نجاح القاري لصحيح البخاري

باب فضل من يصرع من الريح

          ░6▒ (بابُ فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ مِنَ الرِّيحِ) كلمة «من» تعليلية؛ أي: فضل من يحصل له صرع بسبب الرِّيح؛ أي: الرِّيح التي تنحبسُ من شدَّةٍ تَعْرُضُ في منافذ الدِّماغ، ومجاري الأعصاب، وتمنعُ الأعضاء الرَّئيسة عن انفعالها منعًا غير تام.
          والحاصل: أنَّ سببه ريحٌ غليظٌ تنحبس في منافذ الدِّماغ، أو بخار رديءٌ يرتفع إليه من بعض الأعضاء، والرِّيح: هو ما يكون منشأ للصرع، وسببه سَدَّة تَعرض في بطون الدِّماغ، وفي مجاري الأعصاب المحركة، وربما يتبعه تشنُّجٌ في الأعضاء فلا يبقى الشَّخص معه منتصبًا، بل يسقط ويقذف بالزَّبد لغلظ الرُّطوبة، وقد يكون الصَّرع من الجنِّ، ولا يقع إلَّا من النُّفوس الخبيثة منهم.
          وقال الشَّيخ أبو العبَّاس: صرع الجنِّ للإنس قد يكون عن شهوةٍ وهوى وعشق؛ لاستحسان بعض الصُّور الإنسية، كما يتَّفق للإنس مع الإنس، وقد يتناكحُ الإنس والجنُّ، ويولد بينهما ولدٌ، وقد يكون عن بغضٍ ومجازاة مثل أن يُؤذيهم بعض الإنس، أو يبول على بعضهم، أو يصب ماء حارًا، أو يقتل بعضهم، وإن كان الإنس لا يعرف ذلك.
          والأوَّل هو الَّذي يثبته جميع الأطباء ويذكرون علاجه، والثَّاني يجحدُه كثير منهم، وبعضُهم يثبته، ولا يَعْرِفُ له علاجًا إلَّا بمقاومة الأرواح الخيرة العلوية؛ لتدفع آثار الأرواح / الشِّريرة السُّفلية، وتبطل أفعالها. وممَّن نصَّ على ذلك أبقراط فقال لما ذكر علاج المصروع: هذا إنَّما ينفع في الذي سببه أخلاط، وأمَّا الذي يكون من الأرواح فلا. وأنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي وأبي بكر الرَّازي ومحمد بن زكريَّا الطَّبيب وآخرون دخول الجنِّ في بدن المصروع، وأحالوا وجودَ روحين في جسدٍ واحدٍ مع إقرارهم بوجود الجنِّ، وهذا خطأ.
          وذكر أبو الحسن الأشعري في «مقالات أهل السُّنَّة والجماعة»: أنَّهم يقولون: إنَّ الجنَّ يدخل في بدن المصروع، كما قال الله ╡: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إنَّ قومًا يقولون: إنَّ الجن لا يدخل في بدن الإنس، فقال: يا بني يكذبون، هو ذا يتكلَّم على لسانه.
          وفي حديث أمِّ أبان الذي رواه أبو داود وغيره قول رسول الله صلعم : ((اخرج عدوَّ الله))، وكذا في حديث أسامة بن زيد: ((اخرجْ يا عدوَّ الله، فإنِّي رسول الله)). وقال القاضي عبد الجبار: أجسامهم كالهواء، فلا يمنعُ دخولهم في أبدان الإنس، كما تدخل الرِّيح والنَّفس المتردِّد، والله تعالى أعلم.