نجاح القاري لصحيح البخاري

باب المسك

          ░31▒ (باب الْمِسْكِ) بكسر الميم: الطِّيب المعروف، وهو فارسيٌّ معرَّب، وأصله بالشين المعجمة، والعرب إذا استعملوا لفظاً أعجمياً غيَّروه بزيادة أو نقصان، أو قَلْبِ حَرْفٍ بحرف غيره، والقطعة منه مسكة، والجمع كِعنَب. /
          وقال الكِرمانيُّ: وَجْهُ إيرادِ هذا الباب في كتاب الصَّيد كون المسك فضلة الظَّبي، والظَّبي ممَّا يُصاد، وقيل: المِسْكُ هو من دويبة تكون في الصِّين تُصَاد لنوافجها وسررها، فإذا صِيْدَت شُدت بعَصَائِب، وهي مُدْلِيَةٌ يجتمع فيها دمٌ، فإذا ذُبِحَتْ قُوِّرت السُّرة التي عُصِبَت، ودفنت في الشَّعر حتَّى يستحيلَ ذلك الدَّم النَّجس والجامد مسكاً ذكيًّا بعد أن كان لا يرام من النَّتن.
          وفي «مشكل الوسيط» لابن الصَّلاح: عن ابن عقيل البغدادي: أنَّ النَّافجة في جوف الظَّبية كالأنفحة في الجدي، وأنَّه سافر إلى بلاد الشَّرق حتَّى حمل هذه الدَّابة إلى بلاد المغرب، لخلافٍ جرى فيها. وقيل: غزال المسك كالظِّباء، إلَّا أنَّ له نابين معنقين خارجين من فمهِ كالفيل والخنزير، ويُؤخذ المسك من سرَّته، وله وقت معلوم من السَّنة يجتمعُ في سرَّته دم بمنزلة المواد التي تَنْصُّب إلى الأعضاء، فإذا اجتمع ورمَ الموَضعُ، فمَرِضَ الغزالُ إلى أن يَسْقُطَ منه، وهذه السُّرة جعلَها الله تعالى معدناً للمسك. ويقال: إنَّ أهلَ تلك البلاد يضربون لها أوتاداً في البريَّة تحتك بها فيسقطُ.
          وعن علي بن مهدي الطَّبري أحد أئمة أصحاب الشَّافعي: أنَّها تلقيها من جوفها، كما تلقي البيضةَ الدَّجاجةُ، والمشهور: أنَّها ليست مودعة في الظَّبية، بل هي خارجةٌ مقتحمةٌ في سرتها. ونُقِلَ عن القفَّال الشَّاشي: أنَّها تندفعُ بما فيها من المسك، فتطهرُ كطهارة المدبوغات.
          وقد ذكر القزويني: أنَّ دابة المسك تخرج من الماء كالظِّباء في وقت معلوم، والنَّاس يصيدون منها شيئاً، فتذبح فيوجد في سرَّته دم، وهو المسك لا يُوجد له هناك رائحة إلى أن يحملَ إلى غير ذلك الموضع من البلاد، وفي «القاموس»: هو مقوٍّ للقلب، مشجِّع للسَوداويِّين، نافع للخفقان، والرِّياح الغليظة في الأمعاء والسُّمُومِ والسُّدَد.
          وقال النَّووي: أجمعوا على أنَّ المسك طاهر يجوز استعماله في البدن / والثَّوب، ويجوز بيعه. وحكى ابن التِّين عن ابن شعبان من المالكيَّة: أنَّ فأرة المسك إنَّما تُؤخذ من حال الحياة، أو بذكاة من لا تصحُّ ذكاته من الكَفَرة، وهي مع ذلك محكومٌ بطهارتها؛ لأنَّه يستحيلُ عن كونه دماً حتَّى يصيرَ مسكاً، كما يستحيل الدَّم إلى اللَّحم، ويحلُّ أكله، وليست بحيوان حتَّى يقال: نجست بالموت، وإنَّما هو شيءٌ يحدث من الحيوان كالبيض، وقد أجمع المسلمون على طهارة المسك، إلَّا ما حكيَ عن عمر ☺ من كراهته، وكذا حكى ابنُ المنذر عن جماعة، ثمَّ قال: ولا يصحُّ المنع فيه إلَّا عن عطاء بناءً على أنَّه جزء منفصلٌ من حيٍّ، وقالت الحنفيَّة: المسك حلالُ للرِّجال والنِّساء.
          وفي «التَّوضيح»: قال ابنُ المنذر: وممَّن أجاز الانتفاعَ بالمسك عليُّ بن أبي طالب، وابن عمر، وسلمان الفارسيُّ ♥ . ومن التَّابعين: سعيد بن المسيَّب وابن سيرين وجابر بن زيد، ومن الفقهاء مالك واللَّيث والشَّافعي وأحمد وإسحاق، وخالف في ذلك آخرون، وذكر ابن أبي شيبة عن عُمر بن الخطَّاب ☺: أنَّه كَرِهَ المسك، وقال: لا تحنطوني به، وكرهَه عمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن ومجاهد والضَّحَّاك، وقال أكثرهم: لا يصلحُ للحيِّ ولا للميِّت، وهو عندهم بمنزلة ما قطع من الميتة، وقال ابنُ المنذر: لا يصحُّ ذلك إلَّا عن عطاء، وهذا قياس غير صحيحٍ.
          وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري ☺ مرفوعاً: ((أطيبُ طيبكُم المسك)) وهذا نصٌ قاطعٌ للخلاف، وقال ابنُ المنذر: وقد روِّينا عن رسول الله صلعم بإسنادٍ جيدٍ: أنَّه كان له مسك يتطيَّب به.