نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما جاء في كفارة المرض

          ░1▒ (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفًا على قوله: «ما جاء»؛ لأنَّه مجرور محلًا بالإضافة ({مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}) الآية في سورة النِّساء. قال الكرمانيُّ: مناسبة الآية للباب هو أنَّ الآية أعمُّ من يوم القيامة، فيتناول الجزاء في الدُّنيا بأن يكون مرضه عقوبة لتلك المعصية، فيُغفر له بسبب ذلك المرض، فالمعنى أنَّ كلَّ من يعمل سيئة فإنَّه يجازى بها. وقال ابن المـُنيِّر: الحاصل أنَّ المرض كما جاز أن يكون مكفِّرًا للخطايا فكذلك يكون جزاء لها. وقال ابن بطَّال: ذهب أكثر أهل التَّأويل إلى أنَّ معنى الآية: أنَّ المسلم يجازى على خطاياه في الدُّنيا بالمصائب التي تقع له فيها، فتكون كفَّارة لها.
          وعن الحسن وعبد الرَّحمن بن زيد: أنَّ الآية المذكورة نزلت في الكفَّارة خاصَّة، والأحاديث في الباب تشهدُ للأوَّل، وما نُقِل عنهما أورده الطَّبري وتعقَّبه. ونقل ابن التِّين عن ابن عبَّاس ☻ نحوه، والأوَّل هو المعتمدُ. وقال أبو اللَّيث عن علي ☺ قال: لما نزل قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] خرج علينا رسول الله صلعم فقال: ((لقد أُنزلت عليَّ آيةٌ هي خيرٌ لأمتي من الدُّنيا وما فيها)) ثمَّ قرأها، ثمَّ قال: ((إنَّ العبد إذا أذنب ذنبًا فتصيبه شدَّةٌ أو بلاءٌ في الدُّنيا، فإنَّ الله تعالى أكرمُ من أن يُعذِّبه ثانيًا)).
          وقد روى أحمد، وصحَّحه ابن حبَّان: أنَّه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصِّدِّيق ☺: يا رسول الله كيف الصَّلاح بعد / هذه الآية: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]، فقال صلعم : ((غفر الله لك يا أبا بكرٍ ألستَ تمرضُ؟ ألست تنصب؟ ألست تحزنُ؟ ألست تصيبك اللأواء؟)) قال: بلى، قال: ((فهو ما تجزون به)).
          وعند أحمد والبيهقي، وحسَّنه التِّرمذي عن أُميَّة بنت عبد الله قالت: سألت عائشة ♦ عن هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] فقالت: سألت عنها رسول الله صلعم فقال: ((يا عائشة هذه مبايعةُ الله العبد بما يصيبه من الحمَّى والحزن والنَّكبة، حتَّى البضاعة يضعها في كفِّه فيفقدها فيفزعُ لها، فيجدها تحت ضِبْنِه، حتَّى إنَّ العبد ليخرج من ذُنوبه، كما يخرج التَّبر الأحمرُ من الكير)).
          وروى مسلمٌ من طريق محمد بن مخرمة عن أبي هُريرة ☺ قال: لما نزلت {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا (1)، فقال رسول الله صلعم : ((قاربوا وسدِّدوا، ففي كلِّ ما يصاب به المسلم حتَّى النَّكبة ينكبها، والشَّوكة يشاكها)) ولمَّا كانت هذه الأحاديث الواردة في سبب نزول الآية ليست على شرط البُخاري ذكر هذه الآية، ثمَّ أورد من الأحاديث ما هو على شرطه.
          وقد استدلَّ المعتزلة بهذه الآية على أنَّه تعالى لا يعفو عن شيءٍ من السَّيِّئات، وأُجيبوا: بأنَّه يجوز أن يكون المراد من هذا: ما يصل الإنسان في الدُّنيا من الهموم والآلام والأسقام، ويدلُّ له آية: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة:38]، والله تعالى أعلم.


[1] بياض في الأصل مكان: (شديدًا)، وأشار في الهامش إلى أنَّ النقل من العسقلاني، والمثبت منه، وهو الذي في مسلم.