نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر}

          ░12▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة:96]) كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية النَّسفي: <{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ}>. وروى سعيد بن المسيَّب وسعيد بن جُبير، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة:96] يعني: ما يصطادُ منه طرياً، وطعامه: ما يتزوَّد منه مليحاً يابساً.
          وقوله: (({مَتَاعاً لَكُمْ})) أي: منفعةً وقوتاً لكم أيُّها المخاطبون، وانتصابه على أنَّه مفعول له؛ أي: تمتيعاً لكم، وقوله: ({وَلِلسَّيَّارَةِ}) جمع سيار، وقال عكرمةُ: لمن كان يحضره البحر وللسفر.
          (وَقَالَ عُمَرُ) أي: ابن الخطَّاب ☺ (صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ) بكسر الطاء وتضم، كما في اليونينيَّة (وَطَعَامُهُ مَا رَمَى بِهِ) أي: ما قذفه.
          وهذا التَّعليق وصله عبدُ بن حميد من طريق عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هُريرة ☺ قال: «لما قدمتُ البحرين سألني أهلها عمَّا قذف، فأمرتهم أن يأكلوه، فلمَّا قدمتُ على عمر ☺، فذكر قصَّته قال: فقال عمر ☺: قال الله ╡ في كتابه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ}» [المائدة:96] فصيده: ما صيدَ، وطعامه: ما قذف به.
          (وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ☺: الطَّافِي حَلاَلٌ) والطَّافي من غير همز: هو الذي يموت في البحر، ويعلو فوق الماء، ولا يرسبُ فيه من طفا يطفو: إذا علا الماء ميتاً.
          وهذا التَّعليق وصله ابنُ أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ / ، قال: «أشهد على أبي بكر، أنَّه قال: السَّمكة الطَّافية على الماء حلالٌ». زاد الطَّحاوي في كتاب الصَّيد: «حلال لمن أراد أكلَه». وقال أصحابنا الحنفيَّة: يُكْرَه أكل الطَّافي. وقال مالك والشَّافعي وأحمد والظَّاهرية: لا بأسَ به؛ لإطلاق قوله صلعم : ((البحر هو الطَّهور ماؤه، والحلُّ ميتته)).
          واحتجَّ أصحابنا بما رواه أبو داود وابن ماجه عن يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن سليم، عن إسماعيل بن أميَّة، عن أبي الزُّبير، عن جابر ☺: أنَّ رسول الله صلعم قال: ((ما ألقاهُ البحر أو جذر عنه فكلُوه، وما مات فيه وطفَا فلا تأكلوهُ))، فإن قيل: ضعَّف البيهقيُّ هذا الحديث، وقال: يحيى بن سليم كثير الوهم، سيئ الحفظِ، وقد رواه غيره موقوفاً، فالجواب: أنَّ يحيى بن سليم أخرج له الشَّيخان فهو ثقةٌ، وزاد فيه الرَّفع، ونقل ابن القطَّان في كتابه: عن يحيى: أنَّه ثقةٌ، فإن قيل: قال ابن الجوزيِّ: إسماعيل بن أميَّة متروكٌ، فالجواب: أنَّه ظنَّ أنَّه إسماعيل بن أميَّة أبو الصَّلت الزَّراع، وهو متروكُ الحديث، وأمَّا هذا: فهو إسماعيل بن أميَّة القرشي الأموي، والذي ظنَّه ليس في طبقته.
          فإن قيل: قال أبو داود: رواه الثَّوري وأيُّوب وحماد عن أبي الزُّبير موقوفاً على جابر ☺، وقد أسندَ من وجه ضعيفٍ عن ابنِ أبي ذئب عن أبي الزُّبير عن جابر عن النَّبي صلعم قال: ((ما اصطدْتُمُوه وهو حيٌّ فكلوه، وما وجدتُم ميِّتاً طافياً فلا تأكلوهُ)). وقال التِّرمذي: سألتُ محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: ليس بمحفوظ، وروي عن جابر ☺ خلاف هذا، ولا أعرفُ لابن أبي ذئب عن أبي الزُّبير شيئاً.
          فالجواب: أنَّ قول البُخاري: لا أعرف لابن أبي ذئب شيئاً على مذهبهِ في أنَّه يشترط لاتِّصال إسناد العنعنةِ ثبوت السَّماع، وقد أنكرَ مسلم ذلك إنكاراً شديداً، وزعم أنَّه قول مخترعٌ، وأنَّ المتَّفق عليه أنَّه يكفي للاتصال / إمكان اللِّقاء والسَّماع، وابنِ أبي ذئب أدرك زمان أبي الزُّبير بلا خلاف، وسماعُه منه ممكنٌ. فإن قيل: قال البيهقي: ورواه عبدُ العزيز بن عبد الله، عن وهب بن كَيسان، عن جابر ☺ مرفوعاً، وعبد العزيز ضعيفٌ لا يُحْتَجُّ به. فالجواب: أنَّه أخرج الحاكم في «المستدرك» حديثاً عنه، وصحَّح سنده. وأخرج حديثه هذا: الطَّحاوي في «أحكام القرآن»: فقال: حدَّثنا الرَّبيع بن سليمان المرادي، عن أسد بن موسى: حدَّثنا إسماعيل بن عياش: حدَّثني عبد العزيز بن عبد الله، عن وهب بن كَيسان، ونُعيم بن عبد الله المجمر، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلعم قال: ((ما جذر البحر فكلْ، وما ألقى فكلْ، وما وجدته طافياً فوقَ الماء فلا تأكلْ)).
          وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] عامٌّ خصَّ منه غير الطَّافي من السَّمك بالاتِّفاق، والطَّافي مختلفٌ فيه فبقي داخلاً في عموم الآية، والله تعالى أعلم.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ في تفسير قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ} ({طَعَامُهُ}: مَيْتَتُهُ) أي: ميتة البحر (إِلاَّ مَا قَذِرْتَ مِنْهَا) بكسر الذال المعجمة وفتحها، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشْمِيْهَني: <منه> بالتَّذكير. وهذا التَّعليق وصله الطَّبري من طريق أبي بكر بن حفص، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة:96] قال: وطعامه: ميتته، وليس في الموصول قوله: ((إلَّا ما قذرتَ منها)). وجميع ما يصطاد من البحر ثلاثة أجناس:
          الحيتان: وجميع أنواعها حلالٌ. والضَّفادع: وجميع أنواعها حرامٌ. واختُلِفَ فيما سوى هذين: فقال أبو حنيفة ☼ : حرام، وقال الأكثرون: حلالٌ؛ لعموم هذه الآية. وتفصيل الأدلَّة من الطَّرفين في الفروع. ثمَّ إنَّه قيل: قوله: {وَطَعَامُهُ} في الآية بمعنى الإطعام؛ أي: اسم مصدر، ويقدر المفعول حينئذٍ؛ أي: طعامكم إيَّاه أنفسكم، ويجوز أن يكون الصَّيد بمعنى: المصيد، والهاء في طعامه تعودُ إلى البحر على هذا؛ أي: أحلَّ لكم مصيد البحر، وطعام البحر، فالطَّعام على هذا غير الصَّيد.
          وعلى هذا، ففيه وجوهٌ: أحسنها: ما سبقَ عن عمر وأبي بكر ♦: / أنَّ الصَّيدَ ما صيدَ بالحيلة حال حياتهِ، والطَّعامُ ما رَمَى به البحرُ، أو نضبَ عنه الماء من غير معالجة، ويجوز أن تعودَ الهاء إلى الصَّيد بمعنى المصيد على أن يكون طعام بمعنى: مطعومٌ. ويدلُّ له قراءة ابن عبَّاس ☻ : ((وطُعْمه)) بضم الطاء وسكون العين.
          (وَالْجَرِّيُّ) بفتح الجيم وكسر الراء المشددة وبالتحتية المشددة. وقال القاضي عياض: وجاء فيه: كسر الجيم أيضاً، وكذلك الجريت: بمثناة فوقية بعد التحتية، وضبطه الكِرمانيُّ: بالمثلثة، وهو المشهور، وهي ضرب من السَّمك لا قِشْر له. وقال عطاء لمَّا سُئل له عنه قال: كلْ كُلَّ ذنيب سَمِينٍ منه. وقال ابن التِّين: ويقال له أيضاً: الجِرِّيت. وقال الأزهريُّ: الجِرِّيت: نوع من السَّمك يشبه الحيَّات، ويقال له: المَارْمَاهي، والسَّلور مثله، وقيل: هو سمكٌ عريضُ الوسط، دقيق الطَّرفين.
          وقال العينيُّ: الجريت: السَّمكة السَّوداء، والمارماهيُّ: لفظ فارسي؛ لأنَّ مار بالفارسيَّة الحيَّة، وماهي هو السَّمك، والمضاف إليه يتقدَّم على المضاف في لغتهم.
          (لاَ تَأْكُلُهُ الْيَهُودُ، وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ) وهذا قول ابن عبَّاس ☻ أيضاً رواه ابنُ أبي شيبة، عن وكيع، عن الثَّوري، وقال في روايته: «سألت ابن عبَّاس ☻ عن الجَرِّيِّ فقال: لا بأس به إنَّما يحرمه اليهود، ونحن نأكله» (وَقَالَ شُرَيْحٌ، صَاحِبُ النَّبِيِّ صلعم ) بضم الشين المعجمة وآخره حاء مهملة، مصغراً، وفي رواية الأصيلي: <أبو شريح>، وهو وهم منه، والصَّواب: إسقاط أبو، كما للكافة، والمؤلف في «تاريخه»، وأبي عمر بن عبد البر، والقاضي عياض في «مشارقه». وقال الفربري: وكذا في أصل البُخاري، وكذا هو عند أبي علي الغساني، قال: وهو الصَّواب، وقال الجيانيُّ: والحديث محفوظٌ لشريح لا لأبي شريح، وفي الصَّحابة أيضاً: أبو شريح الخزاعي، أخرج له مسلم. وقال اليونينيُّ: ما رأيته في «حاشية الفرع» في أصل السَّماع: أبو شريح على الوهم، كما عند الحافظُ أبو محمد الأصيلي. ونبَّه الشَّيخ الحافظُ أبو محمد المنذري في «حواشيه على كتاب ابن طاهر» / أنَّه شريحٌ اسم لا كنية. انتهى.
          وفي «الإصابة»: شريح بن أبي شريح الحجازيُّ، قال البُخاري وأبو حاتم: له صحبة. وروى البُخاري في «تاريخه الكبير» عن عَمرو بن دينار وأبي الزُّبير: سَمِعَا شريحاً رَجُلاً أدرك النَّبيَّ صلعم قال: «كل شيءٍ في البحر مذبوحٌ»، وعلقه في «الصَّحيح». ورواه الدَّارقطني وأبو نعيم من طريق ابن جريج، عن أبي الزُّبير، عن شريح: وكان من أصحاب النَّبي صلعم ، فذكر نحوه مرفوعاً، والمحفوظ عن ابن جريج موقوف أيضاً، أشار إلى ذلك أبو نعيم.
          وقال أبو عمر: شريح رجل من الصَّحابة حجازي، روى عنه أبو الزُّبير وعَمرو بن دينار، سمعاهُ يحدِّث عن أبي بكر الصِّديق ☺ قال: «كلُّ شيءٍ في البحر مذبوحٌ، ذَبَحَ اللهُ لكم كلَّ دابةٍ خَلَقَها في البحرِ»، قال أبو الزُّبير، وعَمرو بن دينار: وكان شريح هذا قد أدرك النَّبي صلعم . وقال أبو حاتم: له صحبة، وليس له في البُخاري ذِكْرٌ إلَّا في هذا الموضع، وقول القاضي عياض في «مشارقه» وهو شُريح بن هانئ أبو هانئ.
          تعقبه الحافظُ العسقلانيُّ كما نقله عنه أبو الخير السَّخاوي: بأنَّ الصَّواب: أنَّه غيره، وهو شريحُ بن هانئ بن يزيد بن كعب الحارثي، جاهلي إسلامي، يكنى: أبا المقدام، وأبوه: هانئ بن يزيد، له صحبة، وأمَّا ابنه شريح؛ فله إدراك، ولم يثبت له سماع، ولا لقي، وأمَّا شريح المذكور هنا: فقد صرَّح البُخاري بصحبته، وهو الذي ذكره أبو عمر.
          وفي «الإصابة»: شريح بن هانئ أبو المقدام، أدرك النَّبي صلعم ولم يهاجر إلَّا بعد وفاته، وقد وفد أبوه على النَّبي صلعم فسأله عن أكبر أولاده، فقال شريح: فقال: أنت أبو شريح، وكان قبل ذلك يكنى: أبا الحكم.
          (كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ) من دوابه (مَذْبُوحٌ) أي: حلال كالمذكَّى. وهذا التَّعليق وصله المؤلِّف في «تاريخه»، وابن مندهْ في «المعرفة» من رواية ابن جُريج، عن عَمرو بن دينار وأبي الزُّبير: سمعا شُرَيحاً صاحبَ النَّبي صلعم . وأخرجه ابنُ أبي حاتم في الأطعمة من طريق عَمرو بن دينار: سمعت شيخاً كبيراً يحلفُ بالله ما في البحر دابة إلَّا وقد ذبحها الله لبني آدم. وأخرج الدَّارقطني من حديث عبد الله بن سرخس، وفيه ضعفٌ رفعه: ((إنَّ الله قد ذبحَ كلَّ ما في البحر لبني آدم)).
          (وَقَالَ عَطَاءٌ) هو: ابنُ أبي رباح (أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ يَذْبَحَهُ) وهذا التَّعليق وصله أبو عبد الله بن منده في كتاب «الصَّحابة» حيثُ ذكر أثر حديث شريح المذكور من طريق ابن جُريج قال: فذكرت ذلك لعطاء فقال: أمَّا الطَّير فأرى أن يذبحَه (وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ) عبدُ الملك بن عبد العزيز (قُلْتُ / لِعَطَاءٍ) أي: ابن أبي رباح المذكور (صَيْدُ الأَنْهَارِ، وَقِلاَتِ السَّيْلِ) أي: وصيد قِلات السَّيل، وهو بكسر القاف وتخفيف اللام وبالمثناة الفوقية، جمع قلَّة، وهي النُّقْرة التي تكون في الصَّخرة يستنقع فيها الماء، وكلُّ نقرةٍ في الجبل أو غيره فهو قِلْت، والمراد: ما ساق السَّيل في الماء، وبقيَ في الغدير، وكان فيه حيتان.
          (أَصَيْدُ بَحْرٍ هُوَ) فيجوز أكله (قَالَ: نَعَمْ) يجوز أكله، وسقط في رواية أبي ذرٍّ لفظ: <هو> (ثُمَّ تَلاَ) أي: عطاء قوله تعالى: ({هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ}) شديدُ العذوبة، وزاد في رواية أبي ذرٍّ: <{سَائِغٌ شَرَابُهُ} [فاطر:12] مريءٌ سهلُ الانحدار لعذوبته>.
          ({وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}) شديد الملوحة الذي يحرقُ بملوحته ({وَمِنْ كُلٍّ}) أي: ومن كلِّ واحد منهما ({تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} [فاطر:12]) وهو السَّمك. وهذا التَّعليق رواه أبو قرَّة موسى بن طارق السَّكْسَكي في «سننه» عن ابن جُريج، ورواه عبد الرَّزاق أيضاً في «تفسيره» عن ابن جُريج نحوه سواء (وَرَكِبَ الْحَسَنُ) قيل: هو: ابنُ علي بن أبي طالب ☻ ، وقيل: هو الحسن البصريُّ. وقال الحافظُ العسقلانيُّ: ويؤيِّد القول الأوَّل أنَّه وقع في رواية: ((وركب الحسن ◙)) وفيه مناقشة لا تخفى.
          (عَلَى سَرْجٍ) متَّخذ (مِنْ جُلُودِ كِلاَبِ الْمَاءِ) لأنَّها طاهرة يجوز أكلها؛ لدخولها في عموم السَّمك، وكذا ما لم يشبه السَّمك المشهور كالخنزير والفرس. وفي «عجائب المخلوقات» أنَّ كلبَ الماء حيوان يداه أطولُ من رجليه يلطخُ بدنه بالطِّين ليحسبه التِّمساح طيناً، ثمَّ يدخل جوفَه، فيقطِّع أمعاءَهُ ويأكلها، ويمزق بطنه.
          (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ) عامر بن شراحيل: (لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لأَطْعَمْتُهُمْ) الضَّفادع: جمع ضِفْدَع، بكسر الضاد وسكون الفاء وفتح الدال وكسرها، وحكي: بضم الضاد وفتح الدال. وفي «المحكم»: الضِّفدع والضُّفدع لغتان فصيحتان، والأنثى: ضفدعة. وقال الجوهريُّ: وناس يقولون: ضفدَع، بفتح الدال.
          وقد زعم الخليل: أنَّه ليس في الكلام فعلل إلَّا أربعة أحرف: دِرْهَم وهِجْرَع وهِبْلَع وقِلْعَم، الهِجْرَع: الطَّويل، والهِبْلَع: الأكول، / والقِلْعَم: الجبل، وزاد غيره: الضِّفْدَع، وجزم صاحب «ديوان الأدب» بكسر الضاد والدال، وحكى ابن سيده في «الاقتضاب»: ضم الضاد وفتح الدال، وهو نادرٌ، وحكى ابن دِحية: ضمهما. قال الجاحظُ: الضِّفدع لا يصيحُ، ولا يمكنه الصِّياح حتَّى يدخلَ حنكه الأسفل في الماء، وهو الحيوان الذي يعيشُ في الماء، ويبيض في الشَّط مثل السُّلحفاة ونحوها، وهي تنقُّ، فإذا أبصرتِ النَّار أمسكَتْ، وهي من الحيوان الذي يخلق من أرحام الحيوان، ومن أرحام الأرضين: إذا لحقها المياه، وأمَّا قول من قال: إنَّها من السَّحاب فكذبٌ، وهي لا عظامَ لها، وتزعم العرب في خرافاتها: أنَّها كانت ذات ذَنَبٍ، وأنَّ الضَّبَّ سَلَبَه إيَّاه، وتقول العَرَبُ: لا يكون ذلك حتَّى يجمعَ بين الضَّب والنُّون، وحتَّى يجمعَ بين الضِّفدع والضَّب.
          والضِّفدع: أجحظ الخلق عيناً، ويصبرُ عن الماء الأيام، وهي تعظمُ ولا تسمنُ كالأرنب. والأسد: ينتابها في الربيع فيأكلها أكلاً شديداً. والحيَّات: تأتي مناقع المياه لطلبها. ويقال له: ينق ويهدر.
          ولم يبيِّن الشَّعبي هل تذكى الضَّفادع أم لا؟ واختلف مذهب مالك في ذلك: فقال ابنُ القاسم في «المدوَّنة» عن مالك: أكل الضِّفدع والسَّرطان والسُّلحفاة جائزٌ من غير ذكاة. وروي عن ابن القاسم فيما كان مأواهُ الماء: يُؤكل من غير ذكاة، وإن كان يرعى في البرِّ، وما كان مأواه ومستقره البر لا يؤكل إلَّا بذكاة. وعن محمد بن إبراهيم: لا يُؤكلان إلَّا بذكاة. قال ابن التِّين: وهو قولُ أبي حنيفة والشَّافعي.
          ثمَّ اعلم أنَّ قول الشَّعبي يردُّه ما رواه أبو سعيد عُثمان بن سعيد الدَّارمي في كتاب «الأطعمة» بسندٍ صحيحٍ: «أنَّ ابن عُمر ☻ : سأل رسولَ الله صلعم عن ضفدع يجعلها في دواء، فنهى صلعم عن قتلِهِ».
          قال أبو سعيد: فيُكره أكله، إذ نهى رسول الله صلعم عن قتلِهِ، ولا يمكن أكله إلَّا مقتولاً، وإن أُكِلَ غير مقتولٍ فهو ميتة، وزعم ابنُ حزم: أنَّ أكلَه لا يحلُّ أصلاً. وروى أبو داود في الطِّب وفي الأدب، والنَّسائي في الصَّيد: / عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، عن سعيد بن المسيَّب، عن عبد الرَّحمن بن عُثمان القرشي: «أنَّ طبيباً سأل رسول الله صلعم عن الضِّفدع يجعلها في دواءٍ، فنهى عن قتلها». ورواه أحمدُ وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطَّيالسي في «مسانيدهم»، والحاكم في «المستدرك» في الطِّب، وقال: صحيحُ الإسناد ولم يخرِّجاه. وقال البيهقي: وأقوى ما ورد في الضِّفدع هذا الحديث.
          وقال الحافظُ المنذري: فيه دليلٌ على تحريم أكل الضِّفدع؛ لأنَّ النَّبي صلعم نهى عن قتله، والنَّهي عن قتلِ الحيوان إمَّا لحرمته كالآدمي، وإمَّا لتحريم أكله كالصُّرَد والهُدْهُد، والضِّفدع ليس بمحرم، فكان النَّهي منصرفاً إلى الوجه الآخر، والله تعالى أعلم.
          (وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ) أي: البصريُّ (بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْساً) بضم السين وفتح اللام وسكون الحاء وبعد الفاء ألف فهاء تأنيث. وفي «الصِّحاح» أنَّها بفتح اللام وحُكِيَ إسكانها، وحُكِيَ سقوط الهاء. وحكى الرَّواسي: سُلَحْفِيَّة مثل بُلَهْنِيَّة، وهي ممَّا يلحق بالخماسي بألف. وفي «المحكم»: السُّلحفاة، والسُّلحفى من دواب الماء.
          وصله ابنُ أبي شيبة من طريق مُبَارك بن فَضَالة، عن الحسن قال: لا بأسَ بأكلها. وروي من حديث يزيد بن أبي زياد عن جعفر: أنَّه أتي بسُلْحفاة فأكلَها. ومن حديث حجَّاج عن عطاء: لا بأسَ بأكلها، يعني: السُّلحفاة. وزعم ابنُ حزم: أنَّ أكلها لا يحلُّ إلَّا بذكاةٍ، وأكلُها حلالٌ بريُّها وبحريُّها، وأكلُ بيضها. وروي عن عطاء: إباحة أكلها، وعن طاوس ومحمد بن علي وفقهاء المدينة إباحة أكلها، وعندنا: يُكره أكل ما سوى السَّمك من دواب البحر، كالسَّرطان والسُّلْحفاة والضِّفْدع وخنزير الماء، واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وما سوى السَّمك خبيثٌ. وقال مقاتل: إنَّ السُّلحفاة من الممسوخ. وقال سفيان الثَّوري: أرجو أن لا يكون بالسَّرطان بأس. وظاهر الآية حجَّة لمن قال بإباحةِ جميع حيوانات البحر، وكذلك حديث: ((هو الطَّهور ماؤه، والحلُّ ميتته)).
          وجملةُ الكلام في هذا المقام: أنَّ جملة حيوان الماء على قسمين: سمك وغيره، فأمَّا السَّمك فميتته حلالٌ مع اختلاف أنواعها، ولا فرقَ أن يموتَ بسبب أو بغير سببٍ، وعند أبي حنيفة ☼ : لا يحلُّ إلَّا أن يموتَ بسبب، / وقد مَرَّت حجته مع التَّفصيل فيها، وأمَّا غير السَّمك فقسمان:
          قسمٌ يعيشُ في البر كالضِّفدع والسَّرطان والسُّلحفاة، فلا يحلُّ أكله، وقسمٌ يعيشُ في البحر (1)، ولا يعيش في البر، فاختُلِفَ في أكله فقيل: لا يحلُّ شيء منه إلَّا السَّمك، وهو قول أبي حنيفة. وقيل: إنَّ ميت الكل حلالٌ؛ لأنَّ كلَّها سمك، وإن اختلفت صورها كالجِرِّيث، وهو قولُ مالك وظاهرُ مذهب الشَّافعي. وذهب قومٌ: إلى أنَّ ما له نظير في البرِّ يُؤكل فميتتُهُ من حيوانات البحر حلالٌ، وما لا يُؤكل نظيره في البر حرامٌ، وكذا ما يشبهه كحمار الوحش، فإن له شبهاً حراماً، وهو الحمار الأهلي تغليباً للتَّحريم، كذا في «الرَّوضة» و«شرح المهذب». والمعنى فيه: حلُّ الجميع إلَّا السَّرطان والتِّمساح والسُّلحفاة؛ لخبث لحمها، وللنَّهي عن قتل الضِّفدع، كما رواه أبو داود، وصحَّحه الحاكم.
          وقد ذكر الأطباء: أنَّ الضِّفدع نوعان: برِّي وبحري، فالبري: يَقْتُلُ آكِلَه، والبحري: يَضُرُّه. وكذا يحرمُ القِرْش في البحر الملح، خلافاً لما أفتى به المحب الطَّبري.
          وأمَّا الثعبان والعقرب والسرطان والسُّلَحفَاة للاستخباث والضرر اللاحق من السمِّ ودَينْلس (2) فقيل: إن أصله السَّرطان فإن ثبت حرم وإلَّا فيحل؛ لأنَّه من طعام البحر، ولا يعيش إلَّا فيه، ولم يأت على تحريمه دليل، وقد قال جبريل بن بخْتِيْشُوع: أنَّه ينفع من رطوبة المعدة والاستسقاء.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : (كُلْ) أمر من الأكل (مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ نَصْرَانِيٍّ أَوْ يَهُودِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ) بالجرِّ في الثَّلاثة، ويروى بالرَّفع، وفي رواية الأصيلي: <وإن صاده نصرانيٌّ أو يهودي أو مجوسي> برفعها على الفاعليَّة. وقال الكرمانيُّ: هكذا تركيبه في النُّسخ القديمة، وفي بعضها زادوا: لفظ: <أخذه> قبل لفظ: ((نصراني))، وفي بعضها: <ما صاد>. وقال العينيُّ: المعنى لا يصلح إلَّا على هذا، ولا بدَّ من هذا التَّقدير على النُّسخ القديمة، فافهم.
          وروى البَيهقي من طريق سِمَاك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ ، قال: «كُلّْ ما ألقى البحر وما صِيدَ منه؛ صادَهُ يهودي أو نصراني أو مجوسي».
          وقال ابن التِّين: مفهومه: أنَّ صيدَ البحر لا يُؤكل إن صادَهُ غير هؤلاء، وهو كذلك عند قوم، والجمهور على خلافه. وقال الحسن البصريُّ، فيما نقله عنه الدَّميري: رأيتُ سبعين صحابياً يأكلون صيدَ المجوس، ولا يتلجلجُ / في صدورهم شيءٌ من ذلك. أمَّا اليهودي والنَّصراني؛ فأمرهما ظاهر؛ لأنَّهما كتابيان، وأمَّا المجوسي؛ فلأنَّ صيدَ البحر ليس بذبيح.
          (وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ) هو: عُويمر بن مالك الأنصاريُّ الخزرجيُّ ☻ (فِي الْمُرْي) بضم الميم وسكون الراء بعدها تحتية مخففة، كذا ضبطه النَّووي، وقال: ليس عربياً، وهو يشبه الذي يسمِّيه النَّاس: الكامخ، بإعجام الخاء، وفي «النَّهاية»: بتشديد الراء. ونقل الجواليقي في لحن العامَّة أنَّهم يحركون الراء، والأصل السُّكون، والذي في «القاموس» التشديد، وعبارته: والمري كدري إدام كالكامخ. وقال الجوهريُّ: بكسر الراء وتشديدها وتشديد الياء، كأنَّه منسوب إلى المرارة، والعامَّة يخففونه. وقال الحربيُّ: المري: هو يعمل بالشَّام يؤخذ الخمر، فيجعل فيها الملح والسَّمك، ويوضع في الشَّمس، فيتغيَّر طعمه، فيغلب السَّمك بما أضيف إليه على ضراوة الخمر، ويزيل ما فيه من الشِّدة مع تأثير الشَّمس في تحليله.
          (ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّيْنَانُ وَالشَّمْسُ) بفتح الذال المعجمة والموحدة على صيغة الماضي المعلوم، والخمر مفعول مقدَّم على الفاعل، والعرب تقدِّم الأهم فالأهم، والنِّينان والشَّمس فاعله. والنِّينان: بكسر النون وسكون التحتية، جمع نُوْن، كعُوْد وعِيْدان، وحُوْت وحِيَّتان، وهو الحوت. وقال القاضي البيضاوي، والقاضي عياض: ويروى: <ذبْح الخمر> بسكون الموحدة والرَّفع على أنَّه مصدر مضاف إلى الخمر على أنَّه مبتدأ خبره قوله: النِّينان والشَّمس. وفي «النِّهاية» استعار الذَّبح للإحلال كأنَّه يقول: كما أنَّ الذَّبح يحلُّ المذبوح، فكذلك هذه الأشياء إذا وُضِعَتْ في الخمر قامت مقام الذَّبح فأحلَّتها.
          وقال البيضاوي: يريد: أنَّها حلَّت بالحوتِ المطروح فيها، وطبختْها الشَّمس، فكان ذلك كالذَّكاة للحيوان، وقال غيره: معنى ذبحتها: أبطلت فعلها.
          وأخرج الحافظُ أبو موسى في ((جزء)) أفرده لهذه المسألة بسنده، عن عطيَّة بن قيس قال: «مرَّ رجل من أصحاب أبي الدَّرداء ☺ / ورجل يتغدَّى، فدعاهُ إلى طعامه فقال: ما طعامُك؟ قال: خبزٌ ومُرِّيٌ وزيتٌ، قال: المري الذي يصنع من الخمر؟ قال: نعم، قال: هو خمر، فتواعدا إلى أبي الدَّرداء ☺ فسألاه، فقال: ذبحت خمرَها الشَّمس، والملح والحيتان»، فهذا يدلُّ على أنَّ أبا الدَّرداء ☺ ممَّن يرى جواز تحليلِ الخمر، وهو مذهبُ الحنفية. وعن ابنِ وهب: سمعت مالكاً يقول: سمعتُ ابن شهاب سُئل عن خمر جعلت في قلَّة، وجُعِلَ فيها ملح وأخلاطٍ، ثمَّ جُعِلَتْ في الشَّمس حتَّى عاد مُرّياً يصطبع به؟ قال ابنُ شهاب: شهدتُ قبيصة بن ذؤيب ينهى أن يُجْعَلَ الخمرُ مُرياً، إذا أخذ وهو خمر. وعن رحيلة مولاة معاوية ☺ قالت: حججنَا مع عبد الله بن أبي زكريا فأهدى عبدُ الله بن أبي زكريا لعمر بن عبد العزيز المُري الذي يصنعُ بالخمر، فأكل منه.
          وعن أبي هُريرة ☺ أنَّه كان يقول في المري الذي يعملُه المشركون من الخمر: «لا بأس به، ذَبَحه المِلْحُ»، وإنَّما ذكر النِّيْنان دون الملح في رواية البُخاري؛ لأنَّ المقصودَ بجواز تحليل الخمر؛ إزالة طعمها ورائحتها بالذَّبح، ولم يَرِدْ أنَّ النِّينان وحدَها هي التي خلَّلته.
          وقال أبو موسى: كان أبو الدَّرداء ☺ يفتي بجواز تخليلِ الخمر فقال: إنَّ السَّمك بالآلة التي أضيفت إليه يغلبُ على ضراوة الخمر، ويزيل شدَّتها، والشَّمس تؤثر في تخليلها فتصير حلالاً. قال: وكان أهل الرِّيف من الشَّام يَعْجِنُون المُري بالخمر، وربما يجعلون فيه السَّمك الذي يُربى بالملح والأبزارِ ممَّا يسمُّونه الصَّحْناء. والقصد من المُري: هضم الطَّعام يضيفون إليه كلَّ ثقيفٍ أو حريف؛ ليزيد في جلاء المعدة، واستدعاء الطَّعام بحرافته. وكان أبو الدَّرداء وجماعة من الصَّحابة ♥ يأكلونه، وهو رأي من يجوز تخليل الخمر كالحنفيَّة.
          وفي «التَّوضيح»: وكان أبو هريرة وأبو الدَّرداء وابن عبَّاس ♥ وغيرهم من التَّابعين يأكلون هذا المُري المعمول بالخمرِ، ولا يرون به بأساً فيقول أبو الدَّرداء ☺: إنَّما حرَّم الله الخمر / بعينها وسكرها، وما ذبحته الشَّمس والملح؛ فنحن نأكله لا نرى به بأساً. فإن قيل: ما وجه إيراد البُخاري هذا الأثر هنا في طهارة صيد البحر؟ فالجواب: أنَّه يريد: أنَّ السَّمك طاهرٌ حلال، وأنَّ طهارته وحله يتعدَّى إلى غيرِه كالمِلْح حتَّى يصيرَ الحرام النَّجس بإضافته إليه طاهراً حلالاً، وهذا إنَّما يتأتَّى على القول بجواز تخليلِ الخمر، وهو خلافُ مذهب الشَّافعي.
          والبُخاري ☼ لم يختر مذهب إمام بعينه، بل اعتمدَ على ما صحَّ عنده من الحديث، ثمَّ أكَّده بالآثار. وقال الحافظُ أبو ذرٍّ: ممَّا رأيتُه بهامش اليونينية: إذا طُرِحَتِ النِّينانُ في الخَمْرِةِ ذَبَحَتْه وحركته فصار مُرياً، وكذا إذا تُرِكَ للشَّمس.


[1] في هامش الأصل: في نسخة: في الماء.
[2] بياض في الأصل.