نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني فقمت إلى جنبه

          3129- (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) أي: ابن مخلد، يعرف: بابن راهويه الحنظلي المروزي (قَالَ: قُلْتُ لأَبِي أُسَامَةَ) هو: حمَّادُ بن أسامة اللَّيثي / (أَحَدَّثَكُمْ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) ولم يذكر جواب الاستفهام، وقد ذكره في «مسند إسحاق بن راهويه» بهذا الإسناد وقال في آخره: نعم (عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزُّبير بن العوام (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) أنَّه (قَالَ: لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ) هو: ابنُ العوام، أحد العشرة المبشَّرة بالجنة، وحواري رسول صلعم ، وابن عمَّته صفية بنت عبد المطَّلب، شهد بدراً والمشاهد كلَّها مع رسول صلعم ، وهاجر الهجرتين، وأسلم وهو ابن ست عشرة سنة، وهو أوَّل من سلَّ سيفاً في سبيل الله ☺ (يَوْمَ الْجَمَلِ) يعني: يوم وقعة كانت بين عليٍّ وعائشة ☻ ، وهي في هودج على جملٍ، كما سيأتي ذكر قصَّته إجمالاً، وكانت تلك الوقعة على باب البصرة في جمادى الأولى سنة ستٍّ وثلاثين، وإنَّما أضيفت الوقعة إلى الجمل لكون عائشة ♦ عليها، وهذا الحرب [كان أول حرب] وقعت بين المسلمين.
          وقصَّته على التَّلخيص والإجمال: أنَّ عثمان بن عفان ☺ قُتِلَ شهيداً سنة خمس وثلاثين، وكانت عائشة ♦ بمكَّة وكذلك أمَّهات المؤمنين قد خرجنَ إلى الحجِّ في سنة خمس وثلاثين فراراً مِن الفتنة، ولمَّا بلغ أهل مكَّة أنَّ عثمان ☺، قد قتل أقمن بمكَّة، ثمَّ لمَّا بويع علي ☺ كان أحظى النَّاس عنده بحكم الحال لا عن اختيار عليٍّ ☺ لذلك رؤوس أولئك الذين قتلوا عثمان ☺ وفرَّ جماعةٌ من بني أميَّة وغيرهم إلى مكَّة، وخرج طلحة والزُّبير في الاعتمار، وتبعهم خلقٌ كثير وجمٌّ غفير، وقدم إلى مكَّة أيضاً في هذه الأيام يعلى بن أميَّة، ومعه ستمائة ألف ألف درهمٍ وستمائة بعير فأناخ بالأبطح، وقيل: كان معه ستمائة ألف دينارٍ، وقدم ابن عمر ☻ من البصرة بأكثر من ذلك، فاجتمع بنو أميَّة بالأبطح، وقامت عائشة ♦ في النَّاس تحضُّهم على القيام بطلب دم عثمان ☺ وطاوعوها في ذلك وخرجوا وتوجَّهوا نحو البصرة، وكانت عائشة ♦ تُحْمَلُ في هَوْدَجٍ على جَمَل.
          قال ابن الأثير: اسمه: عسكر، اشتراه يعلى بن أميَّة / بمائتي دينارٍ، وفي رواية: بمائة دينار من رجلٍ من عرينة وكان جملاً عظيماً، وكان هذا هو الذي يدلُّهم على الطَّريق، وكانوا لا يمرُّون على ماءٍ ولا وادٍ إلَّا سألوه عنه حتَّى وصلوا إلى موضع يسمَّى: حَوْءَب، بفتح الحاء المهملة وسكون الواو وفتح الهمزة وآخره باء موحدة، وهو: ماءٌ قريب من البصرة، فنبحت كلابُه فقالوا: أيُّ ماءٍ هذا؟ فقال الدَّليل: هذا ماء الحوءب، فحين سمعت عائشة ♦ بذلك صرختْ بأعلى صوتها وضربتْ عضدُ بعيرها فأناخته، فقالت: أنا والله صاحبة الحوءب ردُّوني ردُّوني تقول ذلك: فأناخوا حولها وهم على ذلك وهي تأبى المسير حتَّى إذا كانت السَّاعة التي أناخت فيها من الغد جاء عبدُ الله بن الزُّبير ☻ فقال: النجاء النجاء، فقد أدرككُم عليُّ بن أبي طالبٍ فعند ذلك رحلوا.
          فأمَّا حديث الحوءب فقد أخرجه أحمد في «مسنده» عن عائشة ♦ قالت: إنَّ رسول الله صلعم قال لي ذات يومٍ: ((كيف بإحداكنَّ إذا نبحتها كلاب الحَوْءب)): فعرفت الحال عند ذلك فأرادت الرُّجوع.
          وأمَّا عليٌّ ☺ فإنَّه خرج في آخر شهر ربيع الآخر من سنة ستٍّ وثلاثين من المدينة في تسعمائة مقاتلٍ، وقيل: لمَّا بلغ عليًّا ☺ مسيرُ عائشة وطلحة والزُّبير ومن معهم إلى البصرة سار نحوهم في أربعة آلافٍ من أهل المدينة فيهم: أربعمائة ممَّن بايعوا تحت الشَّجرة، وثمانمائة من الأنصار، ورأيته مع ابنه: محمَّد بن الحنفية، وعلى ميمنته: الحسن بن علي، وعلى مسيرته: الحسين بن عليٍّ ♥ ، وعلى الخيل: عمَّار بن ياسر، وعلى الرجالة: محمَّد بن أبي بكرٍ الصِّديق ♥ ، وعلى مقدمته: عبد الله بن عبَّاس ☻ ، ثمَّ اجتمعوا كلُّهم عند قصر عبيد الله بن زياد، ونزل النَّاس في كلِّ ناحيةٍ، وقد اجتمع مع عليٍّ ☺ عشرون ألفاً، والتفت على عائشة ♦ ومن معها نحو من ثلاثين ألفاً، وقامت الحرب على ساقها فتصاففوا وتصاولوا وتجاولوا، وكان من جملة من يُبارز الزُّبير وعمَّار ☻ فحمل / عمَّار نحوه بالرمح والزُّبير كافٌّ عنه؛ لقول رسول الله صلعم : ((تقتلك الفئة الباغية)) وقتل ناس كثير، ورجع الزُّبير عن القتال.
          وقال الواقدي: كان زمام الجمل بيد كعب بن سور وما كان يأخذ زمام الجمل إلَّا من هو معروفٌ بالشَّجاعة وما أخذه إلَّا قتل وحمل عليه عدي بن حاتم، ولم يبق إلَّا عقره ففقئت عين عديٍّ، واجتمع بنو ضبَّة عند الجمل وقاتلوا دونه قتالاً لم يُسْمعْ مثله فقطعت عنده ألف يدٍ، وقتل عليه ألف رجلٍ منهم، وقال الزُّبير: جُرِحْتُ على زمام الجمل سبعة وثلاثين جراحةً وما أحدٌ أخذَ برأسه إلَّا قُتِلَ؛ أخذه عبد الرَّحمن بن عتاب فقُتِل، ثمَّ أخذه الأسود بن البحتري فقُتِل وعدَّ جماعة، وغُلِبَ ابن الزُّبير من الجراحات فألقى نفسه بين القتلى، ثمَّ وصلت النِّبال إلى هودج أمِّ المؤمنين، وجعلت تُنَادي: الله الله يا بنيَّ، اذكروا يوم الحساب ورفعت يديها تدعو على أولئك القوم من قتلة عثمان ☺، فضجَّ النَّاس معها بالدُّعاء، وأولئك النَّفر لا يقلعون عن رشقِ هَوْدجها بالنِّبال حتَّى بقي مثل القنفذ، فجعلت الحرب تأخذ وتعطي فتارةً لأهل البصرة وتارةً لأهل الكوفة وقتل خلقٌ كثير، ولم تُرَ وقعةٌ أكثر من قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الوقعة، ثمَّ حملت عليه السَّبائية والأشتر يقدمها، وحمل بجير بن ولجة الضَّبيُّ الكوفي وقطع بِطانَه وعقره، وقطع ثلاث قوائم من قوائمهِ، فبرك ووقع الهودجُ على الأرض، ووقفَ عليها عليٌّ ☺، وقال: السَّلام عليك يا أمَّاه، فقالت: وعليك السَّلام يا بنيَّ، فقال: يغفرُ الله لك، فقالت: ولك، وانهزم من كان حوله من النَّاس، وأمر عليٌّ ☺ أن يحملوا الهودج من بين القتلى، وأمر محمَّد بن أبي بكر وعمَّار بن ياسر أن يضربَ عليه قبَّة، ولمَّا كان آخر الليل خرج محمَّد بعائشة ♦ فأدخلها البصرة وأنزلها في دار عبدِ الله بن خلف الخزاعي، وبكتْ عائشة ♦ بكاءً شديداً، وقالت: وددتُ أنِّي متُّ قبل / هذا اليوم بعشرين سنةً.
          وجاء وجوه النَّاس من الأمراء والأعيان يسلِّمون عليها، ثمَّ إن عليًّا ☺ أقام بظاهر البصرة ثلاثة أيامٍ وصلَّى على القتلى من الفريقين.
          قال ابنُ الكلبي: قتل من أصحاب عائشة ♦ ثمانية آلافٍ، وقيل: ثلاثة عشر ألفاً، ومن أصحاب عليٍّ ☺ ألف، وقيل: قتل من أهل البصرة عشرة آلاف ومن أهل الكوفة خمسة آلافٍ، وكان في جملة القتلى طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشَّرة بالجنَّة، ثمَّ دخل عليٌّ البصرة يوم الاثنين، ثمَّ جهَّز عائشة ♦ أحسن الجهاز بكلِّ شيءٍ ينبغي لها من مركبٍ وزاد ومتاعٍ، وأخرج معها كلَّ من نجا من الوقعة ممَّن خرج معها، واختار لها أربعين امرأةً من نساء أهل البصرة المعروفات، ووقف عليٌّ معها حتى ودَّعها، وكان خروجها يوم السَّبت غرة رجب سنة ستٍّ وثلاثين وشيَّعها عليٌّ أميالاً وسرَّح بنيه معها يوماً.
          وقال الواقدي: أمر عليٌّ ☺ النِّساء اللَّاتي خرجنَ مع عائشة ♦ بلبس العمائم وتقليد السُّيوف، ثمَّ قال لهنَّ: لا تعلمْنها إنكنَّ نسوة وتلثَّمنَ مثل الرِّجال، وكنَّ حولها من بعيدٍ ولا تقربنَها، وسارت عائشة ♦ على تلك الحالة حتَّى دخلت مكَّة، وأقامت حتى حجَّت واجتمع إليها نساء أهل مكَّة يبكينَ وهي تبكي وسُئلت عن مسيرها فقال: لقد أعطى عليٌّ فأكثر وبعث معي رجالاً وبلغ النِّساء فأتينها وكشفنَ عن وجوههنَّ وعرفنها الحال فسجدت، وقالت: والله ما يزداد ابن أبي طالب إلَّا كرماً.
          (وَأَمَّا) مقتل الزُّبير وسيرته ☺ فإنَّه لمَّا انفصل من عسكر عائشة ♦ كما مرَّ تبعه عمرو بن جُرْمُوز وفضالة بن حابس من غواة بني تميم، وأدركوه وتعاونوا عليه فقتلوه، ويقال: بل أدركه عمرو بن جرموز، فقال له: إنَّ لي إليك حاجةً فقال: ادن، فقال مولى الزُّبير، واسمه عطيَّة: إنَّ معه سلاحاً فقال: وإنْ كان، فتقدَّم إليه فجَعَلَ يحدِّثه، وكان وقت / الصَّلاة فقال له الزُّبير: الصَّلاة، فقال: الصَّلاة، فتقدَّم الزُّبير ليصلي بهما فطعنَه عَمرو بن جُرموز فقتله، ويقال: بل أدركه عمرو بوادي السِّباع وهو نائمٌ في القائلة فهجم عليه فقتله، وهذا القول هو الأشهر، وأخذ رأسه وذهبَ به إلى عليٍّ ☺ فقيل لعلي: هذا ابن جرموز أتاك برأس الزُّبير فقال: بشروا قاتل الزُّبير بالنَّار، فقال عَمرو:
أَتَيتُ عليًّا بِرَأْس الزُّبيرِ                     وقَدْ كُنتُ أَحسَبُها زُلْفَه
فبَشَّرَ بالنَّارِ قَبَلَ العَيَانِ                     فَبِئسَ البِشَارَةُ والتُّحْفَه
وسَيَّانَ عِنْدِي قَتْلُ الزُّبَيرِ                     وَضَرْطَةُ عَنْزٍ بِذِي الجُحْفَةِ
          وأمَّا سيرته فقد مرَّ عن قريبٍ أنَّه أحد العشرة المبشَّرة بالجنَّة، وأنَّه شهد جميع مشاهد النَّبي صلعم وكان عليه يوم بدر ملاءة صفراء فنزلتِ الملائكة على سيماه، وثبت مع النَّبي صلعم يوم أحدٍ وبايعه على الموتِ، وقال مصعب بن الزُّبير: قاتل أبي مع رسولِ الله صلعم وعمره اثني عشرة سنةً.
          وقال الزُّبير بن بكَّار بإسناده عن الأوزاعيِّ قال: كان للزُّبير ألف مملوكٍ يؤدُّون الضَّريبة لا يدخل بيت ماله منها درهم يتصدَّق بها، وقال الزُّبير بن بكار بإسناده عن جويرية قال: باع الزُّبير داراً بستمائة ألفٍ فقيل له: غُبِنْتُ، فقال: كلا والله لتعلمنَّ أنَّني لم أغبن هي في سبيل الله.
          وروي عن هشام بن عروة فقال: أوصى إلى الزُّبير جماعةٌ من الصَّحابة منهم: عثمان وعبد الرَّحمن بن عوف وابن مسعود والمقداد ♥ ، وكان يحفظ عليهم أموالهم وينفق على أولادهم من ماله، وكان الزُّبير ☺ رجلاً ليس بالقصير ولا بالطَّويل، إلى الخفَّة ما هو في اللَّحم، ولحيته خفيفة، أسمر اللَّون أشعر.
          وحكى الواقدي عن عبد الرَّحمن بن أبي الزِّناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: ((ربَّما أخذت بالشَّعر على منكبي الزُّبير وأنا غلامٌ فأتعلَّق به على ظهره)).
          وحكى أبو اليقظان عن / هشام بن عروة قال: كان جدِّي الزُّبير إذا ركب تخطُّ رجلاه الأرضَ ولا يُغَيِّر شيبه، واختلفوا في سنِّه؛ حكى ابن سعدٍ عن الواقدي بإسناده إلى عروة بن الزُّبير قال: قُتِلَ أبي يوم الجمل، وقد زاد على السِّتين بأربع سنينٍ.
          وحكى ابن الجوزي في ((الصفوة)) ثلاثة أقوالٍ: أحدها: أنَّه قُتِلَ وهو ابن بضعٍ وخمسين سنةً، والثَّاني: ابن ستين سنةً، والثَّالث: ابن خمسة وستين، والله تعالى أعلم.
          (دَعَانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: يَا بُنَيِّ إِنَّهُ لاَ يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلاَّ ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ) قال ابن بطَّال: معناه: ظالمٌ عند خصمه مظلومٌ عند نفسه؛ لأنَّ كلاً من الفريقين كان يتأوَّل أنَّه على الصَّواب.
          وقال ابن التِّين: معناه: أنَّهم إمَّا صحابي يتأوَّل فهو مظلومٌ، وإمَّا غير صحابيٍّ قاتل لأجل الدُّنيا فهو ظالم. وقال الكِرماني: إن قيل: جميع الحروب كذلك، فما وجه تخصيصهِ بذلك اليوم؟ فالجواب: أنَّها أوَّل حربٍ وقعت بين المسلمين، فالمراد الظَّالم من أهل الإسلام.
          وقال الحافظ العسقلاني: ويحتمل أن يكون أو للشَّك من الرَّاوي، وأنَّ الزُّبير إمَّا قال: لا يقتل اليوم إلَّا ظالمٌ بمعنى أنَّه ظنَّ أنَّ الله يعجِّل له الشَّهادة وظنَّ على التَّقديرين أنَّه يقتل مظلوماً إمَّا لاعتقاده أنَّه كان مصيباً، وإمَّا لأنَّه كان سمع من النَّبي صلعم ما سمع عليٌّ ☺، وهو قوله لما جاءه قاتل الزُّبير: بشر قاتل ابن صفية بالنَّار، ورفعه إلى النَّبي صلعم ، كما رواه أحمد وغيره من طريق زرِّ بن حُبيش عن عليٍّ ☺ بإسنادٍ صحيحٍ، ووقع عند الحاكم من طريق عتَّام بن علي، عن هشام بن عروة في هذا الحديث مختصراً قال: ((والله لئن قتلت لأقتلنَّ مظلوماً، والله ما فعلت وما فعلت))؛ يعني: شيئاً من المعاصي.
          وقال العيني: الأصل أن لا يكون أو للشَّك، وبالاحتمال لا يثبت ذلك وكلمة أو على معناها للتَّقسيم هاهنا؛ لأنَّ المقتول يؤمئذٍ / لم يكن إلَّا من أحد المقسمين على ما ذكره ابن بطَّال، وأيضاً إنَّما أراد الزُّبير ☺ بقوله هذا أنَّ تَقَاتُلَ الصَّحابة ♥ ليس كتَقَاتل أهل البغي والعصبية؛ لأنَّ القاتل والمقتول منهم ظالم لقوله صلعم : ((إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النَّار)) لأنَّه لا تأويل لواحدٍ منهم يعذر به عند الله، ولا شبهة له من الحقِّ يتعلَّق بها، فليس أحدٌ منهم مظلوماً بل كلُّهم ظالم، وكان الزُّبير وطلحة وجماعةٌ من كبار الصَّحابة ♥ خرجوا مع عائشة ♦ لطلب قتلة عثمان ☺ وإقامة الحدِّ عليهم، ولم يخرجوا لقتال عليٍّ ☺؛ لأنَّه لا خلاف بين الأمة أنَّ عليًّا ☺ كان أحقَّ بالإمامة من جميع أهل زمانه، وكان قتلة عثمان ☺ لجأوا إلى عليٍّ ☺ فرأى عليٌّ ☺ أنَّه لا ينبغِي إسلامهم للقتل على هذا الوجه حتَّى يسكنَ حال الأمة وتَجْرِيَ الأشياءُ على وجوهها حتَّى يُنْفذَ الأمورَ على ما أوجب الله عليه، فهذا وجه منع عليٍّ ☺ المطلوبين بدم عثمان ☺، فكان ما قدر الله ممَّا جَرى به القلم من الأمور التي وقعت، والله تعالى أعلم.
          (وَإِنِّي لاَ أُرَانِي) بضم الهمزة؛ أي: لا أظنُّ، ويجوز فتحها، بمعنى: لا أعتقد (إِلاَّ سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُوماً) وظنُّه بأنَّه يقتل مظلوماً قد تحقَّق؛ لأنَّه قتل غدراً بعد أن ذكَّره عليٌّ ☺ فانصرف عن القتال فنام بمكانٍ ففتك به رجلٌ من غواة بني تميم يسمَّى: عمرو بن جُرْمُوز، بضم الجيم والميم بينهما راء ساكنة وآخره زاي، وقيل: قتله حين تقدَّم إلى الصَّلاة كما تقدَّم، وذلك لأنَّه روى ابن أبي خيثمة في «تاريخه» من طريق عبد الرَّحمن بن أبي ليلى قال: إنَّا لمع علي ☺ لمَّا التقى الصَّفان فقال ابن الزُّبير: فجاء الزُّبير فجعلنا ننظر إلى يد عليٍّ ☺ يشير بها إذ ولَّى الزُّبير قبل أن يقعَ القتال.
          وروى الحاكم من طرقٍ متعدِّدة أنَّ عليًّا ☺ ذكَّر الزُّبير بأنَّ النَّبي صلعم قال له: ((لتقاتلنَّ عليًّا وأنت ظالمٌ له)) / فرجع لذلك، وروى يعقوب بن سفيان وخليفة في «تاريخهما» من طريق عمرو بن جادان، بالجيم، قال: فانطلق الزُّبير منصرفاً فقتله عمرو بن جرموز بوداي السِّباع، ويقال: إنه قال الزُّبير لابنه ما قال لما رأى من شدَّة الأمر وأنَّهم لا ينفصلون إلَّا عن تقاتلٍ، وإنَّما قال: لا أراني إلَّا سأُقْتَلُ مظلوماً؛ لأنَّه لم ينو القتال ولا عزم عليه، ولمَّا التقى الجمعان فرَّ، فتبعه ابن جُرْموز فقتله في طريقه.
          (وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي) اللام فيه مفتوحة للتأكيد، وهو خبر إنَّ، ومعناه: ليس عليَّ تبعة سوى دَيني، وفي رواية هشام: ((انظر يا بني ديني فإنِّي لا أدع شيئاً أهمَّ إليَّ منه)).
          (أَفَتُرَى) على صيغة البناء للمفعول بهمزة الاستفهام؛ أي: أفتظنُّ (يُبْقِي دَيْنُنَا) من الإبقاء (مِنْ مَالِنَا شَيْئاً) ويروى: <أفترى يبقي ديننا من مالنا شيئاً> على أنَّ ديننا بالرفع على أنَّه فاعل يُبْقي (فَقَالَ: يَا بُنَيِّ بِعْ مَالَنَا فَاقْضِ دَيْنِي وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ) من ماله مطلقاً لمن شاء ولما شاء (وَثُلُثِهِ) أي: وأوصى بثلث الثلث (لِبَنِيهِ؛ يَعْنِي: بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ) خاصَّة، وهم حفدة الزُّبير ☺، وقد فسَّر قوله: وثلثه حيث قال: (يَقُولُ: ثُلُثُ الثُّلُثِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ) ويروى: <فإن فضل بعد قضاء الدَّين شيءٌ> (فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ) قال المهلَّب: معناه: ثلث ذلك الفضل الذي أوصى به من الثُّلث لبنيه، كذا قال: وهو كلامٌ معروفٌ من خارج لكنَّه لا يوضح اللَّفظ الوارد.
          وحكى الدِّمياطي عن بعض العلماء أنَّ قوله: فثلِّثه لولدك، بتشديد اللام، على صيغة الأمر من التَّثليث؛ يعني: ثلَّث ذلك الفضل الذي أوصى به للمساكين من الثلث لبنيه.
          قال الحافظُ العسقلاني: وهو أقربُ أي من كلام المهلَّب، لكن قال الدِّمياطي فيه نظرٌ؛ يعني: فيما حكاه عن بعض العلماء، فليُتَأمَّل.
          (قَالَ هِشَامٌ) هو: ابنُ عروة بن الزُّبير راوي الخبر، وهو متَّصل بالإسناد المذكور (وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ) أي: ابن الزُّبير (قَدْ وَازَى) بالزاي؛ أي: ساوى وحاذى في السِّن (بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ) وفيه: استعمال وازى، بالواو، وأنكره الجوهريُّ، فإنَّه قال: يقال أزى، بالهمز، ولا يقال: / وازى، والمراد كما ذكرنا أنَّه ساواهم في السِّن.
          وقال ابن بطَّال: يحتملُ أن يُراد ساوى بنو عبد الله في أنصبائهم من الوصية أولاد الزُّبير في أنصبائهم من الميراث، قال: وهذا أولى، وإلَّا لم يكن لذكر كثرة أولاد الزُّبير معنى.
          ونظر فيه الحافظ العسقلاني فقال: لم يكن في تلك الحالة قد ظهرَ مقدار المال الموروث ولا الموصى به.
          وأمَّا قوله: لا يكون له معنى، فليس كذلك لأنَّ المراد أنَّه خصَّ أولاد عبد الله دون غيرهم لكونهم كبروا وتأهلوا حتَّى ساووا أعمامهم في ذلك فجعل لهم نصيباً من المال ليتوفَّر على أبيهم حصَّته.
          (خُبَيْبٌ) بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة على صيغة التصغير، روي مرفوعاً على أنَّه بدل أو بيان للبعض في قوله: وكان بعض ولد عبد الله، وروي مجروراً باعتبار الولد، وأمَّا قول الحافظ العسقلاني ويجوز جره على أنَّه بيانٌ للبعض فهو سهوٌ، فإنَّ لفظ بعض في موضعين: أحدهما وهو الأول مرفوعٌ؛ لأنَّه اسم كان، والآخر منصوب لأنَّه مفعول وازى.
          (وَعَبَّادٌ) بفتح العين المهملة وتشديد الموحدة، عطفٌ على خبيب (وَلَهُ) أي: للزُّبير ☺، وأغرب الكِرماني حيث قال: أي: لعبد الله تسعة بنين، فجعل ضمير له لعبد الله، وهو سهوٌ؛ لأنَّ أولاد عبد الله يومئذٍ أربعة: خبيب وعبَّاد، وقد ذُكِرَا، وهاشم وثابت، فأمَّا سائر ولده، فولدوا بعد ذلك.
          (يَوْمَئِذٍ) أي: يوم أوصى الزُّبير ☺ (تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ) أمَّا التِّسعة الذكور فهم: عبد الله وعروة والمنذر أمُّهم: أسماء بنت أبي بكرٍ ♥ ، وعمرو وخالد أمُّهما: أم خالد بنت خالد بن سعيد، ومصعب وحمزة أمهما: الرَّباب بنت أُنَيْفٍ، وعبيدة وجعفر أمهما: زينب بنت بشر، وسائر ولد الزُّبير غير هؤلاء ماتوا قبله، وأمَّا التِّسع الإناث، فهنَّ: خديجة الكبرى وأم الحسن وعائشة، أمهنَّ: أسماء بنت أبي بكر ♥ ، وحبيبة وسودة وهند أمهنَّ: أمُّ خالد، ورملة أمها: الرَّباب، وحفصة أمها: زينب، وزينب أمها: أم كلثوم بنت عقبة.
          (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ / وَيَقُولُ: يَا بُنَيِّ، إِنْ عَجَزْتَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلاَيَ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ: يَا أَبَتِ مَنْ مَوْلاَكَ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلاَّ قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ، فَيَقْضِيهِ فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ) قال ابن عبد البرِّ: شهد الجمل فقاتل ساعةً، فناداه عليٌّ وانفرد به، فذكره أنَّ رسول الله صلعم قال له وقد وجدهما يضحكان: ((أما إنَّك ستقاتل عليًّا وأنت له ظالمٌ)) فتذكَّر الزُّبير ذلك فانصرف عن القتال متوجهاً إلى المدينة، فاتبعه ابن جرموز فقتله بموضع يعرف بوادي السِّباع، وجاء بسيفه إلى عليٍّ ☺ فقال عليٌّ ☺: ((بشروا قاتل ابن صفيَّة بالنَّار))، هذا وقد تقدَّم ذكره.
          (وَلَمْ يَدَعْ دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً إِلاَّ أَرَضِينَ مِنْهَا الْغَابَةُ) كذا وقع، وصوابه: منهما، بالتَّثنية، والغابة، بالغين المعجمة وتخفيف الباء الموحدة: أرضٌ عظيمةٌ شهيرة من عوالي المدينة.
          وقال الكِرماني: الغابة اسمُ موضعٍ بالحجاز، وهذا ليس بتفسيرٍ واضحٍ، وقال ياقوت: الغابة: موضعٌ بينه وبين المدينة أربعة أميالٍ من ناحية الشَّام، والغابة أيضاً قرية بالبحرين، وقال في كتاب «الأمكنة والجبال» للزَّمخشري: الغابة: بريد من المدينة بطريق الشَّام، وقال البكريُّ: الغابة: غابتان العليا والسُّفلى، وقال الرَّشاطي: الغابة موضعٌ عند المدينة، والغابة أيضاً في آخر الطَّريق من البصرة إلى اليمامة.
          وفي «المطالع»: الغابة: مالٌ من أموال عوالي المدينة، وفي تركة الزُّبير كان اشتراها بسبعين ومائة ألف وبيعت في تركته بألف ألف وستمائة ألف.
          وقد صحَّفه بعض النَّاس فقال: الغاية؛ يعني: بالمثناة التحتية، وذلك غلطٌ فاحش، والغابة في اللغة الشَّجر الملتف، والأجم من الشَّجر وشبهها.
          (وَإِحْدَى عَشْرَةَ دَاراً بِالْمَدِينَةِ وَدَارَيْنِ بِالْبَصْرَةِ وَدَاراً بِالْكُوفَةِ وَدَاراً بِمِصْرَ) استدلَّ به على أنَّ مصر فتحت صلحاً وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لا يلزم من قولنا: إنَّها فتحت عنوةً امتناع بناء أحد الغانمين ولا غيرهم داراً.
          (قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الَّذِي عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِيهِ بِالْمَالِ فَيَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهُ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لاَ) أي: لا يكون وديعةً ولكنَّه دينٌ، وهو معنى قوله: (وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ) يعني: أنَّه ما كان يقبض من أحدٍ وديعة إلَّا إن رضيَ صاحبها أن يجعلها في ذمَّته، وكان غرضه بذلك أنَّه كان يخشى على المال أن يضيعَ فيظنُّ به التَّقصير في حفظه، وهذا معنى قوله: (فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ) فرأى أن يجعله مضموناً ليكون أوثقَ لصاحب المال وأبقى لمروءته.
          وقال ابن بطَّال: وليطيب له ربح ذلك المال / وروى الزُّبير بن بكَّار من طريق هشام بن عروة أنَّ كلاًّ من عثمان وعبد الرَّحمن بن عوف ومطيع بن الأسود وأبي العاص بن الرَّبيع وعبد الله بن مسعود والمقداد بن عمرو ♥ أوصى إلى الزُّبير بن العوام ☺.
          (وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ) الإِمارة بكسر الهمزة (وَلاَ جِبَايَةَ خَرَاجٍ) أي: ولا ولي أيضاً جباية خراج (وَلاَ شَيْئاً) أي: ولا ولي شيئاً ممَّا يتعلَّق من الأمور التي فيها تحصيل المال؛ يعني: أنَّ كثرة ماله ما حصلت من هذه الجهات المقتضية لسوء الظَّن بأصحابها بل كان كسبُه من الغنيمة مع النَّبي صلعم ، ثمَّ مع أبي بكر، ثمَّ مع عمر، ثمَّ مع عثمان ♥ كما أفاده قوله: (إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صلعم أَوْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ♥ ) فبارك الله له في ماله بطيب أصله، وربحُ أرباحه بلغتْ ألوف الألوف، وقد روى الزُّبير بن بكار كان له ألف مملوكٍ يؤدُّون إليه الخراج، وروى يعقوب بن سفيان مثله من وجهٍ آخر.
          (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ) هو متَّصل بالإسناد المذكور (فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ) قوله فحَسَبت، بفتح السين، من حَسَبت الشَّيء أَحْسُبه، بالضم، حِسَاباً وحِسابةً وحَسباً وحُسْباناً بالضم؛ أي: عددته، وأمَّا حسِبته، بالكسر، أحسَبه، بالفتح، محسَبة، بفتح السين، ومحسِبة، بكسرها، وحِسباناً، بكسر الحاء؛ أي: ظننته (فَوَجَدْتُهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ قَالَ: فَلَقِيَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ) بالرفع على أنَّه فاعل لقي (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ) بالنصب على المفعولية (فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي كَمْ عَلَى أَخِي مِنَ الدَّيْنِ) إنَّما جعل الزُّبير أخاً له باعتبار أخوة الدِّين.
          وقال الكِرماني: أو باعتبار قرابة بينهما؛ لأنَّ الزُّبير بن العوام بن خويلد ابن عم حكيم، وذلك لأنَّ حكيم بن حِزام، بكسر الحاء المهملة وتخفيف الزاي، ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي يكنى: أبا خالد، وهو: ابن أخي خديجة بنت خويلد زوج النَّبي صلعم ، وهو من مسلمة الفتح، وعاش في الجاهلية ستين سنةً، وفي الإسلام ستين سنةً، وتوفي بالمدينة في خلافة معاوية ☺ سنة أربع وخمسين وهو: ابن مائة وعشرين سنة.
          والزُّبير بن العوام / بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي، فعلى هذا فالعوام يكون أخا حزام فيكون الزُّبير ابن عم حكيم.
          (فَكَتَمَهُ) أي: فكتم أصل الدِّين (وَقَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ فَقَالَ حَكِيمٌ: وَاللَّهِ مَا أُرَى أَمْوَالَكُمْ تَسَعُ لِهَذِهِ) أي: تكفي لوفاء مائة ألفٍ (فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَفَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ قَالَ: مَا أُرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِينُوا بِي).
          قال ابن بطَّال: ليس في قوله مائة ألف وكتمانه الزَّائد كذب؛ لأنَّه أخبر ببعض ما عليه وهو صادقٌ.
          وقال الكِرماني: ما كذب؛ إذ لم ينف الزَّائد على المائة ومفهوم العدد لا اعتبار له، وفي «التوضيح»: هذا ليس بكذبٍ؛ لأنَّه صدق في البعض وكتم بعضاً، وللإنسان إذا سئل عن خبرٍ أن يخبر عنه بما شاء وله أن لا يخبر بشيءٍ منه أصلاً.
          هذا، ولكن قال الحافظ العسقلانيُّ: من يعتبر مفهوم العدد يراه أخبر بغير الواقع، ولهذا قال ابن التِّين: في قوله: فإن عجزتم عن شيءٍ فاستعينوا بي، مع قوله في الأول: ما أراكم تطيقون هذا، بعض التَّجوز، وكذا في كتمان عبد الله بن الزُّبير ما كان على أبيه.
          وقال ابن بطَّال أيضاً: إنَّما قال له مائة ألف، وكتم الباقي لئلَّا يستعظم حكيم ما استدانه الزُّبير فيظنُّ به عدم الحزم ويظنُّ بعبد الله عدم الوفاء بذلك، فينظر إليه بعين الاحتياج إليه، فلمَّا استعظم حكيم أمر مائة ألفٍ احتاج عبد الله أن يذكر له الجميع ويعرفه أنَّه قادرٌ على وفائه.
          وروى يعقوب بن سفيان من طريق عبد الله بن المبارك: أنَّ حكيم بن حزام بذل لعبد الله بن الزُّبير مائة ألف إعانةٍ له على وفاء دين أبيه، فامتنع، فبذل له مائتي ألف فامتنع إلى أربعمائة ألف، ثمَّ قال: لم أرد منك هذا، ولكن تنطلق معي إلى عبد الله بن جعفر فانطلق معه وبعبد الله بن عمر يستشفع بهم عليه، فلمَّا دخلوا عليه قال: أجئت بهؤلاء تستشفع بهم عليَّ؟ هي لك، قال: لا أريد ذلك، قال: فأعطني بها نعليك هاتين أو نحوهما، قال: لا أريد، قال: فهي عليك إلى يوم القيامة قال: لا، قال: فحكمك، / قال: أعطيك بها أرضاً فقال: نعم، فأعطاه، قال: فرغب معاوية ☺ فيها معه (1) فاشتراها منه بأكثر من ذلك.
          (قَالَ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ اشْتَرَى الْغَابَةَ بِسَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ فَبَاعَهَا عَبْدُ اللَّهِ) أي: ابن الزُّبير (بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ) كأنَّه قسمها عشر سهماً؛ لأنَّه قال بعد ذلك لمعاوية: إنَّها قُوِّمَتْ كلُّ سهمٍ بمائة ألف (ثُمَّ قَامَ) أي: عبد الله بن الزُّبير.
          (فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ حَقٌّ فَلْيُوَافِنَا) أي: فليأتنا يقال: وافى فلانٌ إذا أتى (بِالْغَابَةِ فَأَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ) هو: عبدُ الله بن جعفر بن أبي طالب بحر الجود والكرم.
          (وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ) أي: فقال عبدُ الله بن جعفر لعبد الله بن الزُّبير (إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) أي: ابن الزُّبير: (لاَ قَالَ: فَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ إِنْ أَخَّرْتُمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ) أي: ابن الزُّبير (لاَ) أي: لا نترك دينك فإنَّه ترك به وفاء.
          (قَالَ: فَاقْطَعُوا لِي قِطْعَةً، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَكَ مِنْ هَاهُنَا إِلَى هَاهُنَا قَالَ: فَبَاعَ مِنْهَا) أي: من الغابة والدُّور لا من الغابة وحدها؛ لأنَّه تقدَّم أنَّ الدَّين ألفا ألف ومائتا ألف، وأنَّه باع الغابة بألف ألف وستمائة ألفٍ وأنَّه كان بقي منها بغير بَيْعٍ أربعةُ أسهمٍ ونصف بأربعمائة وخمسين ألفاً، فيكون الحاصلُ من ثمنها إذ ذاك ألفَ ألف ومائةَ ألف وخمسين ألفاً خاصةً؛ فيبقى من الدَّين ألفُ ألفٍ وخمسون ألفاً فكأنَّه باع بها شيئاً من الدُّور وبذلك يلتئم قوله:
          (فَقَضَى دَيْنَهُ فَأَوْفَاهُ، وَبَقِيَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ) وقد وقع عند أبي نعيم في «المستخرج» من طريق علي بن مسهر، عن هشام بن عروة قال: توفِّي الزُّبير وترك عليه من الدَّين ألفي ألف فضمنها عبد الله بن الزُّبير فأدَّاها ولم يبع في تركته داره التي بمكَّة ولا التي بالكوفة ولا التي بمصر، هكذا أورده مختصراً، وأفاد أنَّه كان له دارٌ بمكَّة ولم يقع ذِكْرُها في الحديث الطَّويل، ويستفاد منه ما أُوِّلَ آنفاً لأنَّه تقدَّم أنَّه كان له إحدى عشرة داراً، بالمدينة وداران بالبصرة غير ما ذكر.
          وروى أبو العباس السراج في «تاريخه»: حدَّثنا / أحمد بن أبي السفر: حدَّثنا أبو أسامة بسنده المذكور قال: لمَّا قدم؛ يعني: عبد الله بن الزُّبير مكَّة فاستقرَّ عنده؛ أي: ثبتَ عنده قَتْلُ الزُّبير نَظَرَ فيما عليه من الدَّين فجاءه عبد الله بن جعفر، فقال: إنَّه كان لي على أخي شيءٌ ولا أحسبه ترك به وفاء أفتحبُّ أن أَجْعَلَهُ في حِلٍّ؟ فقال له ابن الزُّبير: وكم هو؟ قال أربعمائة ألف قال: فإنَّه ترك بها وفاء بحمد الله تعالى.
          (فَقَدِمَ) أي: عبد الله بن الزبير (عَلَى مُعَاوِيَةَ) أي: ابن سفيان، وهو في دمشق. وقال الحافظ العسقلاني: فقدم على معاوية؛ أي: في خلافته، وهذا فيه نظرٌ؛ لأنَّه ذكر أنَّه أخَّر القسمة أربع سنين استبراء للدَّين، كما سيأتي فيكون آخر الأربعة في سنة أربعين، وذلك قبل أن يجتمع النَّاس على معاوية ☺، فلعلَّ هذا القدر من الغابه كان ابن الزُّبير أخذه من حصَّته أو من نصيب أولاده. انتهى.
          وقال العينيُّ: هذا النَّظر إنَّما يتوجَّه على قوله؛ أي: في خلافته، ولا حاجة إلى هذا؛ لأنه تقييد المطلق من غير حاجة، على أنَّه يجوز أن يكون قدومه عليه قبل اجتماع كلِّ النَّاس عليه.
          (وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ) بفتح العين، في عَمرو، وهو: عَمرو بن عثمان بن عفَّان (وَالْمُنْذِرُ) بلفظ الفاعل، من الإنذار، وهو: ابن الزُّبير بن العوام، أخو عبد الله بن الزُّبير (وَابْنُ زَمَعَةَ) هو: عبدُ بن زمعة، بالزاي والميم والعين المهملة المفتوحات، وقيل: بسكون الميم، ابن قيس بن عبد شمس، وهو أخو سودة زوج النَّبي صلعم لأبيها.
          (فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ) ☺: (كَمْ قُوِّمَتِ الْغَابَةُ قَالَ: كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ) بنصب المائة بنزع الخافض؛ أي: قوَّمت الغابة وجاء كلُّ سهمٍ بمائة ألفٍ.
          (قَالَ: كَمْ بَقِيَ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ قَالَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْماً بِمِائَةِ أَلْفٍ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ قَدْ أَخَذْتُ سَهْماً بِمِائَةِ أَلْفٍ وَقَالَ ابْنُ زَمْعَةَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْماً بِمِائَةِ أَلْفٍ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ كَمْ بَقِيَ فَقَالَ: سَهْمٌ وَنِصْفٌ قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ قَالَ: فَبَاعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ) أي: بعد ذلك فربح عبد الله مائتي ألف / (قَالَ) أي: هشام بن عروة (فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ: اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا، قَالَ) أي: عبد الله بن الزُّبير (لاَ) أي: لا أقسم، وقوله: (وَاللَّهِ لاَ أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ) تفسير وتأكيد لقوله: لا (حَتَّى أُنَادِيَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ: أَلاَ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ) وليس فيه منعٌ للمستحقِّ من حقِّه وهو: القسمة والتَّصرف في نصيبه؛ لأنَّه كان وصياً، ولعلَّه ظنَّ بقاء الدَّين فالقسمة لا تكون إلَّا بعد وفاء الدَّين جميعه، والمراد بالموسم: موسم الحجِّ سمِّي به لأنَّه مَعْلَمٌ يجتمع النَّاس إليه، والوسم: العلامة.
          (قَالَ: فَجَعَلَ كَلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بِالْمَوْسِمِ فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ) وفائدة تخصيص المناداة بأربع سنين هي أنَّ الغالب أنَّ المسافة التي بين مكَّة وأقطار الأرض تقطع بسنتين، فأراد أن تصلَ الأخبار إلى الأقطار، ثمَّ تعود إليه أو لأنَّ الأربع هي الغاية في الآحاد بحسب ما يمكن أن يتركَّب منه العشرات؛ لأنَّه يتضمَّن واحداً واثنين وثلاثة وأربعة وهي عشرة.
          (قَالَ: وَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ) أي: مات عنهن وهنَّ: أم خالد والرباب وزينب المذكورات قبل وعاتكة بنت زيد أخت سعيد بن زيد أحد العشرة، وأمَّا أسماء وأم كلثوم فكان طلقهما (وَرَفَعَ الثُّلُثَ) أي: الموصى به (فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ) هذا يقتضي أنَّ الثَّمن كان أربعة آلاف ألف وثمانمائة ألف (فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ) وفي رواية أبي نُعيم من طريق الرَّازي عن أبي أسامة أنَّ ميراث الزُّبير قسم على خمسين ألف ألف ومائتي ألفٍ ونيف، زاد على رواية إسحاق: ونيف.
          قال الحافظ العسقلاني: وفيه نظرٌ؛ لأنَّه إذا كان لكلِّ زوجةٍ ألفُ ألف ومائتا ألف فنصيبُ الأربع أربعة آلاف ألفٍ وثمانمائة ألف، وهذا هو الثُّمن ويرتفع من ضَرْبه في ثمانية، وثلاثون ألفَ ألفٍ وأربعمائة ألف وهذا القدر هو الثُّلثان، فإذا ضُمَّ إليه الثُّلثُ الموصى به وهو قدر نصف الثُّلثين وجملته تسعة عشر ألف ألف ومائتا ألف كان جملةُ مالِه على هذا سبعةً وخمسين ألفَ ألفٍ وستمائة ألف.
          وقد نبَّه على ذلك ابن بطَّال ولم يُجِبْ عنه لكنَّه وَهِمَ فقال: وتسعمائة ألف، وتعقَّبه ابن المنيِّر فقال: الصَّواب وستمائة ألفٍ، وهو كما قال، وقال ابن التِّين: نقص عن التَّحرير سبعة آلاف ألف وأربعمائة ألف؛ يعني: خارجاً عن قدر الدَّين، وهو كما قال، وهذا تفاوتٌ شديدٌ في الحساب.
          وقد ساق / البلاذري في «تاريخه» هذا الحديث عن الحسين بن علي بن الأسود، عن أبي أسامة بسنده فقال فيه: كان للزُّبير أربع نسوةٍ فأصاب كلَّ امرأةٍ من ثُمُنِ عقاراته ألف ألف ومائة ألف فكان الثُّمُنُ أربعةَ آلافٍ ألف وأربعمائة ألف، وكان ثلثا المال الذي اقتسمه الورثة خمسةً وثلاثين ألف ألف ومائتي ألف.
          وكذلك أخرجه ابن سعدٍ عن أبي أسامةُ فعلى هذا، إذا انضمَّ إليه نصفه وهو سبعة عشر ألف ألف وستمائة ألف كان جميعُ المال اثنين وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف، فيزيد عمَّا وقع في آخر الحديث ألفي ألف وستمائة ألف، وهو أقرب من الأوَّل.
          فلعلَّ المراد أنَّ القدرَ المذكورَ وهو أنَّ لكلِّ زوجةٍ ألفُ ألف ومائتا ألفٍ كان لو قَسَمَ المالَ كلَّه بغير وفاء الدَّين، لكن خرج الدَّين من حصَّة كلِّ أحدٍ منهم فيكون الذي يورث ما عدا ذلك، وبهذا التَّقدير يخفُّ الوهم في الحساب ويبقى التَّفاوت أربعمائة ألفٍ فقط.
          لكن روى ابن سعد بسندٍ آخر ضعيف: عن هشام بن عروة، عن أبيه: إنَّ تركة الزُّبير بلغت أحداً أو اثنين وخمسين ألف ألف، وهذا أقرب من الأوَّل لكنَّه لا تحرير فيه، وكأنَّ القومَ لم يقصدوا بذلك تحرير الحساب فإنَّ غرضَهم ذكرُ الكثرة التي نشأت عن البركة في تركة الزُّبير إذ خلَّف ديناً كثيراً، ولم يخلِّف إلَّا العقار المذكور ومع ذلك بُورِك فيه حتَّى تحصَّل منه هذا المال العظيم، وقد جرت للعرب عادةٌ بإلغاء الكسور تارةً وجبرها أخرى فهذا من ذاك، وقد وقع إلغاء الكسور في هذه القصَّة في عدَّة روايات بصفاتٍ مختلفةٍ، ففي رواية علي بن مسهر، عن هشام، عند أبي نُعيم: بلغ ثُمُنُ نِساء الزُّبير ألف ألف وترك عليه من الدَّين ألفي ألف.
          وفي رواية عثَّام بن علي، عن هشام عند يعقوب بن سفيان: أنَّ الزُّبير قال لابنه: ((انظر دَيني وهو ألفُ ألفٍ ومائتا ألف))، وفي رواية أبي معاوية عن هشام أنَّ قيمة ما تركه الزُّبير كان خمسين ألفَ ألفٍ.
          وفي رواية السراج: أنَّ جملة ما حصل من عقاره نيف وأربعون ألف ألف، / وعند ابن سعد من حديث ابن عيينة أنَّ ميراثه قسم على أربعين ألف ألف.
          وأخرجه الحميدي في «النَّوادر»: عن سفيان، عن هشام بن عروة، وفي «المجالسة» للدِّينوري من طريق محمَّد بن عبيد، عن أبي أسامة: أنَّ الزُّبير ترك من العروض قيمة خمسين ألف ألف، والذي يظهر أنَّ الرُّواة لم يقصدوا إلى التَّحرير البالغ في ذلك، كما تقدَّم آنفاً.
          وقد حكى القاضي عياض عن ابن سعدٍ ما تقدَّم، ثمَّ قال: فعلى هذا يصحُّ قوله: إنَّ جميعَ مالِه خمسون ألف ألف، ويبقى الوهم في قوله: ومائتا ألف، قال: فإنَّ الصَّواب أن يُقال [مائة ألف واحدة، قال: وعلى هذا وقع في الأصل الوهم في لفظ] مائتا ألف حيث وقع في نصيب الزَّوجات، وفي الجملة فإنَّما الصَّواب مائة ألف واحدة حيث وقعَ في الموضعين.
          قال الحافظُ العسقلاني: وهو غلطٌ فاحشٌ يتعجَّب من وقوع مثله فيه مع تيقُّظه للوهم الذي في الأصل وتفرغ باله للجمع والقسمة، وذلك أنَّ نصيبَ كلَّ زوجةٍ إذا كان ألف ألف ومائة ألف لا يصحُّ معه أن يكون جميع المال خمسين ألف ألف ومائة ألف بل إنَّما يصحُّ أن يكون جميع ذلك خمسين ألف ألف ومائة ألف إذا كان نصيب كلِّ زوجةٍ ألف ألف وثلاثة وأربعين ألفاً وسبعمائة وخمسين على التَّحرير.
          قال: وقرأت بخطِّ القطب الحلبي عن الدِّمياطي: أنَّ الوهم إنَّما وقع في رواية أسامة عند البخاري في قوله في نصيب كلِّ زوجةٍ: إنَّه ألف ألف ومائتا ألف، وإنَّ الصَّواب أنَّه ألف ألف سواء بغير كسر، وإذا اختصَّ الوهم بهذه اللفظة وحدها خرج بقيَّة ما فيه على الصِّحة؛ لأنَّه يقتضي أن يكون الثُّمُنُ أربعة آلاف ألف، فيكون ثُمُناً من أصل اثنين وثلاثين، فإذا انضمَّ إليه الثُّلُث صار ثمانيةً وأربعين، وإذا انضمَّ إليه الدَّين صار الجميعُ خمسين ألف ألف ومائتي ألف.
          فلعلَّ بعض رواته لمَّا وقع له ذِكْرُ مائتا ألف عند الجملة ذَكَرَها عند نصيب كلِّ زوجةٍ سَهْواً، وهذا توجيهٌ حسن. ويؤيِّده ما روى أبو نُعيم في «المعرفة» من طريق أبي معشر، عن هشام، عن أبيه / قال: ورثتْ كلُّ امرأة للزُّبير رُبُعَ الثُّمُن ألف ألف.
          وقد وجَّهه الدِّمياطي أيضاً بأحسن منه فقال ما حاصله: إنَّ قوله: فجميع مال الزُّبير خمسون ألف ألف ومائتا ألف صحيح، والمراد به قيمة ما خلفه عند موته وأنَّ الزَّائد على ذلك وهو تسعة آلاف ألف وستمائة ألف بمقتضى ما يحصل من ضرب ألف ألف ومائتي ألف، وهو رُبُعُ الثُّمن في ثمانية مع ضَمِّ الثُّلُثِ، كما تقدَّم ثمَّ قدر الدَّين حتَّى يرتفعَ من الجميع تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة ألف ألف حصل هذا الزَّائدُ من نماء العقار والأراضي في المدَّة التي أخَّر فيها عبد الله بن الزُّبير قسم التَّركة استبراءً للدَّين، كما تقدَّم.
          وهذا التَّوجيه في غاية الحسن لعدم تكلُّفه وتبقية الرِّواية الصَّحيحة على وجهها، وقد تلقَّاه الكِرماني فذكره مُلَخَّصاً ولم ينسبه لقائله، ولعلَّه من توارد الخاطر حيث قال: فإن قلت إذا كان الثُّمُنُ أربعةَ ألف ألف وثمان مائة ألف، فالجميع ثمانية وثلاثون ألف ألف وأربعمائة ألف، وإذا أضفت إليه الثلث فهو خمسون ألف ألف وسبعة آلاف ألف وستمائة ألف، وإن اعتبرته مع الدَّين فهو: خمسون ألف ألف وتسعة آلاف ألف وثمانمائة ألف، فعلى التَّقادير، الحسابُ غيرُ صحيحٍ.
          قلت: لعلَّ الجميع كان عند وفاته هذا المقدار فزادت من غلَّة أمواله في هذه الأربع سنين إلى ستين ألف ألف إلى مائتي ألاف، فيصحُّ منه إخراج الدَّين والثُّلث ويبقى المبلغ الذي هو ثمنها لكلِّ امرأةٍ منه ألف ألف ومائتا ألف، والله تعالى أعلم.
          وأمَّا ما ذكره الزُّبير بن بكار في ((النسب)) في ترجمة عاتكة، وأخرجه الحاكم في «المستدرك» أنَّ عبد الله بن الزُّبير صالح عاتكة بنت زيد عن نصيبها من الثُّمن على ثمانين ألفاً، فقد استشكله الدِّمياطي وقال: بينه وبين ما في ((الصَّحيحين)) بونٌ بَعيد، والعجبُ من الزُّبير كيف ما تصدَّى لتحرير ذلك.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: ويمكن الجمعُ بأن يكون القَدْرُ الذي صُوْلحت به قدر ثلثي العشر من استحقاقها، وكان ذلك برضاها، وردَّ عبد الله بن الزُّبير بقية استحقاقها على من صالحها له ولا ينافي ذلك أصل الجملة، والله أعلم.
          وفي الحديث من الفوائد: ندب / الوصيَّة عند حضور أمرٍ يخشى فيه الفوت، كما عند الحرب؛ فإنَّه سبب مخوفٌ كركوب البحر، واختُلِفَ لو تصدَّق حينئذٍ أو حرَّر هل يكون من الثُّلث أو من رأس المال؟
          وفيه: أنَّ للوصي تأخير قسمة الميراث حتَّى تُوَفَّى ديونُ الميِّتِ وتنفذ وصاياه إن كان له ثُلُثٌ وأنَّ له أن يستبرئ أمر الدَّين وأصحابها قبل القسمة، ويؤخِّر القسمة بحسب ما يؤدِّي إليه اجتهاده، ولا يخفى أنَّ ذلك يتوقَّف على إجازة الورثة وإلَّا فمن طلب القسمة بعد وفاء الدَّين الذي وقع العلم به، وصمَّم عليها أُجيب إليها ولم يُتَربَّص به انتظارُ أمر متوهمٍ، فإذا ثبت بعد ذلك شيءٌ استعيد منه وأخذ.
          وبهذا يتبيَّن ضعفُ من استدلَّ بهذه القصَّة لمالكٍ حيث قال: إنَّ أَجَلَ المفقود أربعُ سنين، والذي يظهر أنَّ ابن الزُّبير إنَّما اختار التَّأخير أربع سنين؛ لأنَّ المدن الواسعة التي يؤتى الحجاز من جهتها إذ ذاك كانت أربعاً: اليمن والعراق والشام ومصر، فبنى على أنَّ كلَّ قطرٍ لا يتأخَّر أهله في الغالب عن الحج أكثر من ثلاثة أعوامٍ فيحصل استيعابهم في مدَّة الأربع، ومنهم: يبلغ الخبر في هذه المدَّة من ورائهم من الأقطار.
          وقيل: لأنَّ الأربع هي الغاية في الآحاد بحسب ما يمكن أن يتركَّب منه العشرات؛ لأنَّ فيها واحداً واثنين وثلاثة وأربعة مجموع ذلك عشرة، وقد تقدَّم إلى ذلك إشارة، واختار الموسم لأنَّه مجمع النَّاس من الآفاق. وفيه أيضاً جواز التَّربص بوفاء الدَّين إذا لم تكن التركة نقداً أو لم يختر صاحب الدَّين إلَّا النقد، وفيه أيضاً جواز الوصية للأحفاد إذا كان من يحجبهم من الآباء موجوداً.
          وفيه: جواز شراء الوارث من التركة، وفيه أنَّ الهبة لا تملك إلَّا بالقبض وأنَّ ذلك لا يخرج المال عن ملك الأول؛ لأنَّ ابن جعفر عرض على ابن الزُّبير أن يحلِّلهم من دينه الذي على الزُّبير فامتنع ابن الزُّبير. وفيه: بيان جود عبد الله بن جعفر لسماحته بهذا المال العظيم، فلذلك سمِّي بحر الكرم. وفيه: أنَّ من عرض على شخصٍ أنْ يَهبه شيئاً فامتنع أنَّ الواهب لا يُعَدُّ راجعاً في هبته، وأمَّا امتناع ابن الزُّبير فهو محمولٌ على أنَّ بقيَّة الورثة / وافقوه على ذلك وعلم أنَّ غير البالغين ينفِّذون له ذلك إذا بلغوا.
          وأجاب ابن بطَّال بأنَّ هذا ليس من الأمر المحكوم به عند التَّشاح وإنَّما يحكم في شرف النُّفوس ومحاسن الأخلاق. انتهى.
          قال الحافظ العسقلاني: والذي يظهر أنَّ ابن الزُّبير تحمَّل بالدَّين كلِّه على ذمَّته والتزم وفاءه ورضي الباقون ذلك.
          وفيه أيضاً أن لا كراهة من الاستكثار من الزَّوجات والخدم، وقال ابن الجوزي: فيه ردٌّ على من كَرِهَ جَمْعَ الأموال الكثيرة من جهلة المتزهِّدين، وتُعُقِّبَ بأنَّ هذا الكلام لا يناسب مقامه من حيث كونه لهجاً بالوعظ، فإنَّ من شأن الواعظ التَّحريض على الزُّهد في الدُّنيا والتَّقلل منها، وكون مثل هذا لا يكره للزُّبير وأنظارِه لا يطرد.
          وفيه أيضاً: بركة العقار والأرض لما فيه من النَّفع العاجل والآجل بغير تعبٍ كثير ولا دخول مكروهٍ، كاللغو الواقع في البيع والشِّراء. وفيه أيضاً: إطلاق اللَّفظ المشترك لمن يظنُّ به معرفة المراد والاستفهام لمن لم يتبيَّن له؛ لأنَّ الزُّبير ☺ قال لابنه: استعن عليه بمولاي، والمولى لفظ مشترك فجوَّز ابن الزُّبير أن يكون أراد بعضَ عتقائه مثلاً فاستفهم، فعرف حينئذٍ مراده.
          وفيه أيضاً: منزلة الزُّبير عند نفسه وأنَّه في تلك الحالة كان في غاية الوثوق بالله والإقبال عليه والرِّضا بحكمه والاستعانة به، ودلَّ ذلك على أنَّه كان في نفسه محقًّا مصيباً في القتال، ولذلك قال: إنَّ أكبر همِّه دَينه ولو كان يعتقد أنَّه غير مصيبٍ أو أنَّه آثمٌ باجتهاده ذلك لكان اهتمامه بما هو فيه من أمر القتال أشدُّ. وفيه أيضاً استعمال التَّجوز في كثيرٍ من الكلام كما تقدَّم، وقد وقع ذلك أيضاً في قوله: أربع سنين في المواسم؛ لأنَّه إن عد موسم سنة ستٍّ وثلاثين فلم يؤخِّر ذلك إلَّا ثلاث سنين ونصفاً وإن لم يعده فقد أخَّر ذلك أربع سنين ونصفاً.
          وفيه: إلغاء الكسر أو جبره، وفيه: قوَّة نفس عبد الله بن الزُّبير لعدم قبول ما سأله حكيم بن حزام من المعاونة، وممَّا سأله عبد الله بن جعفر من المحاللة، وفيه: كرم حكيم أيضاً وسماحة نفسه، وفيه: أنَّ الاستدانة إنَّما تُكْرَه لمن لا وفاء له أو لمن يَصْرِفُه / إلى غير وَجْهِه، وفيه النِّداء في ديون من يعرف بالدَّين، وفيه: النِّداء في الموسم؛ لأنَّه مَجْمَعُ الناس. وفيه: طاعة بني الزُّبير لأخيهم في تأخير القسمة لأجل الدَّين الموهوم، وفيه أيضاً ما كان عليه الصَّحابة ♥ من اتِّخاذ النِّساء.
          وهذا الحديث من أفراد البخاري، وذكره أصحاب «الأطراف» في «مسند الزبير» والأشبه أن يكون من مسند ابنه عبد الله، وكلُّه موقوفٌ غير قوله: ((وما ولي إمارة ولا جباية خراج ولا شيئاً إلَّا أن يكون في غزوة مع النَّبي صلعم )) فهذا المقدار في حكم المرفوع.
          وروى التِّرمذي من حديث عروة قال: أوصى الزُّبير إلى ابنه عبد الله صبيحة الجمل، فقال: ((ما منِّي عضو إلَّا وقد جُرِحَ مع رسولِ الله صلعم حتَّى انتهى ذلك إلى فرجه)).
          ورواه ابن سعدٍ في «طبقاته» في قتل الزُّبير ووصيته بدَينه وثُلُث ماله عن أبي أسامة نحو حديث البخاريِّ وطوله غير أنَّه خالفه في موضعٍ واحدٍ، وهو قوله: أصاب كلَّ امرأةٍ من نسائه ألف ألف ومائة ألف كما تقدَّم، والله أعلم.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة تؤخذ من قوله: ((وما ولي إمارةً... إلى قوله: وعثمان ☺))، وذلك أنَّ البركة التي كانت في مال الزبير من كونه غازياً مع النَّبي صلعم ومع أبي بكر وعمر وعثمان ♥ وكون البركة في حياته وبعد موته تظهرُ عند التأمل في قصَّته.


[1] هكذا في الأصل.