نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث أنس: كان أشبههم برسول الله

          3748- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) أي: ابن الحرِّ، ويقال: ابنُ إشكاب، هو أخو أبي الحسن علي بن إشكابٍ العامري البغداديِّ، مات يوم الثلاثاء يوم عاشوراء سنة إحدى وستين ومائتين ببغداد، وهو من أفراده (حَدَّثَنِي) بالإفراد (حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أي: ابن بهرام، أبو أحمد التَّميمي المَرُّوذي المعلِّم، نزل ببغداد، مات سنة أربع عشرة ومائتين، قال: (حَدَّثَنَا جَرِيرٌ) أي: ابن حازم (عَنْ مُحَمَّدٍ) هو: ابنُ سيرين (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ☺) أنَّه قال: (أُتِيَ) بضم الهمزة على البناء للمفعول (عُبَيْدُ اللَّهِ) بصيغة التَّصغير (ابْنُ زِيَادٍ) بكسر الزاي وتخفيف الياء؛ أي: ابن أبي سفيان، وهو الذي ادَّعاه معاوية أخاً لأبيه أبي سفيان فألحقَه بنسبهِ وهو الذي يُقال له: زياد ابن أبيه، ويقال له: زيَّاد بن سُمَيَّة _بضم السين المهملة_ وهي أمة كانت للحارث والد أبي بكرةَ نُفيع.
          وقال ابنُ معين: ويقال لعبيد الله بن مرجانة وهي أمُّه. وقال غيرُه: وكانت مجوسيَّة. وقال البخاريُّ: وكانت مرجانة سبيَّة من أصفهان، وكان زياد من أصحابِ عليٍّ ☺، فلمَّا استخلفَه معاوية صار من أشدِّ الناس بغضاً لعليِّ بن أبي طالب ☺ وأولاده.
          وعبيد الله ابنه هو الذي سيَّر الجيشَ لقتال الحسين ☺، وهو يومئذٍ أمير الكوفة ليزيد بنِ معاوية بن أبي سفيان، وكان جيشُه ألف فارس، ورأسُهم الحرُّ بن يزيد التَّميمي، وعلى مقدِّمتهم الحُصين بن نُمير الكوفي، ثمَّ جرى ما جرى فآخر الأمر قُتِل / الحسين ☺، واختلفوا في قاتلهِ فقيل الحُصين بن نمير، وقيل: مُهاجر بن أوس التَّميمي، وقيل: كثير بن عبد الله الشَّعبي، وقيل: شمرُ بن ذِي الجَوشن، وقيل: سنان بن أبي نواس بن عَمرو النَّخعي وهو الأشهرُ، فأخذَ رأس الحسين ودفعَه إلى خولي بن يزيد، وكان سنان طعنَه فوقع، ثمَّ قال لخولي: اجتز رأسه، فأراد أن يفعلَ فأرعدَ وضعُف، فقال له سنان: فتَّ الله عضدَك وأبان يديكَ فنزلَ إليه فذبحَه، وكان ذلك يوم الجمعة يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، ثمَّ حملوا رأس الحسين ☺ ورؤوس القتلى من أصحابه إلى عُبيد الله بن زياد وهو بالكوفة، وكانت الرُّؤوس اثنين وسبعين رأساً، حمل خولي بن يزيد رأس الحسين ☺ وحملت كندة ثلاثة عشر رأساً وهوازن عشرين وبنو تميم عشرين، وبنو أسد سبعة، ومذحج أحد عشر وكان مع الرُّؤوس والسَّبايا شمرُ بن ذي الجوشنِ، وقيس بن الأشعث، وعَمرو بن الحجَّاج، وعروة بن قيس، فأقبلوا حتَّى قدموا بها على عُبيد الله بن زياد وسنذكرُ بعد ما جرى بعد أن قدموا برأس الحسين ☺.
          (بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ ☺ فَجُعِلَ) على البناء للمفعول؛ أي: جعلَ رأس الحسين ☺ (فِي طَسْتٍ) بفتح الطاء المهملة وسكون السين المهملة. قال الجوهريُّ: الطَّست: الطَّسُّ بلغة طيء أبدل من إحدى السينين تاء للاستثقال. وفي «المُغرِب»: بالشين المعجمة، والطِّست مؤنثة وهي أعجميَّة تعريبها: طسٌّ، والجمع: طساس وطسوس، وقد يقال: الطَّسوت.
          (فَجَعَلَ) على البناء للفاعل؛ أي: جعل عبيد الله بن زياد اللَّعين (يَنْكُتُ) أي: يضربُ بقضيبٍ على الأرض فيُؤثر فيها، وهو بالمثناة الفوقية، وفي رواية الترمذي وابن حبَّان من طريق حفصةَ بنت سيرين عن أنسٍ ☺ فجعلَ يقول: بقضيبٍ له في أنفهِ، وفي رواية الطَّبراني من حديث زيد بن أرقم: فجعلَ يجعل قضيباً في يدهِ في عينه / وأنفه، فقلت: ارفعْ قضيبَك فقد رأيتُ فمَ رسول الله صلعم في موضعه.
          وفي رواية البزَّار من وجهٍ آخر عن أنس ☺، قال: فقلتُ له: إني رأيتُ رسول الله صلعم يلثمُ حيث يقع قضيبك، قال: فانقبض.
          (فَقَالَ) وفي رواية: <وقال> بالواو؛ أي: قال عبيد الله بن زياد (فِي حُسْنِهِ شَيْئاً) وفي رواية الترمذيِّ: ((ما رأيت مثل هذا حسناً)) (فَقَالَ أَنَسٌ ☺: كَانَ أَشْبَهَهُمْ) أي: كان الحسين ☺ أشبه أهل البيت (بِرَسُولِ اللَّهِ صلعم وَكَانَ) أي: الحسين؛ أي: شعر رأسه ولحيته (مَخْضُوباً بِالْوَسْمَةِ) بفتح الواو وأخطأ من ضمها، وسكون السين المهملة ويجوز فتحها، هو نبت يُختَضبُ به يميل إلى سواد. وقال ابنُ خطيب الدهشة: الوسِمة بكسر السين في لغة الحجاز، وهي أفصح من السكون. وأنكر الأزهريُّ السكون، وقال: كلام العرب بالكسر، نبت يُختَضبُ بورقه. وسيأتي البحث في ذلك في «كتاب اللِّباس» إن شاء الله تعالى.
          تتمة: قال سبطُ ابن الجوزي: أما كان لرسول الله صلعم على أنس ☺ من الحقوق أن ينكرَ على ابن زياد فعلَه ويقبِّح له ما وقع من النَّكت بالقضيبِ، لكن الفحل زيد بن أرقم ☺ فإنَّه أنكر عليه إنكاراً شديداً، فروى الطَّبراني عن أبي مخنف عن سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم قال: شهدتُ ابن زياد وهو ينكتُ بقضيبٍ بين ثنيَّتيه ساعة، فلمَّا رآه زيدُ بن أرقم لاهجهُ عن نكتهِ بالقضيبِ، فقال له: أعلُ بهذا القضيب عن هاتين الشَّفتين فوالذي لا إله غيرُه لقد رأيتُ شفتي رسولِ الله صلعم على هاتين الشَّفتين يقبلهما، ثمَّ انفضح الشَّيخ يبكي، فقال له ابنُ زياد: أبكى الله عينيك، فوالله لولا أنَّك شيخٌ قد خرفتَ وذهب عقلُك لضربتُ عنقَك، فقامَ وخرجَ فسمعتُ الناس يقولون: والله لقد قال زيدُ بن أرقم قولاً لو سمعَه ابنُ زياد لقتله، فقلت: ما الذي قال؟ قال: مرَّ بنا وهو يقول: / أنتم يا معاشرَ العرب عبيد بعد اليوم قتلتُم ابنَ فاطمة وأمَّرتُم ابنَ مرجانة فهو يقتلُ خياركُم ويستعبدُ شراركُم، فبُعداً لمن يرضَى بالذُّلِّ والعار.
          فللَّه درُّ زيد بن أرقم الأنصاري الخزرجي من أعيان الصَّحابة ♥ غزا مع النَّبي صلعم سبعَ عشرة غزوة، وشهدَ صفِّين مع علي ☺ وكان من خواصِّ أصحابه، ومات بالكوفة سنة ست وستين، وقيل: ثمان وستين.
          ثمَّ إنَّ الله تعالى وتبارك جازى هذا الفاسقُ الظَّالم عبيد الله بن زياد بأن جعلَ قتله على يدي إبراهيم بن الأشتر النَّخعي يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجَّة سنة ستٍّ وستين على أرض يُقال لها: الجازر، بينها وبين الموصل خمسة فراسخ، وكان المختار بن أبي عبيد الثَّقفي أرسله لقتال ابن زياد، ولما قُتِل ابن زياد جيء برأسه وبرؤوس أصحابه وطُرحت بين يدي المختار، وجاءت حيَّة دقيقة تخلَّلت الرؤوس حتى دخلت في فم ابنِ مَرْجانة وهو ابنُ زياد، وخرجت من مَنخره، ودخلت في منخره وخرجت من فِيْهِ، وجعلت تدخلُ وتخرج من رأسه من بين الرُّؤوس.
          ثمَّ إن المختار بعث برأس ابن زياد ورؤوس الذين قتلوا إلى مكة إلى محمد ابن الحنفية، وقيل: إلى عبد الله بن الزُّبير فنصبها بمكَّة، وأحرق ابن الأشتر جثَّة ابن زياد وجثثِ الباقين، والله أحكم الحاكمين.
          ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: «كان أشبههم برسولِ الله صلعم »، والحديث من أفراد البخاري ⌂.