نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم

          2368- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن عبد الله، أبو جعفر البخاريُّ المعروف بالمُسنَدي، وهو من أفراده، قال: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) قال: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ) السَّختيانيِّ (وَكَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ) ضدُّ القليل في اللَّفظين، ابن المطلب السَّهمي، وهو عطفٌ على أيوب (يَزِيدُ أَحَدُهُمَا) في الرواية (عَلَى الآخَرِ) باعتبارين؛ أي: يزيدُ أحدهما باعتبار، والآخر باعتبارٍ آخر.
          (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) أنَّه (قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ ، قَالَ النَّبِيُّ صلعم : يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ) هي هاجر، وكان إبراهيم ╕ سار إلى مصر لمَّا وقع القحط بالشام للميرة ومعه سارة ولوط ♂، وكان بها أوَّل الفراعنة سِنان بن عَلْوان بن عُبَيد بن عُوَيج بن عِمْلاق بن لاوي بن سام بن نوح ◙ وقيل: غير ذلك، وكانت سارة من أجمل النِّساء، وجرى بينه وبين إبراهيم ◙بسبب سارة على ما ذكرهُ أهل السير ما جرى.
          وقد مرَّ تفصيله في باب «شراء المملوك من الحربيِّ وهبته وعتقه» [خ¦2217]، فآخر الأمر أنَّه نجَّى الله تعالى سارة من هذا الفرعون فأخدمها هاجر، واختُلِفَ فيها فقال مقاتل: كانت من ولد هود ◙، وقال الضَّحَّاك: كانت بنت ملك مصر، وكان ساكناً بمنف فغلبه ملك آخر فقتله وسبى ابنته فاسترقَّها ووهبها لسارة، ثمَّ وهبتها سارة لإبراهيم ◙ فواقعها فولدت إسماعيل ◙، ثمَّ حمل إبراهيم إسماعيل وأمَّه هاجر إلى مكة، وذلك لأمرٍ يطول ذكره، ومكَّة إذ ذاك عضاه وسلم وسمر فأنزلهما في موضعِ الحجر وكان مع هاجر شنَّة ماء، وقد نفد فعطشت وعطش / الصبيُّ فنزل جبريلُ ◙، وجاء بهما إلى موضع زمزم فضرب بعقبه ففارت عين، فلذلك يُقالُ لزمزم: ركضة جبريل، فلَمَّا نبع الماء أخذت هاجر شنتها وجعلت تستقي فيها تدخره وهي تفور، فلذلك قال صلعم : ((يَرحمُ الله أمَّ إسماعيل)) (لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ) بأن لا تغترف منها إلى القربة ولا تشح بها (أَوْ) شكٌّ من الراوي (قَالَ) صلعم : (لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ لَكَانَتْ عَيْناً مَعِيناً) بفتح الميم؛ أي: جارياً.
          قال الخَطَّابيُّ: قوله: «لو لم تغرف» يريد به لو لم تشحَّ ولم تدَّخر لكانت عيناً تجري والمعين الظاهر، ولكن لمَّا غرفت ولم تثق بأنَّ الله تعالى سيمهِّدها ويجريها حُرمت ذلك، ويُروَى: وقال لها جبريل ◙: لا تخافي الظَّمأ على أهل هذه البلدة، فإنَّها عينٌ ستشرب منها ضيفان الله، وإنَّ هاهنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، فكان كذلك حتَّى مرَّت رفقة من جُرْهُم تريد الشَّام مقبلين من طريق كذا، فنزلوا في أسفل مكَّة فرأوا طائراً على الجبل فقالوا: إنَّ هذا الطَّائر ليدورُ على الماء، وعهدنا هذا الوادي وما فيه ماء فأشرفوا فإذا هم بالماء، فقالوا لهاجر: إن شئت كنَّا معك وآنسناك، والماء ماؤك فأذنت لهم فنزلوا هناك فهم أوَّل سكان مكَّة، فكانوا هناك حتى شبَّ إسماعيل ◙ وماتت هاجر، فتزوَّج إسماعيل امرأةً منهم يقال لها: الجداء ابنة سعدٍ العملاقي، وأخذ لسانهم فتعرَّب بهم، وحكايته طويلة ليس هذا الموضع محل بسطها، وذلك قوله صلعم :
          (وَأَقْبَلَ جُرْهُمُ) وجرهم صنفان:
          الأولى: كانوا على عهد عادٍ فبادوا ودرست أحياؤهم وأخبارهم وهم من العرب البائدة.
          وجُرْهُم الثانية: من ولد جُرْهُم بن قحطان، وكان جُرْهُم أخا يعرب بن قحطان، فملك يعربُ اليمنَ وملك أخوه جرهم الحجازَ.
          وقال الرُّشاطيُّ: جُرْهُم وابن عمِّه قطورا هما كانا أهل مكة، وكانا قد ظعنا من اليمن فأقبلا سيارة، وعلى جُرْهُم مضاض بن عُمر، وعلى قَطُورا السَّمَيْدَع رجلٌ منهم فنزلا مكَّة، وجُرْهُم هو: ابنُ قحطان بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ◙.
          والحاصل: أن جُرْهُم _بضم الجيم والهاء وسكون الراء_ حيٌّ من اليمن، وهم أصهار إسماعيل ◙.
          (فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ) بهمزة الاستفهام خطاب لهاجر (أَنْ نَنْزِلَ) بنون المتكلم مع الغير، ويُروَى: <أن أنزل> باعتبار قول كلِّ واحدٍ منهم / (عِنْدَكِ، قَالَتْ: نَعَمْ وَلاَ حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ) قال الِكَرْمانيُّ: فإن قلت: نعم مقررة لِمـَا سبق وهاهنا النفي سابق، قلت: نعم يستعمل في العرف مقام بلى، ولهذا يثبتُ به الإقرار حيث يقال: أليس عليك ألف؟ فقال: نعم.
          وقال العَينيُّ: التَّحقيق أنَّ بلى لا تأتي إلَّا بعد نفي، وأن نعم تأتي بعد نفيٍ وإيجابٍ فلا حاجة إلى أن يقال تستعمل في العرف مقام بلى.
          ومطابقة الحديث للترجمة من جهة قولها للذين نزلوا عليها: ولا حقَّ لكم في الماء، قالوا: نعم وقرر النَّبي صلعم ذلك.
          وقال الخَطَّابيُّ: فيه أنَّ من أنبط ماء في فلاةٍ من الأرض ملكه ولا يشاركه غيره فيه إلَّا برضاه، إلا أنَّه لا يمنع فضله إذا استغنى عنه، وإنَّما شرطت هاجر عليهم أن لا يتملَّكوه، لكنَّهم في حكم السائلة في الفضل، والله أعلم.