نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث عمر: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس

          3156- 3157- (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) المعروف بابن المدينيِّ، قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) هو: ابنُ عُيينة (قَالَ: سَمِعْتُ عَمْراً) هو: عمرو بن دينار (قَالَ: كُنْتُ جَالِساً مَعَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ) هو: أبو الشَّعثاء البصري (وَعَمْرِو بْنِ أَوْسٍ) بفتح الهمزة وسكون الواو، وفي آخره سين مهملة، الثَّقفي المكي المتقدِّم ذكر روايته عن عبد الرحمن بن أبي بكر في الحج [خ¦1784]. وعن عبد الله بن عَمرو في التَّهجد [خ¦3420]، وليست له هنا رواية، بل ذكره عَمرو بن دينار؛ ليُبَيِّن أن بَجَالَةَ لم يقصده بالتَّحديث، وإنَّما حدَّث غيره فسمعه هو، وهذا من وجوه التَّحمُّل بالاتِّفاق. وإنما اختلفوا هل يسوغ له أن يقول: حدثنا، والجمهور على الجواز، ومنع منه النسائي وطائفة قليلة، وقال البرقانيُّ: يقول سمعت فلاناً.
          (فَحَدَّثَهُمَا بَجَالَةُ) بفتح الموحدة وتخفيف الجيم وباللام، ابن عبدة، بالمهملتين بينهما موحدة مفتوحة، التميمي، ويقال: بَجَالة بن عبْد، بسكون الباء، بلا هاء، وهو من التابعين الكبار المشهورين من أهل البصرة، وليس له في البخاريِّ سوى هذا الموضع.
          (سَنَةَ سَبْعِينَ عَامَ حَجَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ) أي: وحجَّ حينئذٍ بجالة معه، وبذلك صرَّح أحمد في روايته عن سفيان، وكان مصعب أميراً على البصرة من قبل أخيه عبد الله بن الزبير، وكان يدعي له بالخلافة بالحجاز والعراق، وقدم بأموال عظيمة ودوابُّ وظهر، ففرق الجميع في قومه وغيرهم، ونحر عند الكعبة ألف بدنة، وعشرين ألف شاة، وأغنى ساكني مكة، وعاد إلى الكوفة. ويكنى بأبي عبد الله، من الطبقة الثانية من التابعين، من أهل المدينة، وكان يجالس أبا هريرة ☺، وحكى عن عمر بن الخطاب، وروى عن أبيه الزُّبير بن العوم وسعد وأبي سعيد الخدري ♥ . وكان يقال له: النحل؛ لجوده، وكان جميلاً وسيماً شجاعاً، ولي العراق خمس سنين، فأصاب ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، ففرقها في النَّاس، قُتِلَ يوم الخميس النصف من جمادى الآخرة، سنة اثنتين وسبعين، وسِنُّه خمس وثلاثون، وقيل: تسع وثلاثون، وقيل: أربعون، وقيل: خمس وأربعون.
          وكان قتلهُ عند دير الجاثليق على شاطئ نَهْرٍ، يقال له: دجيل، وقبره معروفٌ هناك، وكان عبد الملك بن مروان سار في جنودٍ هائلة من الشَّام، فالتقى مصعباً في السنة المذكورة، وعبد الملك في خمسين ألفاً، ومصعب في ثلاثين ألفاً، فانهزم مصعب؛ / لنفاق جماعةٍ من عسكره، وقتل منهم خلقٌ كثير، وقتل مصعب، قَتَلَه زائدة بن قدامة. وقيل: يزيد بن هبار القابسي، وكان من أصحاب مصعب، ونزل إليه عبيد الله بن ظبيان، فجزَّ رأسه، وأتى به عبد الملك، فأعطاه ألف دينار، وكان في هذه الأيام عبد الله بن الزبير يُدْعَى له بالخلافة في أرض الحجاز، وأخوه مصعب كان عامله على البصرة والكوفة.
          (عِنْدَ دَرَجِ زَمْزَمَ) الدَّرَج: بفتحتين، جمع دَرَجَة، وهي المرقاة، قاله الجوهريُّ. وفي «المغرب»: درج السلم: رتبه، الواحدة: درجة.
          (قَالَ: كُنْتُ كَاتِباً لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَمِّ الأَحْنَفِ) جَزْء: بفتح الجيم وسكون الزاي وآخره همزة، هو: ابنُ معاوية بن حُصَين، بضم الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة، ابن عبادة التَّميمي السعدي. وقال الدارقطنيُّ: بكسر الجيم وسكون الزاي وبالياء المثناة التحتية. وقال ابن ماكولا: بفتح الجيم وكسر الزاي وبالياء، وقيل: بضم الجيم وفتح الزاي وتشديد الياء، وقيل: هذا تصحيفٌ.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: وهو معدودٌ في الصَّحابة، وكان عاملَ عمر على الأهواز، ووقع في رواية الترمذي: أنَّه كان على مناذر، وهي من قرى الأهواز، وذكر البلاذريُّ: أنَّه عاش إلى خلافة معاوية ☺ وولى لزياد بعض عمله.
          وقال أبو عمر في «الاستيعاب»: لا يصحُّ له صحبة، وأمَّا الأحنف فهو ابن قيس بن معاوية بن حصين بن عبادة بن النَّزال بن مرَّة بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة التميمي السعدي.
          قال أبو عمر: أدرك النَّبي صلعم ، ولم يره، وأسلم على عهد النَّبي صلعم ، وكان أحد الجلَّة الحكماء العقلاء، يعدُّ في كبار التَّابعين بالبصرة، ومات بالكوفة في إمارة مصعب بن الزبير سنة سبع وستين، ومشى مصعب في جنازته، وقال الذَّهبيُّ: هو مخضرمٌ.
          (فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ☺ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ) أي: قبل موت عمر بن الخطاب ☺، وكان ذلك سنة اثنتين / وعشرين؛ لأنَّ عمر ☺ قد استشهد سنة ثلاث وعشرين.
          (فَرِّقُوا) أمرٌ من التَّفريق (بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ) قال الخطابيُّ: أمر عمر ☺ بالتَّفرقة بين المحارم من المجوس، وأرادوا به منعهم من إظهار ذلك، وإفشاء عقودهم للمسلمين، وإلَّا فالسنَّة أن لا يكشفوا عن بواطن أمورهم، وعن مذاهبهم في الأنكحة وغيرها.
          وذلك كما يشترط على النَّصارى أن لا يظهروا صليبهم ولا يفشوا عقائدهم؛ لئلَّا يفتتن به النَّاس من ضعفة المسلمين، ثمَّ لا يكشف لهم عن شيءٍ ممَّا استحلُّوه من بواطن الأمور. وفي رواية مسدد وأبي يعلى بعد قوله: فرِّقوا بين كلِّ زوجين من المجوس: ((اقتلوا كلَّ ساحرٍ، قال: فقتلنا في يوم ثلاث سواحر، وفرقنا بين المحارم منهم، وصنع طعاماً فدعاهم، وعرض السيف على فخذيه، فأكلوا بغير زمزمة)).
          قال الحافظ العسقلانيُّ: وقد روى سعيد بن منصور من وجهٍ آخر عن بَجَالة ما يبين سبب ذلك، ولفظه: ((فرِّقوا بين المجوس وبين محارمهم كيما يلحقهم بأهل الكتاب))، فهذا يدلُّ على أنَّ ذلك عند عمر ☺ شرط في قبول الجزية منهم.
          وأمَّا الأمر بقتل السَّاحر؛ فهو من مسائل الخلاف، وقد وقع في رواية سعيد بن منصور المذكورة من الزيادة: ((واقتلوا كلَّ ساحرٍ وكَاهنٍ)). وسيأتي الكلامُ على حكم السَّاحر في باب هل يعفى عن الذِّمِّي إذا سحر إن شاء الله تعالى [خ¦58/14-4948].
          (وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ ☺ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ).
          (حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَر) وهو بفتحتين، قالوا: المراد منه: هجر البحرين، وقال الجوهريُّ: هو اسم بلدٍ يذكر وينصرف، وقال الزجاجيُّ: يذكر ويؤنث. وقال البكريُّ: لا يدخله الألف واللام، وإنما لم يكن عمر ☺ يأخذ الجزية من المجوس؛ لأنَّه كان يرى في زمانه أنَّ الجزية لا تؤخذ إلَّا من أهل الكتاب، إذ لو كان عاماً؛ لما كان في توقفه في ذلك إلى أن شهد عبد الرحمن بن عوف ☺ بذلك معنى.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: إن كان هذا من جملة كتاب عمر ☺؛ فهو متَّصلٌ، ويكون فيه رواية عمر، عن عبد الرحمن بن عوف، وليس بجيِّدٍ.
          وقد أخرج أبو داود من طريق قُشَير بن عمرو، عن بَجَالة، عن ابن عباس ☻ / قال: جاء رجلٌ من مجوس هجر إلى النَّبي صلعم ، فلمَّا خرج قلتُ: ما قضى الله ورسوله فيكم؟ قال: شرٌّ؛ الإسلام أو القتل، قال: وقال عبد الرحمن بن عوف: قبل منهم الجزية.
          قال ابن عبَّاس ☻ : فأخذ النَّاس بقول عبد الرحمن وتركوا ما سمعت، وعلى هذا؛ فبجالة يرويه عن ابن عبَّاس سماعاً، وعن عمر ☺ كتابه، كلاهما عن عبد الرحمن بن عوف.
          وروى أبو عبيدة بإسنادٍ صحيحٍ عن حديثه: لولا أنِّي رأيت أصحابي أخذوا الجزية من المجوس ما أخذتها. وفي «الموطأ»: عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أنَّ عمر ☺ قال: لا أدري ما أصنع بالمجوس، فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلعم يقول: ((سنُّوا بهم سنَّة أهل الكتاب))، وهذا منقطعٌ مع ثقة رجاله.
          ورواه المنذريُّ والدارقطنيُّ في «الغرائب» من طريق أبي عليٍّ الحنفي، عن مالك، عن جدِّه، وهو منقطعٌ أيضاً؛ لأنَّ جدَّه علي بن الحسين لم يلحق عبد الرحمن بن عوف، ولا عمر ☻ .
          وقال أبو عمر: هذا من العام الَّذي أُرِيْدَ به الخاص؛ لأنَّ المراد سنة أهل الكتاب، على أنَّهم ليسوا بأهل كتاب. لكن روى الشافعيُّ وعبد الرَّزاق وغيرهما بإسنادٍ حسنٍ عن عليٍّ ☺: ((كان المجوسُ أهلَ كتاب يقرؤونه، وعلمٍ يدرسونه، فشَرِبَ أميرُهم الخَمْر، فوقع على أخته، فلمَّا أصبح دعا أهل الطَّمع فأعطاهم، وقال: إنَّ آدم كان يُنْكِحُ أولادَه بناته، فأطاعوه، وقتل من خالفه، فأسرى على كتابهم، وعلى ما في قلوبهم منه، فلم يبق عندهم منه شيءٌ)).
          وروى عبدُ بن حميد في تفسير سورة البروج بإسنادٍ صحيحٍ، عن ابن أبي أبزى: ((لما هزم المسلمون أهل فارس، قال عمر ☺: اجتمعوا، فقال: إنَّ المجوس ليسوا أهل كتاب، فنضع عليهم، ولا من عبدة الأوثان، / فيجري عليهم أحكامهم، فقال عليٌّ: بل هم أهل الكتاب))، فذكر نحوه، لكن قال: ((وقع على ابنته))، وقال في آخره: ((فوضع الأخدود لمن خالفه))، فهذا حجَّةٌ من قال: كان لهم كتاب.
          وأمَّا قول ابن بطَّال: لو كان لهم كتابٌ ورُفِعَ لرُفِعَ حُكْمُه، ولما استثني حلَّ ذبائحهم ونكاح نسائهم؛ لأنَّ في ذلك شبهة تقتضِي حقن الدم، بخلاف النَّكاح فإنَّه مما يحتاط.
          وقال ابن المنذر: ليس تحريم نسائهم وذبائحهم متَّفقاً عليه، ولكن الأكثر من أهل العلم عليه.
          وفي الحديث: قبول خبر الواحد، وأنَّ الصَّحابي الجليل قد يغيب عنه علم ما اطَّلعَ عليه غيرُه من أقوال النَّبي صلعم وأحكامه، وأنَّه لا نقص عليه في ذلك.
          وفيه: التَّمسُّك بالمفهوم؛ لأنَّ عمر ☺ فَهِمَ من قوله: ((أهل الكتاب)) اختصاصهم بذلك حتَّى حدَّثه عبد الرحمن بن عوف ☺ بإلحاق المجوس بهم فرجع، وممَّا يؤيِّد ذلك: أنَّه صلعم كان يبعثُ أمراء السَّرايا فيقول لهم: إذا لقيتُم العدوَّ فادعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلَّا فالجزية، فإن أعطوا وإلَّا قاتلوهم، ولم ينصَّ على مشركٍ دون مشرك، بل عمَّ جميعهم؛ لأنَّ الكفر يجمعهم.
          ولمَّا جاز أن يسترقهم جاز أن يؤخذ منهم الجزية، وعكسه المرتد لما لم يجز أن يسترق لم يجز أخذ الجزية منه، فإن قيل: الآية المذكورة تدلُّ على أنَّ الجزية لا تؤخذ إلَّا من أهل الكتاب؟
          فالجواب: أنَّا لا نسلم ذلك؛ لأنَّ الله تعالى لم ينه أن يؤخذ من غيرهم، وللشارع أن يزيد في البيان، ويفرض ما ليس بمذكورٍ في الكتاب، والله أعلم بالصَّواب.
          ومطابقةُ الحديث للترجمة في قوله: ((والمجوس))، وقد أخرجهُ أبو داود في الخراج بأتمَّ منه، وأخرجهُ الترمذيُّ في السِّيَر مختصراً، وكذا النسائيُّ فيه.