نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: مثل المؤمن كالخامة من الزرع تفيئها الريح مرة، وتعدلها مرة

          5643- (حَدَّثَنَا) وفي رواية أبي ذرٍّ: <حدَّثني> بالإفراد (مُسَدَّدٌ) هو: ابنُ مسرهد، قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) هو: ابنُ سعيدٍ القطان (عَنْ سُفْيَانَ) هو: الثَّوري (عَنْ سَعْدٍ) بسكون العين، هو: ابنُ إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف الزُّهري ☺ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ) كعب بن مالك أبي عبد الرَّحمن الأنصاري، وهو أحد الثَّلاثة الذين تِيْبَ عليهم (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَالْخَامَةِ) بالخاء المعجمة وتخفيف الميم، / هي الطَّاقة الطَّريَّة اللَّيِّنة أو القَضْبَة، وقيل: هي الغضَّة الرَّطبة من النَّبات أوَّل ما ينبت.
          وفي «المحكم» هي أوَّل ما ينبت على ساقٍ واحدٍ، وقيل: هي الشَّجرة الغضَّة الرَّطبة. وقال الخليل: الخامة: الزَّرع أوَّل ما ينبت على ساقٍ واحدٍ، والألف فيها منقلبة عن واو. ونقل ابن التِّين عن القزاز أنَّه ذكرها: بالمهملة والفاء، وفسَّرها بالطَّاقة من الزَّرع. ووقع في «مسند أحمد» في حديث جابر ☺: ((مثل المؤمن مثل السُّنبلة تستقيمُ مرَّة وتخرُّ مرَّة)). وله في حديث أُبيِّ بن كعب ☺: ((مثلُ المؤمن مثل الخامة تحمرُّ مرَّة، وتصفرُّ أخرى)).
          (مِنَ الزَّرْعِ تُفَيِّئُهَا) بفاء وتحتانية وهمزة، وأصله: من فاء: إذا رجع، وأفاءه غيره: إذا رجعه؛ أي: تُميلها وزنًا ومعنى (الرِّيحُ مَرَّةً) قال الزَّركشي هنا: لم يذكر الفاعل، وهو الرِّيح، وبه يتمُّ الكلام؛ فقد ذكر في باب «كفَّارة المرض»، وهذا من أعجبِ ما وقع له، فإنَّ هذا الباب الذي ذكر فيه ذلك هو باب كفَّارة المرض، ولفظ: ((الرِّيح)) ثابتٌ فيه عند معظم الرِّوايات.
          ونقل ابن التِّين عن أبي عبد الملك: أنَّ معنى «تفيئها»: ترقدها، وتعقَّبه: بأنَّه ليس في اللُّغة فاء إذا رقدَ، وقال الحافظُ العسقلاني: لعلَّه تفسير معنى؛ لأنَّ الرُّقود رجوعٌ عن القيام، وفاء بمعنى: رجعَ، وقال ابنُ قُرْقول: وفي رواية أبي ذرٍّ: <تفيأها> بفتح التاء والفاء.
          (وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى) بفتح التاء الفوقية وسكون العين المهملة وكسر الدال المهملة؛ أي: ترفعها، ويروى: بضم أوله وفتح ثانيه والتشديد. وفي رواية مسلم: ((تفيئها الرِّيح تصرعُها مرَّة، وتعدلُها أُخرى)) فكأنَّ ذلك باختلاف حال الرِّيح، فإن كانت شديدة حرَّكتها فمالت يمينًا وشمالًا حتَّى تقاربَ السُّقوط، وإن كانت ساكنة أو إلى السُّكون أقرب أقامتها، ووقع في رواية زكريَّا عند مسلم: ((حتَّى تهيجَ)) أي: تستويَ ويكمل نضجها، ولأحمد من حديث جابر ☺ مثله.
          ووجه الشَّبه على ما قاله / المهلَّب: أنَّ المؤمن من حيثُ إنَّه إذا جاءه أمرُ الله انطاعَ له، ورضي به، وإن جاءه خيرٌ فرح به وشكر، وإن وقع له مكروهٌ صبر ورجا فيه الخير والأجر، فإذا اندفعَ وارتفعَ عنه اعتدل شاكرًا، والنَّاس في ذلك على أقسام:
          منهم من ينظرُ إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء. ومنهم من يرى أنَّ هذا تصرُّف المالك في ملكه فيُسلِّم، ولا يتعرَّض. ومنهم من تشغلُه المحبَّة عن طلبِ رفع البلاء، وهذا أرفعُ من سابقه. ومنهم من يتلذَّذ به، وهذا أرفعُ الأقسام، قاله أبو الفرج ابن الجوزي.
          وقال الزَّمخشري في «الفائق»: قوله: ((من الزَّرع)) صفة للخامة؛ لأنَّ التَّعريف في الخامة للجنس، و«تفيئها» يجوز أن يكون صِفة أخرى للخامة، وأن يكون حالًا من الضَّمير المتحوِّل إلى الجار والمجرور، وهذا التَّشبيه يجوز أن يكون تمثيليًا فيتوهَّم للمشبَّه ما للمشبَّه به، وأن يكون مقلوبًا بأن يُؤخذ الزَّائد من المجموع. وفيه إشارةٌ إلى أنَّ المريض ينبغي له أن يَرى نفسه في الدُّنيا عارية معزولةً عن استيفاء اللَّذَّات والشَّهوات، معروضة للحوادثِ والمصيبات، مخلوقةً للآخرة؛ لأنَّها جنَّته ودار خلوده.
          (وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ) وفي حديث أبي هُريرة الآتي: ((والفاجر)) [خ¦5644]، وفي رواية زكريَّا عند مسلم: ((الكافر)) (كَالأَرْزَةِ) بفتح الهمزة وسكون الراء وبالزاي، وقيل: بكسر الهمزة، كذا في رواية الأكثر، وقال أبو عبيد: إنَّما هو الآرزة على وزن فاعله، ومعناها: الثَّابتة في الأرض، وأنكر هذا أبو عبيد: بأنَّ الرُّواة اتَّفقوا على عدم المد، وإنَّما اختلفوا في سكون الراء وتحريكه، والأكثر على السُّكون.
          وقال أبو حنيفة الدِّينوري: الراء ساكنة، وليس هو من نبات أرض العرب، ولا ينبت في السِّباخ، بل يطول طولًا شديدًا ويغلظ. قال: وأخبرني الخبير أنَّه ذَكَرُ الصَّنوبر، وأنَّه لا يَحمل شيئًا، وإنَّما يستخرج من أعجازه وعروقه الزِّفت. وقال ابنُ سِيْده: الأرز: العرعر، وقيل: شجرٌ بالشَّام، يُقال له: الصَّنوبر. وقال الخطَّابي: الأرَزة _مفتوحة الراء_ واحدة الأرز، / وهو شجرُ الصَّنوبر فيما يُقال. وقال ابنُ فارس: هي شجرةٌ بالعراق تُسمَّى الصَّنوبر.
          وقال القزَّاز: قاله قوم بالتَّحريك، قالوا: هو ضربٌ من الشَّجر، يُقال له: الأرزن له صلابة، وقالوا: الأرز معروفٌ واحدتُه أرزة، وهو الذي يُقال له: الصَّنوبر، وإنَّما الصَّنوبر ثمرُ الأرز، وقالوا: هو شجرٌ معتدلٌ صلب لا يحرِّكه هبوب الرِّيح، ويقال له: الأرزن.
          وقال العيني: شاهدته في بلاد الرُّوم في أراض بين جبال طرسوس والأرندة وتكيدة، أمَّا طوله فإن شجرة منه قلعها هبوب الرِّياح الشَّديدة من جبل، ووصل طرفه إلى جبلٍ آخر بينهما وادٍ عظيم، فصار كالجسر من جبلٍ إلى جبل، وأمَّا غلظه فإنَّ عشرين نفسًا وأكثر مسك بعضُهم بأيادي بعض، ولم يقدروا على أن يحضنُوها، والعهدة عليه.
          (لاَ تَزَالُ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً) الانجعاف _بجيم ومهملة ثم فاء_، بمعنى الانقلاع، يقال: جعفتُه فانجعفَ مثل قلعتُه فانقلع. ونقل ابن التِّين عن الدَّاودي: أنَّ معناه: انكسارها من وسطهَا أو أسفلها. ووجه الشَّبه: أنَّ المنافق لا يتفقَّده باختباره، بل يُجعل له التَّيسير في الدُّنيا، ويُعافيه فيها ويُسهِّل عليه أموره؛ ليتعسَّر عليه الحال في المعاد، حتَّى إذا أراد الله إهلاكَه قصمَه قصمَ الأرزة الصَّماء، فيكون موتُه أشدَّ عذابًا عليه، وأكثرَ ألمًا في خروج نفسه، قاله المهلَّب أيضًا.
          وقال غيره: المعنى: أنَّ المؤمن يتلقَّى الأعراض الواقعة عليه؛ لضعف حظِّه من الدُّنيا، فهو كأوائل الزَّرع شديد الميلان؛ لضعف ساقه، والكافر بخلاف ذلك، وهذا في الغالب من حال الاثنين.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة تؤخذ من قوله: ((مثل المؤمن كالخامةِ من الزَّرع))؛ لأنَّ المراد من تشبيه المؤمن بالخامة كونه تارةً يصحُّ، وتارةً يضعف، كالخامة تحمرُّ وتصفرُّ، فلا تبقى على حالةٍ واحدةٍ.
          وقد أخرجه مسلمٌ في «التَّوبة»، والنَّسائي في «الطِّب».
          (وَقَالَ زَكَرِيَّا) أي: ابن أبي زائدة / (حَدَّثَنِي) بالإفراد (سَعْدٌ) هو: ابنُ إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف ☺ المذكور من قبل، قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ كَعْبٍ) عبد الله (عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ) أي: ابن مالك ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) وهذا التَّعليق وصله مسلم من طريق عبد الله بن نُمير، ومحمد بن بشر كلاهما عنه، وأشار البُخاريُّ بهذا التَّعليق إلى شيئين: الأوَّل: أنَّ فيه اسم ابن كعب مبهم، والثَّاني: تصريحه بالتَّحديث عن سعد. فيستفاد من رواية سفيان: تسميته، ومن رواية زكريَّا التَّصريح باتِّصاله.
          وقد وقع في رواية لمسلم عن سُفيان: تسميته عبد الرَّحمن بن كعب، ولعلَّ هذا هو السِّرُّ في إبهامه في رواية زكريَّا، فيستفاد من صنيع مسلم في تخريج الرِّوايتين عن سُفيان: أنَّ الاختلاف إذا دار على ثقةٍ لا يضر، قاله الحافظُ العسقلاني.