نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ذبائح أهل الكتاب وشحومها من أهل الحرب وغيرهم

          ░22▒ (باب) جواز أكل (ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ) أي: اليهود والنَّصارى (وَ) جواز أكل (شُحُومِهَا) أي: شحوم أهل الكتاب (مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ) كلمة ((من)) يجوز أن تكون بيانيَّة، ويجوز أن تكون تبعيضيَّة، والمراد من أهل الحرب: الذين لا يعطون الجزية (وَغَيْرِهِمْ) أي: وغير أهل الحربِ من الذين يعطون الجزية؛ لأنَّ التَّذكية لا تقعُ عن بعضٍ دون بعض من أهل الكتاب، وكذا / لا تقعُ عن بعض أجزاء المذبوح دون بعض، وإذا كانت التَّذكيةُ شائعةً في جميعها شملتِ الشُّحوم أيضاً، وعن مالك وأحمد: تحريمُ ما حرم على أهل الكتاب كالشُّحوم، فأشار البُخاري ☼ بهذه التَّرجمة إلى قول الجمهور، وهو: جواز ذبائحِ أهل الكتاب، وجوازُ أكلِ شُحومهم.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطف على قوله: ذبائح ({الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5]) وهي ما ليس بخبيث، وهو كلُّ ما لم يأتِ تحريمُه في كتاب أو سنَّة أو إجماع، وهذا المقدار في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره: زيد قوله تعالى: ({وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}) والمراد: ذبائحهم؛ لأنَّ سائر الأطعمة لا يختصُّ حلها بالملَّة، وبإثباته يتم الاستدلال، إذ البُخاريُّ ☼ أورد هذه الآية في معرض الاستدلال على جواز أكلِ ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى من أهل الحرب وغيرهم، إذ لم يخصَّ ذمياً من حربي، ولا لحماً من شحم، وكون الشُّحوم محرَّمة عليهم لا يضرُّنا ذلك؛ لأنَّها محرَّمةٌ عليهم لا علينا، وبحلِّ ذبائحهم قال ابن عبَّاس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جُبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النَّخعي والسُّدي ومقاتل بن حيَّان، وهذا أمر مُجْمَعٌ عليه بين العُلماء، إذ ذبائحهم حلالٌ للمسلمين؛ لأنَّهم يعتقدون تحريم الذَّبح لغير الله تعالى، ولا يذكرون على ذبائحهم إلَّا اسم الله تعالى، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزَّه عنه، ولا يُباح ذبائح من عداهم من أهل الشِّرك ومن شابههم؛ لأنَّهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهِم وقرابينهم، وهم لا يتعبَّدون بذلك، ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللَّحم على ذكاة، بل يأكلون الميتة، بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السَّامرة والصَّابئة، ومن تمسَّك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء ‰ على أحد قولي العُلماء، ونصارى العرب كبني تغلب وتنوخ وبهز وجذام ولخم وعاملة، ومن شابههم لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور.
          ({وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} وَقَالَ الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم (لاَ بَأْسَ بِذَبِيحَةِ نَصَارَى الْعَرَبِ) وهو مروي عن ابن عبَّاس ☻ أيضاً كما في «اللباب». والذي في اليونينيَّة: <نصارِيّ العرب> بكسر الراء وتشديد التحتية، وقد وصله عبد الرَّزاق / عن معمر قال: سألت الزُّهري عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا بأس بذبيحة نصارى العرب.
          (وَإِنْ سَمِعْتَهُ) أي: الذي (يُسَمِّي لِغَيْرِ اللَّهِ) كأن يذبحَ باسم المسيح (فَلاَ تَأْكُلْ) وبه قال ابنُ عُمر ☻ ، وهو قولُ ربيعة، وبه قال الإمام الشَّافعي، وعبارته: إن كان لهم ذبح يسمُّون عليه غير اسم الله مثل اسم المسيح لم يحل، وإن ذُكِرَ المسيحُ على معنى السَّلامة عليه لم يحرم. وحكى البيهقيُّ بحثاً عن الحليمي: أهل الكتاب إنَّما يذبحون لله تعالى، وهم في أصل دينهم لا يقصدون بعبادتهم إلَّا الله تعالى، فإذا كان قصدهم في الأصل ذلك اغتفرت ذبيحتهم، ولم يضر قول من قال مثلاً: باسم المسيح؛ لأنَّه لا يريد بذلك إلَّا الله تعالى، وإن كان قد كفرَ بذلك الاعتقاد.
          (وَإِنْ لَمْ تَسْمَعْهُ) يسمِّي لغير الله (فَقَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ) زاد أبو ذرٍّ: <لك> (وَعَلِمَ كُفْرَهُمْ) وزاد عبد الرَّزاق في آخره: ((وإهلاله أن يقول: باسم المسيح))، قال العينيُّ: وهو في «الموطأ» مرفوعاً (وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ) أي: ابن أبي طالب ☺ (نَحْوُهُ) أي: نحو ما رُوِيَ عن الزُّهري ذكره بصيغة التَّمريض إشارة إلى ضعفه، بل لم يصحَّ عنه، إذ جاء عنه ☺ من وجه صحيحٍ المنع عن ذبائح بعض نصارى العرب، أخرجه الشَّافعي وعبد الرَّزاق بأسانيد صحيحة: عن محمد بن سيرين، عن عَبيدة السَّلماني، عن علي ☺: لا تأكلوا ذبائح بني تغلب؛ فإنَّهم لم يتمسَّكوا من دينهم إلَّا شرب الخمر، يعني: أنَّهم ليسو على النَّصرانية، ولم يأخذوا منها إلَّا شرب الخمر.
          قال في «اللباب» وبه أخذ الشَّافعي.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) أي: البصري (وَإِبْرَاهِيمُ) أي: النَّخعي (لاَ بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الأَقْلَفِ) بفتح الهمزة وسكون القاف وفتح اللام وبالفاء، وهو الذي لم يختن، والقُلفة، ويقال: بالغين المعجمة: الغُرْلَة، وهي الجلدةُ التي تسترُ الحشفة، وأَثَرُ الحسنِ رواه عبد الرَّزاق، عن معمر، قال: كان الحسن يرخِّص في الرَّجل إذا أسلم بعد ما يَكْبَرُ، فخاف على نفسه إن اختتنَ أن لا يختتنَ، وكان لا يرى بأكلِ ذبيحته بأساً.
          وأثر إبراهيم: أخرجَه أبو بكر بن الخلال من / طريق سعيدِ بن أبي عَرُوبة، عن مغيرة، عن إبراهيم النَّخعي قال: لا بأسَ بذبيحة الأقلف، لكن أخرج ابنُ المنذر، عن ابن عبَّاس ☻ : الأقلف: لا تُؤكل ذبيحتُه، ولا تقبلُ صلاته، ولا شهادته، وقد حكى ابنُ المنذر الإجماع على جواز ذبيحته؛ لأنَّه سبحانه أباح ذبائحَ أهل الكتاب، ومنهم من لا يختتنُ.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ في تفسير قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5] (طَعَامُهُمْ: ذَبَائِحُهُمْ) يعني: أنَّ المراد من طعامهم: ذبائحهم دون ما أكلوه؛ لأنَّهم يأكلون الميتة ولحم الخنزير والدَّم، ولا يحلُّ لنا شيء من ذلك بالإجماع، وقد مرَّ هذا عن قريب.
          وهذا التَّعليق ذُكِرَ هنا عند المستملي، وعند السَّرخسي والحمُّويي: في آخر الباب عَقِيبَ الحديث المذكور بعينه، وقد وصله البيهقيُّ.