نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الخطإ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه ولا عتاقة

          ░6▒ (باب الْخَطَأ) وهو ضدُّ العمد، قال الجوهري: الخطأ نقيض الصَّواب وقد يمد، وقد قُرِئ بهما في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} [النساء:92]، والمد في الشَّواذ تقول منه: أخطأت وتخطأت بمعنى واحد، ولا يقال: أخطيت.
          وقال ابن الأثير: أخطأ يُخطئ: إذا سلك سبيل الخطأ عمداً أو سهواً، ويقال: خَطِئ بمعنى أخطأ أيضاً، وقيل: خَطِئ إذا تعمَّد وأخطأ إذا لم يتعمَّد، ويُقال لمن أراد شيئاً ففعل غيره أو فعل غير الصَّواب أخطأ.
          (وَالنِّسْيَانِ) وهو خلاف الذِّكر والحفظ، ورجل نَسيان _بفتح النون_ كثير النِّسيان للشَّيء، وقد نسيت الشَّيء نِسياناً. وعن أبي عبيدة: النِّسيان: التَّرك، قال الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، وفي «شرح معاني الآثار»: أنَّ الخطأ في الاصطلاح هو الفعل من غير قصد تامٍّ.
          والنسيان معنى يزول به العلم من الشَّيء مع كونه ذاكراً لأمور كثيرة، وإنما قيل ذلك احترازاً عن النَّوم والجنون والإغماء، وقيل: النِّسيان عبارة عن الجهل الطَّارئ، ويُقال: المأتي به إن كان على جهة ما ينبغي فهو الصَّواب، وإن كان لا على ما ينبغي نظر فإن كان مع قصد من الآتي به يسمَّى الغلط، وإن كان من غير قصد منه فإن كان يتنبَّه بأيسر تنبيه يسمَّى السَّهو وإلَّا يسمَّى الخطأ.
          (فِي الْعَتَاقَةِ وَالطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ) أي: ونحو ما ذكر من العتاقة والطَّلاق من الأشياء التي يريد الرَّجل أن يتلفَّظ بشيء منها فيسبق لسانه إلى غيره. وقال الحافظ العسقلاني: ونحوه: أي: من التَّعليقات التي لا يقع شيء منها إلا بالقصد.
          وتعقَّبه العيني: بأن هذا التَّفسير ليس بظاهر ولا له معنى يفيد. انتهى.
          وأنت خبير بأنَّه فسره على مذهبه كما ستعرف إن شاء الله تعالى، وكأنَّه أشار إلى ردِّ ما رُوِي عن مالك أنَّه يقع الطَّلاق والعتاق عامداً كان أو مخطئاً ذاكراً كان أو ناسياً. وقد أنكره كثير من أهل مذهبه، وصورة الخطأ في العتاق أن يريد التلفُّظ بشيء فيسبق لسانه فيقول لعبده: أنت حرٌّ، وكذلك في الطَّلاق يقول لامرأته: أنت طالق بعد أن أراد التلفُّظ بشيء آخر.
          فقال أصحابنا: طلاق الخاطئ والنَّاسي / والهازل واللَّاعب والذي تكلَّم به من غير قصد واقع، وصورة النَّاسي ما إذا حلف بهما فنسي.
          قال الدَّاودي: النِّسيان لا يكون في الطَّلاق ولا العتاق إلا أن يُراد أنَّه حلف بهما على فعل شيء، ثمَّ نسي يمينه وفعله، فهذا إنَّما يُوضَع فيه النِّسيان إذا لم يذكر فيه يمينه كما تُوضَع الصَّلاة عمَّن نسيها إذا لم يذكرها حتَّى يموت، وكذلك ديون النَّاس وغيرها لا يأثم بتركها ناسياً.
          وقال ابن التِّين: هذا من الدَّاودي على مذهب مالك ☼ .
          وفي «التوضيح»: وقد اختلف العلماء في النَّاسي في يمينه هل يلزمه حنث أو لا؟ على قولين:
          أحدهما: لا وهو قول عطاء وأحد قولي الشَّافعي، وبه قال إسحاق، وإليه ذهب البخاري في الباب.
          وثانيهما: وهو قول الشَّعبي وطاوس: من أخطأ في الطَّلاق فله نيَّته.
          وفيه قول ثالث: يحنث في الطَّلاق خاصَّة، قاله أحمد.
          وذهب مالك والكوفيُّون إلى أنَّه يحنث في الخطأ أيضاً، وادَّعى ابن بطَّال أنَّه الأشهر عن الشَّافعي. ورُوِي ذلك عن أصحابِ ابن مسعود ☺. واختلف ابن القاسم وأشهب فيما إذا ادَّعى رجل عبداً يُقال له: ناصح فأجابه عبد يُقال له: مرزوق، فقال له: أنت حرٌّ وهو يظنُّ الأوَّل، وشهد عليه بذلك، فقال ابنُ القاسم: يعتقان جميعاً مرزوق بمواجهته بالعتق، وناصح بما نواه، وأمَّا فيما بينه وبين الله فلا يعتقُ إلَّا ناصح. وقال أشهبُ: يعتق مرزوقاً ولا يعتقُ ناصح؛ لأنَّه دعاه ليعتقه فأعتقَ غيره، والله أعلم.
          (وَلاَ عَتَاقَةَ إِلاَّ لِوَجْهِ اللَّهِ) سيأتي في «الطَّلاق» إن شاء الله تعالى نقل معنى ذلك عن عليٍّ ☺ [خ¦5269]، وروى الطَّبراني من حديث ابن عبَّاس ☻ مرفوعاً: ((لا طلاق إلَّا لعدَّة، ولا عتاق إلَّا لوجه الله)). ومعنى لا عتاقة إلَّا لوجه الله؛ أي: لذات الله أو لجهة رضا الله تعالى.
          وأراد المصنِّف بذلك اعتبار النيَّة؛ لأنَّه لا يظهر كونه لوجه الله تعالى إلَّا مع القصد.
          قال الحافظ العسقلاني: أرادَ البخاري بذلك الرَّد على من قال: يريد الحنفيَّة إذا قال الرَّجل لعبده: أنت حر للشَّيطان أو للصَّنم، فإنه يعتق لوجود ركن الإعتاق وهو صدوره من أهله مضافاً إلى محلِّه عن ولاية فنفذ / ولغت تسمية الجهة، وكان عاصياً بها. والجواب عنه من وجهين:
          أحدهما: تصحيحُ الحديث المذكور.
          والآخر: أنَّه بعد تسليم صحَّته أنَّ المراد به أن يكون نيَّة المعتق الإخلاص فيها؛ لأنَّ الأعمال بالنيَّات، فإذا لم يكن خالصاً في نيَّته يكون عاصياً بذكر غير الله، وترك هذا لا يمنعُ وقوع العتق لقضيته أنت حرٌّ والباقي لغو.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) وتقدير قوله: ((لكلِّ امرئ ما نوى)): يعتد لكلِّ امرئ ما نوى، وهو يحتمل أن يكون في الدُّنيا والآخرة أو في الآخرة فقط.
          وبحسب هذين الاحتمالين وقع الاختلاف في الحكم، وهو طرفٌ من حديث عمر بن الخطَّاب ☺، وقد مرَّ في أوَّل الكتاب بلفظ: ((وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى)) [خ¦1]، وأورده في أواخر «كتاب الإيمان» [خ¦54]: ((ولكلِّ امرئ ما نوى)).
          وكأنَّه أراد به تأكيد ما سبق من عدم وقوع العتاق إذا كان لغير وجه الله؛ لأنَّ الأعمال بالنيَّات، ولكنَّه لا يفيد شيئاً؛ لأنَّ النيَّة أمر مبطَّن، ووقوع الإعتاق غير متوقِّف عليه، بل الوقوع بمقتضى الكلام الصَّحيح ولا يمنعه تسمية الجهة اللَّغو.
          (وَلاَ نِيَّةَ لِلنَّاسِي وَالْمُخْطِئِ) كأنَّه استنبط من قوله: ((لكلِّ امرئ ما نوى)) عدم وقوع العتاق من النَّاسي والمخطئ؛ لأنه لا نيَّة لهما. وقال العيني: وفيه نظر؛ لأنَّ الوقوع إنَّما هو مقتضى كلام صحيح صادر من عاقل بالغٍ مضافٍ إلى محله، والمخطئُ من أراد الصَّواب فصار إلى غيره. ووقع في رواية القابسي: <والخاطئ> بدل: المخطئ، والخاطئ: من تعمَّد لما لا ينبغي.
          قال الحافظ العسقلاني: وأشار المصنِّف بهذا الاستنباط إلى أخذ التَّرجمة من حديث ((الأعمال بالنيَّات))، ويحتمل أن يكون أشار بالتَّرجمة إلى ما ورد في بعض الطُّرق كعادته، وهو الحديث الذي يذكره أهل الفقه والأصول كثيراً: ((رفع الله عن أمَّتي الخطأ والنِّسيان، وما استكرهوا عليه))، أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عبَّاس ☻ إلَّا أنَّه بلفظ: ((وضع)) بدل: «رفع». وقد أخرجه الفضل بن جعفر التَّميمي في «فوائده» بالإسناد الذي أخرجه به ابن ماجه بلفظ: ((رفع))، ورجاله ثقات إلَّا أنَّه أعل بعلَّة غير قادحة، فإنَّه من رواية الوليد عن الأوزاعيِّ، عن عطاء، عنه.
          وقد رواه بشر بن بكر عن الأوزاعيِّ فزاد عبيد بن عُمير بين عطاء وابن عبَّاس ☻ / أخرجه الدَّارقطني والحاكم والطَّبراني، انتهى.
          وقال العينيُّ: كأنَّه أشار بذلك إلى أنَّ الخطأ والنِّسيان رفعا عن أمَّته فلا يترتب على النَّاسي والمخطئ حكم، وذلك لعدم النيَّة فيهما والأعمال بالنيَّات، فإذا كان كذلك لا يقع العتاق من النَّاسي والمخطئ، وكذلك الطَّلاق وهو قول الشَّافعي؛ لأنه لا اختيار له فصار كالنَّائم والمغمى عليه.
          قلنا: الاختيار أمر باطن لا يوقف عليه فلا يصحُّ تعليق الحكم عليه.
          هذا ثمَّ إنَّ هذا الحديث حديث صحيح جليل حتَّى قال بعض العلماء: ينبغي أن يُعدَّ نصف الإسلام؛ لأنَّ الفعل إمَّا عن قصد واختيار أم لا، الثَّاني: ما يقع عن خطأ أو نسيان أو إكراهٍ، وهذا القسم معفو عنه بالاتفاق، وإنَّما اختلف العلماء هل المعفو عنه الإثم أو الحكم أو هما معاً، وهو ظاهر الحديث، وما خرج عنه كالقتل فله دليلٌ منفصل، وسيأتي بسط الكلام على ذلك في «كتاب الأيمان والنُّذور» إن شاء الله تعالى [خ¦6664]، أخرجه الطَّحاوي بإسناد رجاله رجال الصَّحيح غير شيخه حيث قال: حدَّثنا ربيع المؤذِّن قال: حدَّثنا بشر بن بكر قال: أنا الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عُمير، عن ابن عبَّاس ☻ قال: قال رسول الله صلعم : ((تجاوزَ الله لي عن أمَّتي الخطأ والنِّسيان وما استكرهوا عليه))، فهذا هو الصَّحيح.
          والذي أعلَّه إنَّما أعلَّ إسناد ابن ماجه الذي أخرجه عن محمَّد بن المصفَّى الحمصي: حَدَّثَنَا الوليد بن مسلم: حَدَّثَنَا الأوزاعيُّ، عن عطاء، عن ابن عبَّاس ☻ ، عن النَّبي صلعم : ((إنَّ الله وضعَ عن أمَّتي الخطأ والنِّسيان وما استكرهوا عليه)).
          فهذا كما ترى أسقط عبيد بن عمير، وأيضاً أعلَّه بأنَّه من رواية الوليد عن الأوزاعي، والصَّحيح طريق الطَّحاوي، ورواه ابن حزم من طريق الرَّبيع وصحَّحه. وقال النَّووي في «الأربعين»: هو حديث حسن.
          هذا قوله: ((تجاوز الله))؛ أي: عفا الله، وقوله: ((لي))؛ أي: لأجلي، وذلك لأنه لم يتجاوز ذلك إلَّا عن هذه الأمَّة لأجل سيدنا محمد صلعم ، وقوله: ((الخطأ والنِّسيان))؛ أي: حكمهما في حقِّ الله لا في حقوق العباد؛ لأنَّ في حقِّه عذراً صالحاً لسقوطه، حتَّى قيل: إنَّ الخاطئ لا يأثم، ولا يُؤخذ بحدٍّ، ولا قصاص، وأمَّا في حقوق العباد فلم يجعل عذراً حتَّى وجب ضمان العدوان على الخاطئ؛ لأنَّه ضمان مال لا جزاء فعلٍ، ووجب به الدية وصحَّ طلاقه وعتاقه.