نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك

          2552- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ) قال الحافظ العسقلانيُّ: لم أره منسوباً في شيءٍ من الرِّوايات إلَّا في رواية أبي عليِّ بن شَبُّويه فقال: <حدَّثنا محمَّد بن سلام> وكذا حكاه الجيَّاني عن رواية ابن السَّكن.
          وحُكِي عن الحاكم أنَّه الذُّهلي، وقد أخرج مسلم هذا الحديث في «الأدب» عن محمَّد بن رافع عن عبد الرَّزاق، ولا يبعد أن يكون محمَّد هذا هو محمَّد بن رافعٍ؛ لأنَّه روى عنه أيضاً في هذا «الصَّحيح» قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) أي: ابن هَمَّام، قال: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ) هو: ابن راشد (عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) بكسر الموحدة المشددة، وقد مرَّ في «الإيمان» [خ¦42] (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) ☺ (يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) هذه الصِّيغة؛ أعني: «يحدث عن النَّبي صلعم » نادرة في «الصَّحيح».
          (أَنَّهُ قَالَ: لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ) بفتح الهمزة، من الإطعام و«ربك» _بالنصب_ مفعوله (وَضِّئْ) أمرٌ من وضَّأه يوضِّئه من التَّفعيل (رَبَّكَ، اسْقِ رَبَّكَ) بكسر الهمزة، أمرٌ من سقاه يسقيه تثبت الهمزة في الابتداء وتسقط في الدَّرج، وهذه الألفاظ إنَّما ذكرت على سبيل التَّمثيل، وإنَّما خصَّت بالذِّكر لغلبة استعمالها في المخاطبات.
          (وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي مَوْلاَيَ) قال الكرمانيُّ: السِّياق يقتضي أن يقال: سيِّدك ومولاك؛ ليناسب ربَّك لكن الأوَّل خطاب للسَّادات والثَّاني للمماليك؛ أي: لا يقول السَّيد للمملوك: أطعم ربَّك، إذ فيه نوعٌ من التَّكبر، ولا يقول العبد أيضاً لفظاً يكون فيه تعظيم بليغ للسَّيد، إذ حقيقة الرُّبوبية له تعالى بل يقول: أطعمتُ سيدي وهو مولاي ونحوه.
          فإن قلت: روى مسلمٌ والنَّسائي من طريق الأعمش عن أبي صالحٍ عن أبي هريرة ☺ في هذا الحديث نحوه، وزاد: ((ولا يقل أحدُكم مولاي فإنَّ مولاكم الله، ولكن ليقل: سيدي)).
          قلت: قد بيَّن مسلمٌ الاختلاف في ذلك على الأعمش، وأنَّ منهم من ذكر هذه الزِّيادة، ومنهم من حذفها، وقال القاضِي عياض: حذفها أصحُّ.
          وقال القرطبيُّ: المشهور حذفها قال: وإنَّما صرنا إلى التَّرجيح للتَّعارض مع تعذُّر الجمع وعدم العلم بالتَّاريخ. انتهى.
          ومقتضى ظاهر هذه الزِّيادة: أنَّ إطلاق السَّيد أسهل من إطلاق المولى وهو خلاف / المتعارف، فإنَّ المولى يطلق على أوجه متعدَّدة: منها الأسفل والأعلى، والسَّيد لا يطلق إلَّا على الأعلى فكان إطلاق المولى أسهل وأقرب إلى عدم الكراهة، والله أعلم.
          وقد رواه محمَّد بن سيرين عن أبي هريرة ☺ فلم يتعرَّض للفظ المولى لا إثباتاً ولا نفياً، أخرجه أبو داود والمصنِّف في «الأدب المفرد» بلفظ: ((لا يقولنَّ أحدكم: عبدي وأمَّتي، ولا يقل المملوك: ربِّي وربَّتي، ولكن ليقل المالك: فتاي وفتاتي، والمملوك: سيِّدي وسيِّدتي، فإنَّكم المملوكون، والرَّب هو الله تعالى)).
          قال القرطبيُّ وغيره: إنَّما فرق بين الرَّب والسَّيد؛ لأنَّ الرَّب من أسماء الله تعالى اتفاقاً، واختلف في السَّيد ولم يَرِدْ في القرآن أنَّه من أسماء الله تعالى فإن قلنا: إنَّه ليس من أسماء الله تعالى فالفرق واضحٌ إذ لا التباس، وإن قلنا: إنَّه من أسماء الله تعالى فليس في الشُّهرة والاستعمال كلفظ «الرَّب»، فيحصل الفرق بذلك أيضاً. وقد روى أبو داود والنَّسائي وأحمد والمصنف في «الأدب المفرد» من حديث عبد الله بن الشِّخِّير عن النَّبي صلعم قال: ((السَّيد هو الله)).
          وقال الخطَّابي: إنَّما أطلقه لأنَّ مرجع السِّيادة إلى معنى الرياسة على من تحت يده والسِّياسة له وحسن التَّدبير لأمره، ولذلك سُمِّي الزوج سيداً، قال: وأمَّا المولى فكثير التَّصرف في الوجوه المختلفة من وليٍّ وناصرٍ وغير ذلك، ولكن لا يقال: السَّيد ولا المولى على الإطلاق من غير إضافةٍ إلَّا في صفة الله تعالى. انتهى.
          وقال ابن بطَّال: لا يجوز أن يُقال لأحدٍ غير الله: رب، كما لا يجوز أن يُقال إله. انتهى.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: والذي يختصُّ بالله تعالى إطلاق الرَّب بلا إضافة، أمَّا مع الإضافة فيجوز إطلاقه كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف ◙: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف:42]، وقوله تعالى أيضاً: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف:50]، وقوله صلعم : في أشراط السَّاعة «أن تلد الأمة ربَّها»، فدلَّ على أنَّ النَّهي في ذلك محمولٌ على الإطلاق.
          ويحتمل أن يكون النَّهي للتَّنزيه وما ورد من ذلك / فلبيان الجواز، وقيل: هو مخصوصٌ بغير النَّبي صلعم ، ولا يَرِدُ ما في القرآن، أو المراد: النَّهي عن الإكثار من ذلك واتِّخاذ استعمال هذه اللَّفظة عادة، وليس المراد النَّهي عن ذكرها بالجملة، والله أعلم.
          تنبيه: في الحديث نهي العبد أن يقول لسيِّده: ربِّي، كما نهى عنه غيره، ويدخل في ذلك أن يقول السَّيد ذلك عن نفسه فإنَّه قد يقول لعبده: اسق ربَّك، فيضع الظَّاهر موضع الضَّمير على سبيل التَّعظيم، والسَّبب في النَّهي كما تقدَّم أنَّ حقيقة الرُّبوبية لله تعالى، فإنَّ الإنسان مربوب متعبَدٌ بإخلاص التَّوحيد لله تعالى وترك الإشراك معه فكره له المضاهاة بالاسم؛ لئلا يدخل في معنى الشرك، ولا فرق في ذلك بين الحرِّ والعبد، فأمَّا من لا تعبُّد عليه من سائر الحيوانات والجمادات فلا يُكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة كقوله: رب الدَّار ورب الثَّوب.
          (وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي أَمَتِي) زاد المصنِّف في «الأدب المفرد» ومسلمٌ من طريق العلاء بن عبد الرَّحمن عن أبيه عن أبي هريرة ☺: ((كلُّكم عبيد الله، وكلُّ نسائكم إماءُ الله))، فأرشد صلعم إلى العلَّة في ذلك؛ لأنَّ حقيقة العبوديَّة إنَّما يستحقُّها الله ╡، ولأنَّ فيها تعظيماً لا يليق بالمخلوق استعماله لنفسه.
          قال الخطَّابي: والمعنى في ذلك كلِّه راجعٌ إلى البراءة من الكبر والتزام الذُّل والخضوع لله ╡، وهو الذي يليقُ بالمربوب.
          (وَلْيَقُلْ: فَتَايَ وَفَتَاتِي) قال الكرمانيُّ: الفتى هو الشَّاب والفتاة الشَّابة (وَغُلاَمِي) زاد مسلمٌ: «وجاريتي»، فأرشد صلعم إلى ما يُؤدِّي المعنى مع السَّلامة من التَّعاظم؛ لأنَّ لفظ «الفتى» و«الغلام» لا يدلُّ على محض الملك كدَلالة العبد، فقد كثر استعمال الفتى في الحرِّ، وكذلك الغلام والجارية.
          وقال النَّووي: فالنَّهي محمولٌ على من استعمله من جهة التَّعاظم لا من أراد التَّعريف. انتهى.
          ومحلُّه ما إذا لم يحصل التَّعريف بدون ذلك استعمالاً للأدب في اللَّفظ، كما دلَّ عليه الحديث. والله أعلم.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة تُؤخذ من قوله: ((ولا يقل أحدكم: عبدي / أمتي))، فإنَّ من جملة التَّرجمة وقوله: «عبدي وأمتي».