلُ إلى ما وعد الله ورسوله من ذلك. وتُعقِّب: بأنَّه لم يأتِ على دعواه بدليل، وأن في تعبيره بقوله: بما أمرَ الله، نظر، إذ لم يقع هنا صيغة أمر.
          وأُجيب عن هذا: بأنَّه وإن لم يقع التَّصريح بالأمر، فسياقُه يقتضي الحث عليه، والطَّلب له، ففيه معنى الأمر.
          وعن الأوَّل: بأنَّه حمل الأحاديث الواردة بالتَّقييد بالصَّبر على المطلقة، وهو حملٌ صحيحٌ، لكن كان يتم له ذلك لو ثبتَ شيءٌ منها، بل هي إمَّا ضعيفة فلا يحتجُّ بها، وإمَّا قويَّة، لكنَّها مقيَّدة بثواب مخصوصٍ، فاعتبار الصَّبر فيها إنَّما هو لحصول ذلك الثَّواب المخصوص مثل ما سيأتي فيمن وقع الطَّاعون ببلد هو فيها فصبرَ واحتسب فله أجر شهيد. ومثل حديث محمد بن خالد عن أبيه عن جدِّه، وكانت له صحبة: سمعت رسول الله صلعم يقول: ((إنَّ العبدَ إذا سبقت له من الله منزلةٌ فلم يبلغها بعملٍ ابتلاه الله في جسدِه أو ولده أو ماله، ثمَّ صبره على ذلك حتَّى يبلغ تلك المنزلة)). رواه أحمد، وأبو داود، ورجاله ثقات، إلَّا أن خالدًا لم يرو عنه غير ابنه محمد، وأبوه اختلف في اسمه، لكن إبهام الصَّحابي / لا يضرُّ.
          وحديث سَخْبرة _بمهملة ثمَّ معجمة ثمَّ موحدة_ رفعه: ((من أُعطي فشكر، وابتُلِي فصبر، وظَلَم فاستغفر، وظُلِم فغفر، أولئك لهم الأمنُ وهم مهتدون)). أخرجه الطَّبراني بسندٍ حسنٍ.
          وقد أخرج مسلم من حديث صُهيب ☺ قال: قال رسول الله صلعم : (([عجبًا لأمر] المؤمن [إن أمره كله خير] (2)، وليس ذلك إلَّا للمؤمن: إن أصابه سرَّاء فشكرَ الله فله أجرٌ، وإن أصابه ضرَّاء فصبرَ فله أجرٌ، فكلُّ قضاءِ الله للمسلم خيرٌ)). وله شاهدٌ من حديث سعد بن أبي وقَّاص ☺ بلفظ: ((عجبتُ من قضاء الله للمؤمن، إن أصابَه خيرٌ حمدَ الله وشكرَ، وإن أصابته مصيبةٌ حمدَ الله وصبرَ، فالمؤمن يُؤجرُ في كلِّ أمره)) الحديث. أخرجه أحمدُ والنَّسائي.
          وممَّن جاء عنه التَّصريح بأنَّ الأجر لا يحصل بمجرَّد حصول المصيبة، بل إنَّما يحصل بها التَّكفير فقط من السلف الأوَّل: أبو عبيد ابن الجرَّاح ☺ فروى أحمد والبُخاري في «الأدب المفرد»، وأصله في النَّسائي بسندٍ جيِّدٍ، وصحَّحه الحاكم من طريق عِياض بن غُطيف قال: دخلنا على أبي عبيدة نعوده من شكوى أصابته، فقلنا: كيف بات أبو عُبيدة؟ فقالت امرأة نحيفة: لقد بات بأجرٍ، فقال أبو عُبيدة: ما بتُّ بأجرٍ، سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((من ابتلاهُ الله ببلاءٍ في جسده فهو له حطَّة)). وكأنَّ أبا عبيدة لم يسمع الحديث الذي صرَّح فيه بالأجر لمن أصابته المصيبة، أو سمعه وحمله على التَّقييد بالصَّبر، والذي نفاهُ مطلق حصول الأجر العاري عن الصَّبر.
          وذكر ابن بطَّال: أنَّ بعضَهم استدلَّ على حصول الأجر بالمرض بحديث أبي موسى الماضي في «الجهاد» بلفظ: ((إذا مرضَ العبد أو سافرَ كتب الله له ما كان يعملُ صحيحًا مقيمًا)) [خ¦2996] قال: فقد زاد على التَّكفير، ولا يلزم من ذلك أن يساويهِ من لم يكن يعمل في صحَّته شيئًا.
          وممَّن جاء عنه: أنَّ المريض يكتب له الأجر / بمرضه أبو هُريرة ☺، فعند البُخاري في «الأدب المفرد» بسندٍ صحيحٍ عنه أنَّه قال: ما من مرضٍ يصيبني أحبُّ إليَّ من الحمى؛ لأنَّها تدخل في كلِّ عضوٍ مني، وإن الله يعطي كلَّ عضوٍ قسطه من الأجر. ومثل هذا لا يقوله أبو هُريرة برأيه.
          وأخرج الطَّبراني من طريق محمد بن معاذ، عن أبيه، عن جدِّه أُبيِّ بن كعب ☺، أنَّه قال: يا رسول الله، ما جزاء الحمى؟ قال: ((يجري الحساب على صاحبها ما اختلجَ قَدَمٌ أو ضُرِب عليه عِرْقٌ)) الحديث. والأولى حمل الإثبات والنَّفي على حالين: فمن كانت له ذنوبٌ مثلًا أفاد المرض تمحيصها، ومن لم يكن له ذنوبٌ كتب له بمقدار ذلك عليه، ولما كان الأغلب من بني آدم وجود الخطايا فيهم أطلق من أطلقَ أنَّ المرضَ كفَّارة فقط، وعلى ذلك تحمل الأحاديث المطلقة.
          ومن أثبت الأجر به فهو محمولٌ على تحصيل ثواب يُعادلُ الخطيئة، فإذا لم تكن خطيئة توفَّر لصاحب المرض الثَّواب، والله أعلم بالصَّواب. وقد استبعدَ ابن عبد السَّلام في «القواعد» حصول الأجر على نفسِ المصيبة، وحصرَ حصول الأجر بسببها في الصَّبر.
          وتُعقِّب: بما رواه أحمد بسندٍ جيِّدٍ عن جابر ☺ قال: استأذنت الحمى على رسول الله صلعم ، فأُمِر بها إلى أهلِ قباء، فشكُوا إليه ذلك فقال: ((ما شئتُم، إن شئتُم دعوت الله لكم فكشفَها عنكم، وإن شئتُم أن تكون لكم طَهورًا)) قالوا: فدعها. ووجه الدَّلالة منه: أنَّه لم يُؤاخذهم بشكواهم، ووعدهم بأنَّها طهور لهم.
          وقال الحافظُ العسقلاني: والذي يظهر: أنَّ المصيبة إذا قارنها الصَّبر حصل التَّكفير ورفع الدَّرجات على ما تقدَّم تفصيله، وإن لم يحصل الصَّبر نظر إن لم يحصل من الجزع ما يُذمُّ من قول أو فعل، فالفضلُ واسعٌ، ولكن المنزلة منحطَّة عن منزلة الصَّابر السَّابقة، وإن حصل فيكون ذلك سببًا لنقص الأجر الموعود به، أو التَّكفير، فقد يستويان، وقد يزيد أحدهما على الآخر فبقدر ذلك يقضي لأحدهما على الآخر، ويشير إلى التَّفصيل المذكور حديث محمود بن لبيد الذي مرَّ قريبًا، والله أعلم. /


[1] في الأصل: من، والصواب ما أثبته.
[2] ما بين معقوفين سقط من الأصل.