نجاح القاري لصحيح البخاري

باب التسمية على الذبيحة ومن ترك متعمدًا

          ░15▒ (باب) حكم (التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَ) حكم (مَنْ تَرَكَ) أي: التَّسمية حال كونه (مُتَعَمِّداً) وهذه التَّرجمة هكذا عند الأكثرين، وفي بعض النُّسخ: <كتاب الذَّبائح> وليس بصحيح؛ لأنَّه ترجم أوَّلاً كتاب الصَّيد والذَّبائح، فيكون ذكره تكراراً بلا فائدة، وقيد بقوله: متعمداً، إشارة إلى أنَّه إذا ترك التَّسمية ناسياً على الذَّبيحة لا يكون مانعاً من الحل، كما مرَّ الخلاف فيه [خ¦5475]، كما يدلُّ لذلك قوله: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ (مَنْ نَسِيَ) أي: التَّسمية عند الذَّبح (فَلاَ بَأْسَ) بأكلِ ما ذبح، ومفهومه: عدم الحلِّ عند التَّعمد. وهذا التَّعليق وَصَلَهُ الدَّارقطني من طريق شعبة، عن سفيان بن عُيينة، عن عَمرو بن دينار، عن أبي الشَّعثاء: حدَّثني عَيْنٌ، عن ابن عبَّاس ☻ : «أنَّه لم ير به بأساً»؛ يعني: إذا نسي.
          وأخرجه سعيدُ بن منصور، عن ابن عُيينة بهذا الإسناد، فقال: في سنده عين؛ يعني: عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ : «فيمن ذبح ونسي التَّسمية، فقال: المسلم فيه اسم الله، وإن لم يذكر التَّسمية». وسنده صحيحٌ، وهو موقوفٌ، وذكره مالكٌ بلاغاً عن ابن عبَّاس ☻ .
          وأخرجه الدَّارقطني / من وجه آخر عن ابن عبَّاس ☻ مرفوعاً.
          (وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]) يعني: عند الذَّبح عامداً، أورد هذه الآيةَ تقويةً لاحتجاج الحنفيَّة بها في قولهم: إنَّ التَّسمية شرط، فإن تركها عامداً، فلا يحلُّ أكله، وإن تركها ناسياً فلا عليه شيءٌ، وبين ذلك بقوله فيما بعد بقوله: والنَّاسي لا يسمَّى فاسقاً، وذكر الآية الأخرى التي هي من تمام الآية؛ تقوية لاحتجاج الشَّافعيَّة، حيثُ قالوا: ما لم يذكر اسم الله عليه كناية عن الميتة، أو ما ذكر اسم غير اسم الله بقرينة، وإنَّه لفسق، وهو مُؤَوَّلٌ بما أُهِلَّ به لِغَير الله.
          ({وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}) أي: وإنَّ أَكْلَه لَفِسْقٌ، وسقط في رواية أبي ذرٍّ قوله: <وإنَّه لفسق> (وَالنَّاسِي لاَ يُسَمَّى فَاسِقاً) كما هو ظاهر من الآية؛ لأنَّ ذِكْرَ قَوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} عقبه إن كان عن فِعْلِ المكلَّف، وهو إهمال التَّسمية فلا يدخل النَّاسي؛ لأنَّه غيرُ مكلَّف، فلا يكون فِعْلُه فِسْقاً، وإن كان عن نفس الذَّبيحة التي لم يُسَمَّ عليها فالذَّبيحة التي لم يُسَمَّ عليها نسياناً لا يصحُّ تسميتها فسقاً أيضاً؛ لأنَّه وإن لم يكن مصدراً فهو منقول من المصدر، إذ الفعل الذي نقل منه هذا الاسم ليس بفسقٍ، فإمَّا أن يقال: لا دَليل في الآية على تحريم الفسق، فبقي على أصل الإباحة، أو يقال: فيها دليل من حيثُ مفهوم تخصيص النَّهي بما هو فسقٌ، فما ليس بفسقٍ ليس بحرام، قاله صاحب «الانتصاف» من المالكيَّة.
          وفي «المدارك» وظاهر الآية تحريمُ متروك التَّسمية، وخصَّت حالة النِّسيان بالحديث، أو بجعل النَّاسي ذاكراً تقديراً، ومن أوَّل الآية بالميتة، أو بما ذكر اسم غير الله عليه؛ فقد عدل عن ظاهر اللَّفظ. قيل: ولعلَّ المؤلِّف أشار إلى الزَّجر عن الاحتجاج؛ لجواز ترك التَّسمية بتأويل الآية، وحملها على غير ظاهرها حيثُ قال:
          (وَقَوْلُهُ) تعالى: ({وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ}) قال في «اللباب»: إبليس وجنوده ({لَيُوحُونَ}) ليوسوسون ({إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ}) من المشركين ({لِيُجَادِلُوكُمْ}) أي: ليخاصموا محمداً صلعم وأصحابه بقولهم: / ما ذكر اسم الله عليه فلا تأكلُوه، وما لم يذكر اسم الله عليه فكلوه. وقال الطِّيبيُّ: المجادلة هي قولهم: لم لا تأكلون ما قَتَلَه الله، وتأكلون ما قتلتموه أنتم، وهو الظَّاهر.
          ({وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ}) في استحلال ما حرَّم الله ({إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}) لأنَّ من اتَّبع غير الله فقد أشرك به، ومن حقِّ المتديِّن أن لا يأكلَ ممَّا لم يُذْكَرِ اسمُ الله عليه؛ لما في الآية من التَّشديد العظيم. وقال عكرمة: المراد بالشَّياطين: مردة المجوس {لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121] من مشركي قريش، وذلك لأنَّه لما نزل تحريمُ الميتة سَمِعَه المجوس من أهل فارس، فكتبوا إلى قريش وكان بينهم مكاتبة: إنَّ محمداً وأصحابَه يزعمون أنَّهم يتَّبعون أمر الله، ثمَّ يزعمون أنَّ ما يذبحونه حلال، وما يذبحه الله حرامٌ، فوقع في نفس ناس من المسلمين شيءٌ من ذلك، فأنزل الله هذه الآية.
          وقد اختُلِفَ في تحريمِ أكل ما لم يُذْكَرِ اسمُ الله عليه؛ فقيل بتحريم ما تُرِكَ ذِكْرُ اسم الله عليه عَمْداً ونسياناً، وهو قول ابن مسعود والشَّعبي وطائفة من المتكلِّمين، ورواية عن أحمد لظاهر الآية، وقيل: بتخصيص التَّحريم بما ترك عمداً، وهو مذهبُ الحنفية، ومشهورُ مذهب المالكيَّة والحنابلة؛ لما سيجيء، وقيل: بالإباحة مطلقاً عَمْداً ونسياناً، وهو مذهب الشَّافعيَّة، وروي عن مالك وأحمد محتجِّين بأنَّ المرادَ من الآية الميتات وما ذُبِحَ على غير اسم الله؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} والفِسْقُ في ذكر اسم غير الله، كما قال في آخر السورة: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام:145] إلى قوله: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ به} [الأنعام:145] وأجمع المسلمون على أنَّه لا يفسق آكل ذبيحة المسلم التَّارك للتَّسمية، وأيضاً قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121] فإنَّ هذه المُناظرةَ كانت في الميتة، كما مرَّ، وقال تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] وهذا مخصوص بما ذُبِحَ على اسم النُّصب، وهذا الذي يُوجب الشِّرك. قال الإمامُ الشَّافعي: فأوَّل الآية وإن كان عاماً بحَسَبِ الظَّاهر إلَّا أن آخِرَها لما حصلتْ فيه هذه القيودُ الثَّلاثةُ عَلِمْنا أنَّ المرادَ من العموم الخصوص.
          قال القسطلانيُّ: وقد قال الطِّيبي: إنَّ المجادلة هي قولهم: لِمَ لا تأكلون ما قتله الله، وتأكلون ما قتلتموه أنتم، وذلك إنَّما يصحُّ في الميتة، فدَخَلَ بقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ما أُهِلَّ لغير الله به فيه، وبقوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ} إلى آخره المَيتةُ، فتحقَّق قول الشَّافعي: إنَّ النَّهيَ مخصوص بما ذُبِحَ على النُّصب، أو مات حتفَ أنفه.
          وقال العينيُّ: والتَّحقيق في هذا المقام أن قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا} الآية نهي، والنَّهي المطلق للتَّحريم، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وأكَّد النَّهي بحرف {مِنَ} لأنَّه في موضع النَّهي للمبالغة، فيقتضي حرمة كلِّ جزء منه، والهاء في قوله: / {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} إن كانت كناية عن الأكل، فالفِسْقُ أكلُ الحرام، وإن كانت كناية عن المذبوح، فالمذبوح الذي يسمَّى فسقاً يكون حراماً، كما في قوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145] ففي الآية بيان أنَّ الحرمة لعدم ذكر الله تعالى؛ لأنَّ التَّحريم يوصف بهذا الوصف، وهو الموجبُ للحرمة كالميتة والموقوذة، وبهذا تبيَّن فساد حمل الآية على الميتة وذبائح المشركين، فإنَّ الحرمةَ هناك ليست لعدم ذِكْرِ اسمِ الله تعالى، حتَّى إنَّه وإن ذَكَرَ اسمَ الله تعالى لم يحل. فإن قيل: النَّص مجمل؛ لأنَّه يحتملُ الذِّكر حالة الذَّبح، وحالة الطَّبخ، وحالة الأكل، فلم يصح الاحتجاج به.
          فالجواب: أنَّ ما سوى حالة الذَّبح ليس بمراد بالإجماع، وأجمع السَّلف على أنَّ المرادَ حالةُ الذَّبح فلا يكون مجملاً، ثمَّ إنَّه قد اخُتِلفَ في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فقيل: جملة مستأنفة. قالوا: لا يجوز أن تكون مسوقة على سابقتها؛ لأنَّ الأولى طلبيَّة، وهذه خبريَّة. وقيل: إنَّها حاليَّة؛ أي: لا تأكلوه، والحال أنَّه فسق.
          وفي «اللباب»: وقد يحتجُّ الرَّازي بهذا الوجه على الحنفية، حيثُ قلب دليلهم عليهم بهذا الوجه، وذلك لأنَّهم يمنعون من أَكْلِ متروكِ التَّسمية عمداً، والشَّافعيَّة لا يمنعون منه، استدلَّ الحنفية بظاهر الآية، فقال الرَّازي: هذه الجملة حالية، ولا يجوز أن تكون معطوفة؛ لتخالفهما طلباً وخبراً، فتعين أن تكون حالية، وإذا كانت حالية كان المعنى لا تأكلوه حال كونه فسقاً.
          ثمَّ قيل: إنَّ هذا التَّفسيق مجمل فسَّره الله تعالى في موضع آخر فقال: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145] يعني: أنَّه إذا ذكر اسم غير الله على الذَّبيحة لا يجوز أكلها؛ لأنَّه فسق.
          وأُجيب: بأن يقال: سلَّمنا أنَّ ما أُهِلَ لغير الله به يكون فِسْقاً، ونحن نقول به، ولا يلزم من ذلك أنَّه إذا لم يُذْكَرِ اسمُ الله عليه، ولا اسم غيره أن يكون حراماً.
          وللنِّزاع فيه محال من وجوه:
          منها: أنَّا لا نسلِّم امتناع عطف الخبر على الطَّلب والعكس، وإن سُلِّمَ فالواو للاستئناف، وما بعدها مستأنف، وإن سُلِّمَ أيضاً فلا نُسَلِّمُ / أن {فِسْقاً} في الآية الأخرى مبين للفسق في هذه الآية، فإنَّ هذا ليس من باب المجمل والمبين؛ لأنَّ له شروطاً ليست موجودة هنا. انتهى، فلْيُتَأَمَّل.
          وقد سقط في رواية أبي ذرٍّ قوله: <{لِيُجَادِلُوكُمْ} إلى آخره>.