نجاح القاري لصحيح البخاري

باب النحر والذبح

          ░24▒ (بابُ النَّحْرِ) للإبل في اللَّبة (وَالذَّبْحِ) لغيرها في الحَلْقِ، وفي رواية أبي ذرٍّ: <والذَّبائح> وقال الحافظُ العسقلانيُّ: الذَّبائح: بصيغة الجَمْعِ، وكأنَّه جمع باعتبار أنَّه الأكثر. وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ كلَّ أَحَدٍ يعرف أنَّ الذَّبائح صيغة الجمع. وقوله: وكأنَّه... إلى آخره، يشعر بأنَّ الذَّبائح جمع ذبح، وليس كذلك، بل هو جمع ذبيحة، ومع هذا ذِكْرُه بصيغة الجمع لا طائل تحتَه، بل قوله: والذَّبح أحسن؛ لأنَّه مصدر يعمُّ كلَّ ذبحٍ في كلِّ ذبيحة. وقال ابن التِّين: الأصل في الإبل النَّحر، وفي الشَّاة ونحوها الذَّبح، وأمَّا البقر فجاء في القرآن ذِكْرُ ذَبْحِها، وفي السُّنة ذِكْرُ نَحْرِها.
          واختُلِفَ في نَحْرِ ما يُذبح، وذبح ما يُنحر؛ فأجازه الجُمهور، ومنعه ابن القاسم، وقال ابنُ المنذر: روي عن أبي حنيفة والثَّوري واللَّيث ومالك والشَّافعي جواز ذلك، إلَّا أنَّه يُكْرَه، وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور: لا يكره، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة، وقال أشهب: إن ذَبَحَ بعيراً من غير ضرورة لا يؤكل.
          (وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبدُ الملك بن عبد العزيز بن جريج (عَنْ عَطَاءٍ) هو: ابنُ أبي رباح (لاَ ذَبْحَ وَلاَ نَحْرَ) بلفظ المصدر فيهما في الفرع كأصله (إِلاَّ فِي الْمَذْبَحِ وَالْمَنْحَرِ) اسما مكان من الذَّبح والنَّحر لفٌّ ونَشْرٌ مرتَّب، قال ابن جريج: (قَلْتُ لِعَطَاءَ: أَيُجْزِئُ) بضم التحتية، من الإجزاء (مَا يُذْبَحُ) على البناء للمفعول (أَنْ أَنْحَرَ) على صيغة نفس المتكلِّم وحدَه (قَالَ: نَعَمْ، ذَكَرَ اللَّهُ) تعالى فعل وفاعل، / وقوله: (ذَبْحَ الْبَقَرَةِ) نصب على أنَّه مفعوله، وهو في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]. وروتْ عمرةُ عن عائشة ♦ أنَّها قالت: «دخل علينا يومَ النَّحر بلحم، فقيل: نحرَ رسول الله صلعم عن أزواجهِ البقرَ»، فجاز فيها الوجهان.
          (فَإِنْ ذَبَحْتَ) خطاب عن عطاء لابن جُريج (شَيْئاً يُنْحَرُ) على البناء للمفعول (جَازَ) أو نحرت شيئاً يذبح جاز أيضاً (وَالنَّحْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ) هو قول عطاء (وَالذَّبْحُ: قَطْعُ الأَوْدَاجِ) تفسير للذَّبح، والأوداج: جمع وَدَج، بفتح الواو والدال المهملة وبالجيم، وهو العرق الذي في الأخْدَع، وهما عرقان متقابلان.
          وقال الحافظُ العسقلانيُّ: وذكره بالأوداج فيه نظرٌ؛ لأنَّه ليس إلَّا ودجان بالتَّثنية.
          وقال العينيُّ: لما كان الشَّرط قطع العروق الأربعة، وهي الحلقومُ والمري (1) والودجان، أطلقَ عليها لفظ الأوداج بطريق الغلبة. ولهذا وردَ في بعض الأحاديث: ((أَفْرِ الأوداجَ، وأنهرْ بما شئت)) حيثُ أطلق على الأربعة الأوداج، وأَفْرِ، بالفاء؛ بمعنى: اقْطَعْ.
          وقال القسطلانيُّ: يحتمل أنَّه أضاف كلَّ ودجين إلى الأنواع كلِّها، أو هو من باب تسميةِ الكلِّ باسم الجزء، ومنه قوله: ((عظيم المناكبِ، وعظيم المشافر)). وقال الصَّغاني: الودجُ: عرقٌ في العنق، وهما ودجان، وقال اللَّيث: الودجُ: عرقٌ متَّصل من الرَّأس إلى المَنْحَر.
          واختلف العُلماء في اشتراط قَطْعِ الأوداج كلِّها؛ فعند بعض الحنفية: إنْ قَطَعَ الأربعةَ المذكورةَ حَلَّ الأَكْلُ، وإن قَطَعَ أكثرها، فكذلك عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا بدَّ من قطع الحلقوم والمري وأحدِ الودجين حتَّى لو قطعَ بعض الحلقوم أو المري لم يحل، وكذا ذكر القدوري الاختلاف في «مختصره»، والمشهورُ في كتب الحنفية: أنَّ هذا قول أبي يوسف وحدَه، والحاصل: أنَّ عند أبي حنيفة إذا قطع الثَّلاثُ؛ أي: ثلاثٌ من الأربعة جاز، وعن أبي يوسف ثلاث روايات: إحداها هذا، والثَّانية: اشتراطُ قَطْعِ الحلقوم مع الأخيرين، والثَّالثة: اشتراط قطع الحلقوم والمري وأحد الودجين، وعن محمد: يعتبر أكثر كل فرد، يعني: أكثر كل واحد من الأربعة، / وفي «وجيز الشَّافعيَّة»: يعتبر قطع الحلقوم والمري دون الآخرين، وبه قال أحمد، وعن الاصطخري: يكفِي قطع الحلقوم أو المري، وفي «الحلية»: هذا خلاف الشَّافعي، وخلاف الإجماع، وعن الثَّوري: إن قَطَعَ الودجان أجزأ، ولو لم يقطعِ الحلقوم والمري، وعن مالك واللَّيث: يشترطُ قطعُ الودجين والحلقوم فقط. قال ابن جُريج: (قَلْتُ) لعطاء: (فَتُخَلَّفُ) عن البناء للمفعول؛ أي: تُتْرَكُ (الأَوْدَاجُ) ولا يَكْتَفِي بقطعها (حَتَّى يَقْطَعَ النِّخَاعَ) بكسر النون مصحَّحاً عليه في الفرع كأصله، وفي «المصابيح»: بضم النون، وحكى الكسائي عن بعض العرب: الكسر. وقال العينيُّ: بتثليث النون، وهو خيطٌ أبيض يكون داخل عظم الرَّقبة، ويكون ممتداً إلى الصُّلب حتَّى يبلغَ عجب الذَّنب، هكذا فسَّره الكِرمانيُّ وحدَه، أخذه من صاحب «المغرب»: فإنَّه فسَّره هكذا، وردَّ عليه بعض الحنفيَّة بأنَّ بدن الحيوان مركَّب من عظام وأعصابٍ وعُروق، وهي شرايين وأوتار، وما ثمة شيءٌ يسمَّى بالخيط أصلاً.
          وقال الكرخيُّ في «مختصره»: ويُكره إذا ذبحها أن يبلغَ النِّخاع، وهو العرق الأبيض الذي يكون في عظم الرَّقبة، وقال القسطلانيُّ: هو الخيطُ الأبيض الذي في فقار الظَّهر.
          (قَالَ) أي: عطاء (لاَ إِخَالُ) بكسر الهمزة وبفتحها، والكسر أفصح وبالخاء المعجمة؛ أي: لا أظنُّ، وقال في اليونينيَّة: <لا أخاف> قال ابن جُريج: (وَأَخْبَرَنِي) بالإفراد، وفي رواية أبي ذرٍّ: <فأخبرني> بالفاء بدل الواو (نَافِعٌ) مولى ابن عُمر ☻ (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ) ☻ (نَهَى عَنِ النَّخْعِ) بفتح النون وسكون الخاء المعجمة، وهو أن ينتهيَ بالذَّبح إلى النِّخاع. وقال صاحب «الهداية»: ومن بلغ بالسِّكِّين النِّخاع أو قطع الرَّأس كره له ذلك، وتؤكل ذبيحته، أمَّا الكراهة؛ فلمَّا روي عن رسول الله صلعم : «أنَّه نهى أن تنخعَ الشَّاة إذا ذبحت». قال العينيُّ: هذا رواه محمد بن الحسن في كتاب «الصَّيد»: من الأصل، عن سعيد بن المسيَّب، عن رسول الله صلعم ، وهو مرسل.
          وروى الطَّبراني في «معجمه»: حدَّثنا أبو خليفة الفضل / بن الحارث: حدَّثنا أبو الوليد الطَّيالسي: حدَّثنا عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حَوْشَب، عن ابن عبَّاس ☻ : «أنَّ النَّبي صلعم نهى عن الذَّبيحة أن تُفْرَسَ»، وقال إبراهيمُ الحربي في «غريب الحديث»: الفَرْسُ أن تُذْبَحَ الشَّاةُ وتُنْخَعَ، وقال أبو عبيدة: الفَرْس: النَّخع. يقال: فرست الشَّاة ونخعتها، وذلك أن ينتهي الذَّابح إلى النِّخاع.
          (يَقُولُ: يَقْطَعُ مَا دُونَ الْعَظْمِ، ثُمَّ يَدَعُ) أي: يترك المذبوح (حَتَّى تَمُوتَ) إشارة إلى تفسير النَّخع، وهو قطع ما دون العظم (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطف على قوله: النَّحر والذَّبح المجرورين بالإضافة والعطف ({وَإِذْ قَالَ}) أي: اذكر يا محمد خبر قال: ({مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]) قال أبو عبد الله: وكان نزولُ قصَّةِ البقرة على موسى ◙ في أمر القتيل قبل نزول القسامة في القتيل وقصَّتُه مشهورةٌ (وَقَالَ) تعالى: ({فَذَبَحُوهَا}) أي: البقرة التي جاؤوا بها على الوصف المذكور الذي وصفه الله تعالى ({وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71]) لكثرة ثمنها، وقيل: خوف الفضيحة إنْ أَطْلَعَ اللهُ على قاتل النَّفس الذي اختصموا فيه، وسقط في رواية أبي ذرٍّ لفظ: <وقال>، وهذا من بقية التَّرجمة، أو تفسير قول ابن جريج: ذكر الله ذبح البقرة، وفيه إشارة إلى اختصاص البقرة بالذَّبح، كذا قيل (2)، وفيه نظر.
          (وَقَالَ سَعِيدٌ) هو: ابنُ جبير (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ☻ (الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ) قال الحافظُ العسقلانيُّ: اللِّبَّة، بكسر اللام وتشديد الموحدة: هي موضع القلادة من الَّصدر، وهي المنحر. وتعقبه العينيُّ: بأنَّه ليست اللَّبَّة بكسر اللام، وإنَّما هي بفتحها، وقال الدَّاودي: هي أعلى العنق ما دون الخرزة. وفي «المبسوط»: ما بين اللَّبَّة واللِّحيين، واللَّبة: رأس الصَّدر، واللِّحيان: الذَّقن. وفي «الجامع الصَّغير»: لا بأس بالذَّبح في الحلق كلِّه وسطه وأعلاه وأسفله. وقول ابن عبَّاس ☻ : الذَّكاة في الحلق واللَّبة؛ أي: بين الحلق واللَّبة. وكلمة ((في)) بمعنى بين / كما في قوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:29] ؛ أي: بين عبادي. وتعليق ابن عبَّاس ☻ رواه أبو بكر، عن ابن المبارك، عن خالد، عن عكرمة، عنه. ورواه سعيدُ بن منصور، والبيهقي أيضاً.
          (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ) ♥ (إِذَا قَطَعَ الرَّأْسَ فَلاَ بَأْسَ) يعني: إذا قطع الرَّأس ممَّا يذبحه حالة الذَّبح فلا بأس بأكلها. وأثرُ ابن عُمر ☻ وَصَلَه أبو موسى الزَّمن من رواية ابن مجلز: «سألتُ ابن عُمر ☻ عن ذبيحة قُطِعَ رأسُها، فأمر ابن عُمر بأكلها»، وأثر ابن عبَّاس ☻ : وصَلَهَ ابنُ أبي شيبة بسندٍ صحيحٍ عن ابن عبَّاس ☻ : «سُئل عن ذبح دجاجة قُطِعَ رأسُها، فقال: ذكاة وَحِيَّة» _بفتح الواو وكسر الحاء المهملة وتشديد التحتية_؛ أي: سريعة منسوبة إلى الوِحاء، وهو الإسراع والعجلةُ، وأثر أنس ☺ وصله ابنُ أبي شيبة من طريق عبيد الله بن أبي بكر بن أنس: «أنَّ جزاراً لأنس ذبح دَجاجة فاضطربت، فذبحها من قفاها، فأطار رأسها، فأراد طرحَها، فأمرهم أنس ☺ بأكلها».


[1] في هامش الأصل: المريء مجرى الطعام والشراب متَّصل بالحلقوم جمعه مُرُؤ كسرير وسرر. منه.
[2] في هامش الأصل: قسطلاني.