نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: بعث عمر الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين

          3159- 3160- (حَدَّثَنَا الْفَضْلُ) بسكون المعجمة (ابْنُ يَعْقُوبَ) الرخاميُّ البغداديُّ، وهو من أفراده، وقد مرَّ في البيع [خ¦2060]، قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ) أي: ابن غيلان، أبو عبد الرحمن (الرَّقِّيُّ) بفتح الراء المشددة وكسر القاف المشددة، نسبة إلى الرقة، مات سنة عشرين ومائتين، قال: (حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) كذا في جميع النسخ بسكون العين المهملة وفتح المثناة الفوقية وكسر الميم، وكذا وقع في «مستخرج الإسماعيلي» وغيره في هذا الحديث.
          وزعم الدِّمياطيُّ: أنَّ الصواب: المُعَمَّر، بفتح العين المهملة وتشديد الميم المفتوحة وبالراء من غير مثناة، قال: لأنَّ عبد الله بن جعفر لا يروي عن المُعْتَمِر البصريِّ، ورُدَّ بأنَّ ذلك ليس بكافٍ في ردِّ الروايات الصَّحيحة؛ لأنَّ عدم دخول أحدهما بلد الآخر لا يستلزم عدم ملاقاتهما في سَفَرِ الحج ونحوه.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: وما ذكره معارَضٌ بمثله، فإنَّ المعتمر بن سليمان رَقِّي، وسعيد بن عبد الله بصريٌّ، فمهما استبعد من إلقاء البصريِّ الرَّقي جاء مثله في لقاء الرَّقي البصري.
          وأيضاً فالذين جمعوا رجال البخاري لم يذكروا فيهم المعمَّر بن سليمان الرَّقي، وأطبقوا على ذكر المُعْتَمِر بن سليمان التيمي البصري.
          وقال أيضاً: وأَغْرَبَ الكِرمانيُّ فحكى أنَّه قيل: الصَّواب في هذا مَعْمَر بن راشد؛ يعني: شيخ عبد الرَّزاق، ثمَّ قال: وهذا هو الخطأ بعينه، فليست لعبد الله بن جعفر الرَّقي عن معمر بن راشد روايةٌ أصلاً.
          وتعقَّبه العينيُّ: بأن الكِرماني لم يجزم فيه، بل حكى عن بعضهم، ولمن حكى عنه أن يقول: دعوى عدم رواية عبد الله بن جعفر الرَّقي، عن معمر بن راشد تحتاج إلى دليلٍ، فمجرد النفي غير كافٍ.
          (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) مكبَّراً كذا ضَبَطَه الكِرماني، وفي نسخة: وقع مُصَغَّراً هو: ابنُ جُبير بن حية المذكور بعد زياد بن جبير وهو عمه (الثَّقَفِي) بالمثلثة والقاف المفتوحتين وبالفاء، قال: (حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ) بضم الميم وفتح الزاي وبالنون (وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرٍ) بكسر الزاي وتخفيف التحتانية، وقد مر في الصوم [خ¦1994].
          (عَنْ) أبيه (جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ) بفتح الحاء المهملة وتشديد المثناة التحتية، هو: ابنُ مسعود بن معتب بن مالك بن عمرو بن / سعيدِ بن عوف بن ثقيف الثقفيِّ، وهو من كبار التَّابعين، ومنهم من عدَّه في الصحابة.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: وليس ذلك عندي ببعيدٍ؛ لأنَّ من شَهِدَ الفتوح في وسط خلافة عمر ☺ يكون في عهد النَّبي صلعم مميَّزاً.
          وقد نقل ابن عبد البر أنَّه لم يبق في سنة حجَّة الوداع من قريش وثقيف أحدٌ إلَّا أسلم وشهدها، وهذا منهم، وهو من بيتٍ كبيرٍ؛ فإنَّ عمَّه عروة بن مسعود كان رئيس ثقيف في زمانه والمغيرة بن شعبة ابن عَمِّه. ووقع في رواية الطبريِّ من طريق مبارك بن فضالة، عن زياد بن جبير: حَدَّثني أبي. ولسعيد حفيده روايةٌ أخرى في الأشربة [خ¦5584] والتوحيد [خ¦7530]، وعمُّه زياد بن جبير تقدمت له رواياتٌ أخرى في الصوم [خ¦1994] والحج [خ¦1713].
          وذكر أبو الشيخ: أنَّ جبير بن حيَّة ولي إمرة أصبهان، ومات في خلافة عبد الملك بن مروان، وقال ابن ماكولا: جبير بن حيَّة الثَّقفي، روى عن المغيرة بن شعبة، وهو والد الجبيريِّين بالبصرة.
          وقال العينيُّ: روى جبير بن حيَّة أيضاً عن عمر بن الخطاب والنُّعمان بن بشير ☻ .
          (قَالَ) أي: إنَّه (قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ ☺) هو: ابنُ الخطاب ☺ (النَّاسَ فِي أَفْنَاءِ الأَمْصَارِ) قال صاحب «المطالع»: في أفناء الناس؛ أي: جماعاتهم، والأَفْنَاء، بالفاء والنون ممدوداً، جمع: فِنْو بكسر الفاء وسكون النون. وقيل: أفناء النَّاس: أخلاطهم، يقال للرجل إذا لم يُعْلَمْ من أيِّ قبيلةٍ هو: من أفناء القبائل، وقيل: الأفناء: أنزاعٌ من القبائل من هاهنا ومن هاهنا.
          وحكى أبو حاتم أنه لا يقال في الواحد: هذا من أفناء الناس، إنَّما يقال في الجماعة: هؤلاء من أفناء النَّاس، وقال الجوهريُّ: يقال: هو من أفناء النَّاس؛ أي: لم يعلم ممَّن هو.
          وقال ابن الأثير: وفي الحديث: ((رجلٌ من أفناء النَّاس))؛ أي: لم يُعْلَم ممَّن هو، الواحد فِنْو، وقيل: من الفناء، وهو المتَّسع أمام الدار، وجَمْعُ الفناء على أفنية، والمصر: المدينة العظيمة.
          وقال الكِرماني: قوله: أفناء الأنصار، يقال: هو من أفناء النَّاس إذا لم يُعْلَم ممَّن هو، وفي بعضها: ((الأمصار)) / بالميم.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: في أفناء الأمصار؛ أي: في مجموع البلاد الكبيرة.
          (يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ فَأَسْلَمَ الْهُرْمُزَانُ) بضم الهاء وسكون الراء وضم الميم وبالزاي وبالنون، عَلَمُ رجلٍ عظيمٍ من عظماء العجم ملك الأهواز، قاله الكِرمانيُّ. وقال ابن قتيبة في «المعارف»: قَتَلَه عبيد الله بن عمر ☻ بعد عمر ☺.
          وهذا الموضع يقتضي بعضَ بسطٍ في الكلام حتَّى ينشرحَ صدر النَّاظر فيه؛ لأنَّ الراوي هنا أخلَّ شيئاً كثيراً، فنقول وبالله التوفيق: أمَّا الهرمزان فكان ملكاً كبيراً من ملوك العجم وكانت تحت يده كورة الأهواز وكورة جندي سابور وكورة السوس وكورة السرق وكورة نهر بين وكورة نهر تيري ومَنَاذِرْ، بفتح الميم والنون وبعد الألف ذال معجمة وآخره راء، وكان الهرمزان في الجيش الذين أرسلهم يزدجر إلى قتال المسلمين وهم على القادسية، وهي قريةٌ على طريق الحاجِّ على مرحلةٍ من الكوفة، وأمير المسلمين يومئذٍ سعد بن أبي وقاص ☺، وكان رأس جيش العجم رُستم في مائة ألف وعشرين ألفاً يتبعها ثمانون ألفاً ومعهم ثلاثة وثلاثون فيلاً، وكان الهرمزان رأس الميمنة.
          وزعم ابن إسحاق: أنَّ المسلمين كانوا ما بين السَّبعة آلاف إلى الثمانية آلاف، ووقع بينهم قتالٌ عظيمٌ لم يعهد مثله، وأبلى في ذلك اليوم جماعةٌ من الشُّجعان مثل طليحة الأسدي وعَمرو بن معدي كرب والقعقاع بن عَمرو وجرير بن عبد الله البجلي وضرار بن الخطَّاب وخالد بن عرفطة وأمثالهم.
          وكانت الوقعة يوم الاثنين مستهل المحرَّم عام أربع عشرة، وأرسل الله تعالى في ذلك اليوم ريحاً شديدة أَرْمَتْ خيام الفرس من أماكنها وألقت سرير رستم مقدم الجيش فركب بغلة وهرب وأدركه المسلمون وقتلوه وانهزمت الفرس وقتل المسلمون منهم خلقاً كثيراً، وكان فيهم المسلسلون ثلاثين ألفاً، فقتلوا بكمالهم، وقتل في المعركة عشرة آلاف، وقيل: قريب من ذلك، ولم يزل المسلمون / وراءهم إلى أن دخلوا مدينة الملك، وهي المدائن التي فيها إيوان كسرى، وكان الهرمزان من جملة الهاربين، ثمَّ وقعت بينه وبين المسلمين وقعة، ثمَّ وقع الصلح بينه وبين المسلمين، ثمَّ نقض الصُّلح، ثمَّ جمع أبو موسى الأشعري ☺ الجيش وحاصروا هرمزان في مدينة تستر.
          ولمَّا اشتدَّ عليه الأمر بعث إلى أبي موسى فسأله الأمان إلى أن يحملَه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ☺ فأجابه إلى ذلك، ووجَّه معه الخُمُس من غنائم المسلمين، فلمَّا وصل إليه ووقع نظرَه عليه سجدَ لله تعالى وجرى بينه وبين عمر ☺ محاورات، ثمَّ بعد ذلك أسلم طائعاً غير مكره، وأسلم مَنْ كان معه من أهله وولده وخدمه، ثمَّ قرَّبه عمر ☺ وفرح بإسلامه.
          فهذه قصَّة إسلام الهرمزان الذي قال في حديث الباب: ((فأسلم الهرمزان)) وكان لا يفارق عمر ☺ حتَّى قتل عمر ☺، فاتَّهمه بعض الناس بممالاة أبي لؤلؤة، فقتله عُبيد الله بن عمر ☻ بتصغير عبيد.
          (فَقَالَ: إِنِّي مُسْتَشِيرُكَ) أي: قال عمر ☺ للهرمزان: إنِّي مستشيرك (فِي مَغَازِيَّ) بتشديد الياء (هَذِهِ) إشارةٌ إلى ما قصده، وقد بيَّن ابن أبي شيبة ما قصده من ذلك فروى من طريق مَعْقِل بن يسار: أنَّ عمر ☺ شاور الهرمزان في فارس وأصبهان وأذربيجان؛ أي: بأيُّها يبدأ. وهذا يشعر بأنَّ المراد أنَّه استشار في جهاتٍ مخصوصةٍ، والهرمزان كان من أهل تلك البلاد، فكان أعلم بأحوالها من غيره.
          وعلى هذا، ففي قوله في حديث الباب: ((فالرأس كسرى، والجناح قيصر، والجناح الآخر فارس)) نظرٌ؛ لأنَّ كسرى هو رأس أهل فارس، وأمَّا قيصر صاحب الروم فلم يكن كسرى رأساً لهم.
          وقد وقع عند الطبريِّ: من طريق مبارك بن فضالة قال: فإنَّ فارس اليوم رأسٌ وجناحان. وهذا موافقٌ لرواية ابن أبي شيبة وهو أولى؛ لأنَّ قيصر كان بالشَّام ثمَّ ببلاد الشَّمال، ولا تعلُّق لهم بالعراق وفارس والمشرق، / ولو أراد أن يجعل كسرى رأس الملوك وهو ملك المشرق وقيصر ملك الروم دونه، ولذلك جعله جناحان؛ لكانَ المناسب أن يجعل الجناح الثاني ما يقابله من جهة اليمين كملوك الهند والصِّين مثلاً، لكن دلَّت الرواية الأخرى على أنَّه لم يرد إلَّا أهل بلاده التي هو عالمٌ بها، وكأنَّ الجيوش إذ ذاك كانتْ بها بالبلاد الثلاثة، وأكثرها وأعظمها بالبلدة التي فيها كسرى؛ لأنَّه كان رأسهم.
          (قَالَ: نَعَمْ) أي: قال الهرمزان: نعم وهو حرفُ إيجاب، وقال الكرمانيُّ: إن صحَّت الرِّواية بلفظ فعل المدح فتقديره: نِعْمَ المثل.
          (بِمَثَلُهَا) والضَّمير في مثلها يرجعُ إلى الأرض التي يدلُّ عليها السِّياق وارتفاع مثلها على الابتداء (وَمَثَلُ مَنْ فِيهَا مِنَ النَّاسِ مِنْ عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ) عطفٌ على مثلها، وخبر المبتدأ قوله: (مَثَلُ طَائِرٍ: لَهُ رَأْسٌ وَلَهُ جَنَاحَانِ وَلَهُ رِجْلاَنِ، فَإِنْ كُسِرَ أَحَدُ الْجَنَاحَيْنِ نَهَضَتِ الرِّجْلاَنِ بِجَنَاحٍ وَالرَّأْسُ، فَإِنْ كُسِرَ الْجَنَاحُ الآخَرُ نَهَضَتِ الرِّجْلاَنِ وَالرَّأْسُ وَإِنْ شُدِخَ الرَّأْسُ) أي: وإن كسر من الشَّدخ بالشين المعجمة والدال المهملة والخاء المعجمة.
          قال ابن الأثير: الشَّدخُ كسر الشَّيء الأجوف، تقول: شدخت رأسه فانشدخ.
          (ذَهَبَتِ الرِّجْلاَنِ وَالْجَنَاحَانِ وَالرَّأْسُ، فَالرَّأْسُ كِسْرَى، وَالْجَنَاحُ قَيْصَرُ، وَالْجَنَاحُ الآخَرُ فَارِسُ) لفظ: ((كسرى)) بفتح الكاف وكسرها، وقيصر غير منصرفٍ، وكذا فارس: اسم الجيل المعروف من العجم، قيل: فيه نظرٌ؛ لأنَّ كسرى لم يكن رأساً للروم، وقد تقدَّم البحث فيه.
          وقيل: إن كسرى كان رأس الكل؛ لأنَّه لم يكن في زمانه ملكٌ أكبر منه؛ لأنَّ سائر ملوك البلاد كانوا يهابونه ويهادونه، فإن قيل: فالرأس كسرى والجناح قيصر والجناح الآخر فارس، وما الرجلان؟
          فالجواب: أنَّ لقيصر الإفرنج، ولكسرى الهند، ولا شكَّ أنَّ الإفرنج كانت في طرفٍ من قيصر متصلين به، والهند كانت في طرفٍ من كسرى متَّصلين به، وإنَّما لم يقل وإن كسر الرجلان، فكذا اكتفاءً للعلم بحاله قياساً على الجناح لاسيَّما، وأنَّه بالنِّسبة إلى الظاهر أسهل / حالاً من الجناح.
          فإن قيل: إذا انكسر الجناح والرجلان جميعاً لا ينهض أيضاً. فالجواب: أنَّ الغرض أنَّ العضو الشريف هو الأصل، فإذا صَلُح صَلُح الجَسَدُ كلُّه، وإذا فَسد، فسد بخلاف العكس.
          (فَمُرِ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى) في راوية مبارك: أنَّ الهرمزان قال: فاقطع الجناحان يلين لك الرأس فأنكر عليه عمر ☺ فقال: بل أقطع الرأس أوَّلاً، فيحتمل أنَّه لمَّا أنكر عليه عاد فأشار إليه بالصَّواب.
          (وَقَالَ بَكْرٌ) هو: بكر بن عبد الله المذكور (وَزِيَادٌ) هو: زياد بن جبير المذكور (جَمِيعاً: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ: فَنَدَبَنَا) بفتح الدال المهملة والموحدة على صيغة الماضي؛ أي: طلبنا ودعانا (عُمَرُ ☺) وعزم علينا أن نجتمع للجهاد.
          (وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ) أي: جعله أميراً علينا والنُّعمان بن مقَرِّنْ، بفتح القاف وكسر الراء المشددة وبالنون، المزني حامل لواء مزينة يوم الفتح استشهد يوم نهاوند سنة إحدى وعشرين، وهو من أفاضل الصَّحابة هاجر هو وإخوةٌ له سبعة، وقيل: عشرة. وقال ابنُ مسعود: إنَّ للإيمان بيوتاً، وإنَّ بيت آل مقرن من بيوت الإيمان.
          وروي عنه أنَّه قال: قدمنا على رسولِ الله صلعم في أربعمائة من مزينة، ثمَّ سكن البصرة، وتحوَّل عنها إلى الكوفة، وكان النُّعمان قدم على عمر ☺ بفتح القادسيَّة. وفي رواية ابن أبي شيبة: فدخل عمر المسجد فإذا هو بالنُّعمان يصلِّي فقعد، فلمَّا فرغ قال: إنِّي مستعملك قال: أمَّا جابياً فلا، ولكن غازياً، قال: فإنَّك غازٍ، فخرج ومعه الزُّبير وحذيفة وابن عمر والأشعث وعَمرو بن معدي كرب.
          وفي رواية الطبريِّ: فأراد عمر ☺ المسير بنفسه، ثمَّ بعث النُّعمان ومعه ابن عمر وجماعة وكتب إلى أبي موسى الأشعريِّ ☺ أن يسيرَ بأهل البصرة، وإلى حذيفة أن يسيرَ بأهل الكوفة حتَّى يجتمعوا بنهاوند، وإذا التقيتُم فأميركم النُّعمان بن مقرن.
          (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ) وقد عرف من رواية / الطبريِّ أنَّها نُهَاوَنْد: وهي بضم النون وتخفيف الهاء وفتح الواو وسكون النون وآخره دال مهملة. وضبط الحافظ العسقلانيُّ: بفتح النون، وليس كذلك، بل بالضم؛ لأنَّه بناها نوح ◙؛ كانت تسمَّى نوح آوند؛ يعني: عمرها نوح ◙ فأبدلوا الحاء هاء، وهي مدينة جنوبي همدان، ولها أنهار وبساتين، وهي كثيرة الفواكه تحمل فواكهها إلى العراق لجودتها، منها إلى همدان أربعة عشر فرسخاً، وهي من بلاد عراق العجم في حد بلاد الجيل.
          (وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى) سمَّاه مبارك بن فضالة في روايته: بندار، وعند ابن أبي شيبة: إنَّه ذو الجناحين، وهو خُرذاد بن هُرمز من الفرس أحد الأمراء الأربعة الذين أمرتهم الأعاجم على كورة نهاوند، فلعلَّ أحدهما لقبه (فِي أَرْبَعِينَ أَلْفاً) كان هؤلاء الأربعون ألفاً من فارس، وكان من أهلِ نُهاوند عشرون ألفاً، ومن أهل قُم وقاشان عشرون ألفاً، ومن أهل أذربيجان ثلاثون ألفاً، ومن بلادٍ أخرى عشرون ألفاً، فالجملة مائة ألف وخمسون ألفاً فرساناً، وكانت هذه الوقعة على نُهاوند وقعةً عظيمةً، وكان المسلمون يسمُّونها فتح الفتوح.
          وقال ابن إسحاق والواقدي: كانت وقعة نُهاوند في سنة إحدى وعشرين، وقال سيف: كانت في سنة سبع عشرة، وقيل: في سنة تسع عشرة. وكانت في هذه أربع وقعات، وفي الوقعة الثانية قُتِلَ النُّعمان بن مقرن أمير الجيش وقام مقامه حذيفة بن اليمان ☺.
          (فَقَامَ تُرْجُمَانٌ) بفتح التاء وضمها وضم الجيم، وفيه وجهٌ ثالث وهو فتحهما نحو الزعفران، وفي رواية الطبريِّ من الزيادة: فلمَّا اجتمعوا أرسل بندار إليهم أن أرسلوا إلينا رجلاً نكلِّمه، فأرسلوا إليه المغيرة ☺.
          وفي رواية ابن أبي شيبة: وكان بينهم نهر فسَرَّح إليهم المغيرةَ، فعبر النهرَ فشاور ذو الجناحين أصحابه كيف يقعد للرسول؟ فقالوا له: اقْعُدْ في هيئة الملك وبهجته / فقعد على سريره، ووضع التَّاج على رأسه، وقام أبناء الملوك حوله سِمَاطَيْنِ عليهم أساور الذَّهب والقِرَطة والدِّيباج. قال: فأَذِنَ للمغيرة، فأخذ بضَبْعَيْه رَجُلان، ومعه رمحه وسيفه فجعل يطعن برمحه في بسطهم ليتطيَّروا.
          وفي رواية الطبريِّ: قال المغيرة: فمضيت ونكَّسْت رأسي، فدُفِعْتُ، فقلت لهم: إنَّ الرُّسُل لا يُفْعَلُ بِهم هذا.
          (فَقَالَ: لِيُكَلِّمْنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ) هو: ابنُ شعبة الثقفيُّ الكوفيُّ، وكان هو الترجمان، وكذلك كان هو الترجمان بين الهرمزان وعمر بن الخطاب ☺ في المدينة لمَّا قدم الهرمزان إليه (سَلْ عَمَّا شِئْتَ، فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ) هكذا خاطبه عامل كسرى بصيغة مَنْ لا يعقل احتقاراً له. وفي رواية ابن أبي شيبة: فقال: إنَّكم معشر العرب أصابكُم جوعٌ وجهد وجئتُم، فإن شئتُم مِرْناكم بكسر الميم وسكون الراء؛ أي: أعطيناكم الميرة؛ أي: الزَّاد ورجعتُم.
          وفي رواية الطبريِّ: إنَّكم معشر العرب أطول الناس جوعاً وأبعد النَّاس من كلِّ خيرٍ، وما منعني أن آمر هؤلاء الأساودة أن ينتظموكم بالنِّشاب إلَّا تنجُّساً بجِيَفكم، قال: فحمدتُ الله وأثنيت عليه، ثمَّ قلتُ: ما أخطأتَ شيئاً من صفتنا، كذلك كنا حتَّى بعث الله إلينا رسوله.
          (قَالَ) أي: المغيرة ☺ (نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، كُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ وَبَلاَءٍ شَدِيدٍ، نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنَ الْجُوعِ وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرَضِينَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَجَلَّتْ عَظَمَتُهُ إِلَيْنَا نَبِيّاً مِنْ أَنْفُسِنَا نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ) وزاد في رواية ابن أبي شيبة: ((في شرفٍ منَّا وأوسطنا حسباً وأصدقنا حديثاً)).
          (فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا، رَسُولُ رَبِّنَا صلعم : أَنْ نَقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلعم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا: أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ، وَمَنْ بَقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ) وفي رواية ابن أبي شيبة: ((فأمرنا رسول ربِّنا أن نقاتلكم حتَّى تعبدوا الله وحده أو تؤدُّوا الجزية))، وهذا القدر هو الذي يحتاج / إليه في هذا الباب.
          وفيه: إخبار المغيرة أنَّ النَّبي صلعم أمر بقتال المجوس حتَّى يؤدُّوا الجزية؛ لأنَّهم كانوا مجوساً. وفيه: فصاحة المغيرة ☺ من حيث إنَّ كلامه مُبَيِّنٌ لأحوالهم فيما يتعلق بدنياهم من المطعوم والملبوس، وبدينهم من العبادة، وبمعاملتهم من طلب التَّوحيد، وبمعادهم في الآخرة إلى كونهم في الجنَّة، وفي الدنيا إلى كونهم ملوكاً مُلّاكاً للرِّقاب. وفيه: دفعٌ لقول من زعم أنَّ عبد الرَّحمن بن عوف ☺ تفرَّد بذلك.
          وزاد في رواية الطبريِّ: ((وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشَّقاء أبداً حتَّى نغلبكم على ما في أيديكم)).
          (فَقَالَ النُّعْمَانُ) يعني: للمغيرة (رُبَّمَا أَشْهَدَكَ اللَّهُ مِثْلَهَا) أي: أحضرك الله مثل هذه المغازي والمقاتلة والشِّدَّة (مَعَ النَّبِيِّ صلعم فَلَمْ يُنَدِّمْكَ) بضم الياء من الإندام، يقال: أندمه الله فندم، والمعنى: لم يندمك فيما لقيت معه من الشِّدَّة، أو المعنى: لم يندمك على التأني والصبر حتَّى تزول الشمس (وَلَمْ يُخْزِكَ) من الإخزاء، يقال: خزِي، بالكسر: إذا ذلَّ وهانَ؛ أي: لو قتلت معه لعلمك بما تصير إليه من الثَّواب والنعيم الدَّائم لأجل الشهادة.
          ويروى: <ولم يُحْزِنْك> بالحاء المهملة والنون، من الحزن، وهو رواية الأكثرين، والأولى: <ولم يخزك> وهي رواية المُسْتملي، وهي أوجه لوفاق ما قبله، كما في حديث وفد عبد القيس: ((غير خزايا ولا ندامى))، وهذه المحاورة التي وقعت بين النُّعمان بن مقرن والمغيرة بن شعبة بسبب تأخير النُّعمان القتال، فاعتذر النعمان بقوله:
          (وَلَكِنِّي شَهِدْتُ الْقِتَالَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلعم كَانَ إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأَرْوَاحُ) جمع: ريح، وأصله: روح قلبت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، والجمع يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصلها، وقد حكى ابنُ جِنِّيٍّ: جمع ريح على أرياح.
          (وَتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ) وفي رواية ابن أبي شيبة: ((وتزول الشمس))، وزاد في رواية الطبريِّ: ((ويَطِيْبَ القتال))، وفي رواية ابن أبي شيبة: ((وينزل النَّصر)).
          وقد بيَّن مبارك بن فَضالة في روايته عن زياد بن جبير ارتباط كلام النُّعمان بما قبله، وسياقه يبين أنَّه ليس قصة مستأنفة، كما زعمه ابن بطَّال حيث قال: قول النُّعمان للمغيرة: ربَّما أشهدك الله مثلها، إلى آخره، كلامٌ مستأنفٌ، وابتداء قصَّةٍ أخرى، وذلك الزَّعم بعيدٌ جداً مع إمكان ارتباط الكلام بما قبله. ولفظ مبارك بن فضالة ملخصاً: أنَّهم أرسلوا إليهم إمَّا أن تعبروا إلينا النَّهر أو نعبر إليكم، قال النُّعمان: اعبروا إليهم.
          قال: / فتلاقوا وقد قرن بعضُهم بعضاً، وألقوا حسك (1) الحديد خلفهم؛ لئلا يفرُّوا، قال: فرأى المغيرة كثرتهم فقال: لم أَرَ كاليوم فشلاً إنَّ عدوَّنا يتركون يتأهَّبون، أما والله لو كان الأمر إليَّ لقد أعجلتهم.
          وفي رواية ابن أبي شيبة: فصاففناهم فرشقونا حتَّى أسرعوا فينا، فقال المغيرة للنُّعمان: إنَّه قد أسرع في الناس فلو حَمَلت، فقال النُّعمان: إنَّك لذو مناقب، وقد شهدت مع رسول الله صلعم مثلها.
          وفي رواية الطبريِّ: قد كان الله أشهدك أمثالها، وإنَّه والله ما منعني أن أناجزهُم إلَّا شيءٌ شهدته من رسول الله صلعم ، وزاد ابنُ أبي شيبة والطبريُّ معاً، واللَّفظ لمبارك بن فَضَالة: عن زياد بن جبير فقال النُّعمان: ((اللَّهم إني أسالك أن تقرَّ عيني اليوم بفتح يكون فيه عزُّ الإسلام وذلُّ الكفر والشَّهادة لي، ثمَّ قال: إنِّي هازٌّ اللواء فتيسَّروا للقتال)). وفي رواية ابن أبي شيبة: ((فليقضِ الرجل حاجته، وليتوضأ ثم هازُّه الثانية فتأهَّبوا)). وفي رواية ابن أبي شيبة: ((فلينظر الرجل إلى نفسه ويرمي من سلاحه، ثمَّ هازُّه الثالثة فاحملوا ولا يلوينَّ أحدٌ على أحد ولو قتلتُ، فإن قتلت فعلى النَّاس حذيفة. قال: فحمل وحمل الناس فوالله ما علمت أنَّ أحداً يومئذٍ يريد أن يرجع إلى أهله حتَّى يقتلَ، أو يظفر فثبتوا لنا، ثمَّ انهزموا، فجعل الواحدُ يقع على الآخر فيقتل سبعة، وجعل الحسك الَّذي جعلوه خلفهم يعقرهم)).
          وفي رواية ابن أبي شيبة: ((ووقع ذو الجناحين عن بغلة شهباء، فانشقَّ بطنُه، ففتحَ الله على المسلمين)). وفي رواية الطبريِّ: وجعل النعمان يتقدَّم باللواء فلمَّا تحقَّق الفتح جاءته نشَّابة في خاصرته فصرعته، فسجَّاه أخوه معقل ثوباً، وأخذ اللِّواء ورجعَ الناس فنزلوا وبايعوا حذيفة، فكتب بالفتح إلى عمر ☺ مع رجلٍ من المسلمين، وسمَّاه سيف في كتاب «الفتوح»: طريف بن سهم.
          وعند ابن أبي شيبة من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن أبي عثمان هو النَّهدي: أنَّه ذهب بالبشارة / إلى عمر ☺، فيمكن أن يكونا تَرَافَقَا.
          وذكر الطبريُّ: أنَّ ذلك كان سنة تسع عشرة، وقيل: سنة إحدى وعشرين، وقيل: غير ذلك كما تقدَّم.
          وفي الحديث منقبة للنُّعمان، ومعرفة المغيرة بالحرب، وقوة نفسه وشهامته وفصاحته وبلاغته، ولقد اشتمل كلامه الوجيز هذا على بيان أحوالهم الدُّنيوية من المطعم والملبس ونحوهما، وعلى أحوالهم الدِّينية أولاً وثانياً، وعلى معتقدهم من التَّوحيد والرسالة والإيمان والمعاد، وعلى بيان معجزات الرَّسول صلعم وإخباره بالمغيبات ووقوعها كما أخبر.
          وفيه: فضل المشورة وأنَّ الكبير لا نقص عليه في مشاورة من هو دونه، وأنَّ المفضول قد يكون أميراً على الأفضل؛ لأنَّ الزُّبير ☺ كان في جيش عليه فيه النُّعمان بن مقرن والزُّبير أفضل منه اتفاقاً، ومثله تأمير عَمرو بن العاص على جيشٍ فيه أبو بكر وعمر ☻ ، كما سيأتي في أواخر ((المغازي)) [خ¦4358].
          وفيه: ضرب المثل وجودة تصوُّر الهرمزان، ولذلك استشاره عمر ☺. وفيه: تشبيه الغائب المحسوس بحاضرٍ محسوسٍ؛ لتقريبه إلى الفهم. وفيه: البداءة بقتال الأهم فالأهم، وبيان ما كان العرب عليه في الجاهليَّة من الفقر وشظف العيش. وفيه: الإرسال إلى الإمام بالبشارة، وفضل القتال بعد زوال الشَّمس على ما قبله.
          وقد تقدَّم ذلك في ((الجهاد)) [خ¦2965] أيضاً.
          ومطابقةُ الحديث للترجمة تؤخذ من تأخير النُّعمان بن مقرن عن مقاتلة العدو، وانتظاره هبوب الريح، وزوال الشَّمس، وهو معنى قوله في آخر الحديث: ((انتظر حتى تهبَّ الأرواح وتحضر الصَّلوات)).
          وهذه موادعة في هذا الزمان مع الإمكان للمصلحة، والترجمة هي الموادعة مع أهل الحرب، وهي ترك قتالهم مع إمكانه قبل الظَّفر بهم، وقد أخرج البخاريُّ بعض هذا الحديث في ((التَّوحيد)) أيضاً [خ¦7530].


[1] في هامش الأصل: الحَسَك ما يعمل من الحديد على مثال حسك السعدان وهو من آلات العسكر. منه.