نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول المريض: إني وجع، أو: وارأساه، أو: اشتد بي الوجع

          ░16▒ (بابُ) جواز (قولِ المَرِيضِ: إِنِّي وَجِعٌ) بفتح الواو وكسر الجيم. قال الجوهري: يُقال: وَجِع فلانٌ يَوْجَع ويَيْجَع ويَاجَع فهو وَجِع، وقوم وَجِعون ووَجْعى ووَجِعات، وقال: الوجع: المرض، والجمع أوجاعٌ ووجاع، وفي رواية أبي ذرٍّ: <باب ما رُخصِّ للمريض أن يقول إنِّي وجع> (أَوْ) قوله: (وَارَأْسَاهْ) وهو تفجُّع على الرَّأس من شدَّة صداعه، وهو مذكورٌ صريحًا في حديث الباب [خ¦5666] (أَوِ اشْتَدَّ) أي: أو قوله: اشتدَّ (بِي الْوَجَعُ) بفتح الجيم.
          (وَقَوْلِ أَيُّوبَ) ◙، بالجرِّ عطف على قول المريض ({أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ}) الضُّر _بالضم_: الضَّرر في النَّفس من مرض أو هُزال، وبالفتح: الضَّرر في كلِّ شيءٍ ({وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]) أَلْطَفَ في السُّؤال حيث ذكر نفسه بما يُوجب الرَّحمة، وَذكَرَ ربَّه بغاية الرَّحمة، ولم يُصرِّح بالمطلوب، فكأنَّه قال: أنت أهل أن ترحمَ، وأيُّوب أهلٌ أن يُرحم، فارحمْه واكشفْ عنه الضُّر الَّذي مسَّه.
          قال الطِّيبي: لم يقل: ارحم ضري ليعمَّ ويشمل، ويشعر بالتَّعليل، ولذلك استُجيب له. ورُوي عن أنس ☺: أخبر أيُّوب عن ضعفهِ حين لم يقدر على النُّهوض إلى الصَّلاة، ولم يشكُ، وكيف يشكو من قيل له: / {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص:44]. وقيل: إنَّما اشتكى إليه تلذذًا بالنَّجوى، لا منه تضررًا بالشَّكوى، والشِّكاية إليه غاية القرب، والشِّكاية منه غاية البُعد، وقد استشكل إيراد المؤلِّف لهذه الآية هنا.
          قال صاحب «التوضيح»: قول أيُّوب ◙: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83] ليس ممَّا يشاكل تبويبه؛ لأنَّ أيُّوب ◙ إنَّما قال ذلك داعيًا، ولم يذكره للمخلوقين، وقد ذكر: أنَّه كان إذا سقطت دودة من بعضِ جراحه ردَّها إلى مكانها. وقد نقل هذا من ابن التِّين.
          وقال الحافظُ العسقلاني: لعل البُخاري أشار إلى أنَّ مُطلق الشَّكوى لا تُمنع، ردًا على من زعم من الصُّوفية: أنَّ الدُّعاء بكشفِ البلاء يقدحُ في الرِّضى والتَّسليم، فنبَّه على أنَّ الطَّلب من الله تعالى ليس ممنوعًا، بل فيه زيادة عبادة؛ لما ثبتَ مثل ذلك عن المعصوم، وأثنى الله عليه بذلك، وأثبتَ له اسم الصَّبر مع ذلك.
          وقد رُوِي في قصَّة أيُّوب ◙ في «فوائد سمويه» وصحَّحه ابن حبَّان، والحاكم من طريق الزُّهري عن أنس ☺ رفعه: ((أنَّ أيُّوب لما طالَ بلاؤهُ رفضَه القريب والبعيد غير رجلين من إخوانه، فقال أحدُهما لصاحبه: لقد أذنب أيُّوب ذنبًا ما أذنبه أحدًا من العالمين، فبلغَ ذلك أيُّوب _يعني: فجزع من قوله_ فدعا ربَّه فكشف ما به)). وعند ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عبيد بن عُمير موقوفًا عليه نحوه، وقال فيه: «فجزع من قولهما جزعًا شديدًا، ثمَّ قال: بعزَّتك لا أرفع رأسي حتَّى تكشف عنِّي وسجد، فما رفع رأسه حتَّى كشف عنه».
          فكأنَّ مراد البُخاري: أنَّ الذي يجوز من شكوى المريض ما كان على طريق الطَّلب من الله، أو على غير طريق التَّسخُّط للقدر والتَّضجر. انتهى.
          وقال العيني: المذموم هو الشَّكوى إلى الخلق، أمَّا إلى الخالق فلا، ولقد شكى الألم والوجع النَّبيُّ صلعم وأصحابه وجماعة ممَّن يقتدى بهم، فقد أخرج البُخاري في كتاب «الأدب المفرد» من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: دخلتُ أنا وعبد الله بن الزُّبير على أسماء _يعني: بنت / أبي بكر ☺_، وهي أمهما وأسماء وَجِعة، فقال لها عبد الله: كيف تجدينك؟ قالت: وجعة. الحديث.
          وأصرح منه ما روى صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرَّحمن بن عوف عن أبيه ☺ قال: دخلتُ على أبي بكر ☺ في مرضه الذي توفي فيه، فسلمتُ عليه وسألته: كيف أصبحت؟ فاستوى جالسًا، فقلت: أصبحت بحمدِ الله بارئًا، قال: أما إنِّي على ما ترى وَجِعٌ، فذكر القصَّة. أخرجه الطَّبراني.
          ورُوِيَ: أنَّ الحسن البصري دخلَ عليه أصحابه، وهو يشكو ضرسه فقال: ربِّ مسني الضُّر وأنت أرحم الرَّاحمين.
          ولا أحد من بني آدم إلَّا وهو يألمُ من الوجع، ويتشكَّى من المرض، إلَّا أنَّ المذموم من ذلك ذكره للنَّاس تضجرًا وتسخُّطًا. وأمَّا من أخبر به إخوانه ليدعو له بالشِّفاء والعافية، وطبيبه عن حاله ليعالجه بما يناسبه فلا بأسَ به اتِّفاقًا.
          وقال الطَّبري: اختلف النَّاس في هذا الباب، والتَّحقيق: أنَّ الألم لا يقدر أحدٌ على دفعه، والنُّفوس مجبولةٌ على وجدان ذلك، فلا يُستطاع تغييرها عمَّا جُبلت عليه، وإنَّما كُلِّف العبد أن لا يقعَ منه في حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه كالمبالغة في التَّأوُّه والجزع الزَّائد، فإنَّ من فعل ذلك خرجَ عن معاني أهل الصَّبر، وأمَّا مجرد التَّشكِّي فليس بمذمومٍ حتَّى يحصل التَّسخُّط للمقدور.
          وقد اتَّفقوا على كراهة ذكره للنَّاس على سبيل التَّضجر، وأمَّا أنينه وتأوهه فليس بشكوى، بل هو استراحة. وروى أحمد في «الزهد» عن طاوس، أنَّه قال: إنَّ أنين المرض شكوى. وجزم أبو الطَّيِّب وابن الصباغ وجماعة من الشَّافعيَّة: أن أنين المريض وتأوهه مكروه، وتعقَّبه النَّووي فقال: هذا ضعيفٌ، أو باطل، فإنَّ المكروه ما ثبت فيه نهيٌ مقصود، وهذا لم يثبت فيه ذلك، ثمَّ احتجَّ بحديث عائشة ♦ المذكور في الباب، ثمَّ قال: لعلَّهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنَّه لا شكَّ أن اشتغاله بالذِّكر أولى. انتهى.
          ولعلَّهم أخذوه من كون كثرة الشَّكوى يدلُّ على ضعف اليقين، / ويشعر بالتَّسخُّط للقضاء ويُورث شماتة الأعداء، والله تعالى أعلم.