نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه

          5640- (حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ) الحمصي، قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) هو: ابنُ أبي حمزة (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمد بن مسلم بن شهاب، أنَّه (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) أي: ابن العوَّام (أَنَّ عَائِشَةَ ♦ زَوْجَ النَّبِيِّ صلعم قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ) / أصل المصيبة: الرَّمية بالسَّهم، ثمَّ استُعملت في كلِّ نازلة. قال الرَّاغب: أصاب: تستعملُ في الخير والشَّر، قال الله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} الاية [التوبة:50]، قال: وقيل: الإصابة في الخير مأخوذةٌ من الصَّوب، وهو المطر الذي ينزل بقدر الحاجة من غير ضررٍ، وفي الشَّرِّ مأخوذةٌ من إصابة السَّهم.
          وقال الكرمانيُّ: المصيبة في اللُّغة: ما ينزلُ بالإنسان مطلقًا، وفي العرف: ما نزلَ به من مكروهٍ خاصَّة، وهو المراد هنا. وقال القسطلاني: هي كلُّ ما يُؤذي المرء ممَّا يصيبه، يقال: أصابه إصابة ومصابة ومصابًا، والمصُوبة _بضم الصاد_ مثل المصيبة، وأجمعت العرب على همزة المصَائب، وأصله الواو، وكأنَّهم شبهوا الأصلي بالزَّائد، ويجمع على مصاوب، وهو الأصل.
          وقوله: «مُصيبة تصيبه» من التَّجانس إذ أحدى كلمتا المادة الاسم و [الثانية] الفعل (1)، ومثله: {أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ} [النجم:57]، وفي رواية مسلم من طريق مالك ويونس جميعًا عن الزُّهري: ((ما من مُصيبة يُصاب بها المسلم))، وفي رواية أحمد من طريق عبد الرَّزاق عن مَعمر بهذا السَّند: ((ما من وجعٍ أو مرض يُصيب المؤمن))، وفي رواية ابن حبَّان من طريق ابن أبي السَّري عن عبد الرَّزَّاق به: ((ما من مُسلم يشاك شوكة فما فوقها))، ونحوه لمسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه.
          (إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ) من سيِّئاته، وفي رواية: <إلَّا كان كفَّارة لذنبه>؛ أي: يكون ذلك عقوبة بسبب ما كان صدرَ منه من المعصية، ويكون ذلك سببًا لمغفرة ذنبه، ووقع في رواية ابن حبَّان: ((إلَّا رفعه الله بها درجة، وحطَّ عنه بها خطيئة))، ومثله لمسلم من طريق الأسود عن عائشة ♦.
          وهذا يقتضي حصول الأمرين معًا: الثَّواب، ورفع العقاب، وشاهده: ما أخرجه الطَّبراني في «الأوسط» من وجهٍ آخر عن عائشة ♦ بلفظ: ((ما ضرب على مؤمنٍ عرق إلَّا حطَّ الله عنه به خطيئة، وكتب له به حسنة، ورفع له درجة)) وسنده جيِّدٌ.
          وأمَّا ما أخرجه مسلم / أيضًا من طريق عمرة عنها: ((إلَّا كتب له بها حسنة، أو حطَّ عنه بها خطيئة)) فكذا وقع فيه بلفظ: ((أو)) فيحتمل أن يكون شكًا من الرَّاوي، ويحتمل التَّنويع، وهو أوجه، ويكون المعنى: إلَّا كتب الله له بها حسنة إن لم يكن عليه خطايا أو حطَّ عنه خطيئة إن كانت له خطايا. وعلى هذا فمقتضى الأوَّل: أنَّ من ليست عليه خطيئة يزاد في رفعِ درجته بقدر ذلك، والفضل واسعٌ.
          (حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا) جوَّز أبو البقاء فيه أوجه الإعراب، فالجر على أن «حتَّى» جارَّة بمعنى: إلى؛ أي: إلى أن ينتهي إلى الشَّوكة، أو عطفًا على لفظ «مُصيبة»، والنَّصب بفعل محذوف؛ أي: حتَّى يجد الشَّوكة، والرَّفع عطفًا على الضَّمير في «تصيب»، وقال الطِّيبي: «الشَّوكة»: مبتدأ، و«يشاكها» خبره.
          وقال القرطبي: قيده المحققون بالرَّفع والنَّصب، فالرَّفع على الابتداء، ولا يجوز عطفًا على المحل، كذا قال، وفيه: أنَّه يسوغ على تقدير أن «من» زائدة، فافهم، والَّذي يظهر لي أنَّه مرفوع على الابتداء، وخبره محذوف؛ أي: مكفرة. وقوله: ((يُشاكها)) بضم أوله. قال الطِّيبي: والضَّمير في «يُشاكها» مفعوله الثَّاني، والمفعول الأوَّل مضمر؛ أي: شاك المسلم تلك الشوكة.
          قال الكسائي: شكت الرَّجل أشوكه؛ أي: أدخلت في جسده شوكةً، وشيك هو ما لم يسمَّ فاعله ويشاك شوكًا. وقال الأصمعي: شاكتني الشَّوكة: إذا دخلت في جسده، ويُقال: أشكت فلانًا: أذيته بالشوكة. وقال الكرمانيُّ: فإن قلت: هو متعدٍّ إلى مفعول واحدٍ، فما هذا الضَّمير؟ قلت: هو من باب وصل الفعل؛ أي: يُشاك بها، فحذف الجار، وأوصل الفعل.
          وقال ابن التِّين: حقيقة قوله: «يشاكها»؛ أي: يدخلها غيره، ويردُّه ما رواه مسلم من رواية هشام بن عروة: ((ما يصيبُ المؤمن شوكةٌ)) فأضاف الفعل إليها، وهو الحقيقة، ولكن لا يمنع إرادة المعنى الأعم، وهو أن تدخلَ بغير فعل أحدٍ، أو تدخل بفعل أحدٍ، فإن قيل: فعلى هذا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز. فالجوابُ: / أنَّه لا يمتنع عنه مَن يُجوِّز الجمع بين إرادة الحقيقة والمجاز، وأمَّا عند من يمنع ذلك؛ فيكون من باب عموم المجاز.
          وأخرج الإمام أحمد، وصحَّحه أبو عَوانة، والحاكم من حديث عائشة ♦: أنَّ رسول الله صلعم طَرَقه وجعٌ، فجعل ينقلبُ على فراشه ويشتكي، فقالت له عائشة: لو صنع هذا بعضنا لوجدتُ عليه؟ فقال: ((إنَّ الصَّالحين يشدِّد عليهم، وإنَّه لا يُصيب المؤمن نكبة شوكة...)) الحديث.
          وفيه ردٌّ على قول القائل: إنَّ الثَّواب والعقاب إنَّما هو على الكسب، والمصائب ليست منه، بل الأجر على الصَّبر عليها، والرِّضى بها، فإنَّ الأحاديث الصَّحيحة صريحة في ثبوت الثَّواب بمجرد حصولها، وأمَّا الصَّبر والرِّضى فقدر زائدٌ يمكن الثَّواب عليه زيادة على ثواب المعصية.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرةٌ. وقد أخرجه مسلم أيضًا.


[1] في الأصل: (من التَّجانس إذ أجرى كلمتا المادة الاسم والفعل). والتصحيح من القسطلاني، ومنه نقل كما في الهامش.