نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: في الشرب ومن رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة

          ░1▒ (بابٌ) بالتَّنوين (فِي) أحكام (الشُّرْبِ) قد مرَّ تفسير الشُّرب عن قريبٍ (وَ) في حكم (مَنْ رَأَى صَدَقَةَ الْمَاءِ وَهِبَتَهُ وَوَصِيَّتَهُ جَائِزَةً مَقْسُوماً كَانَ) ذلك الماء (أَوْ غَيْرَ مَقْسُومٍ) كذا في رواية النَّسفي، ولأبي ذرٍّ: <باب من رأى... > إلخ بدون ذكر قوله: في الشُّرب.
          قال الحافظُ العَسْقَلانيُّ: أراد المصنِّف بالتَّرجمة الرَّدَ على مَنْ قال: إنَّ الماء لا يُملَك، وتعقَّبه العَينيُّ: بأنَّه من أين يُعلَم أنَّه أراد بالتَّرجمة الرَّد على مَنْ قال: إنَّ الماء لا يُملَك، ويحتمل العكس.
          وأيضاً فقوله: إنَّ الماء لا يُملَك، ليس على إطلاقه؛ لأنَّ الماء على أقسام: قسمٌ منه لا يُملَك أصلاً، وكلُّ النَّاس فيه سواءٌ في الشُّرب، وسقي الدَّواب وكرى النَّهر منه إلى أرضه، وذلك كالأنهارِ العظام، مثل: النِّيل والفرات ونحوهما.
          وقسم منه يُملَك وهو الماء الذي يدخلُ في قسمة أحد إذا قسمه الإمام بين قومٍ، فالنَّاس فيه شركاء في الشُّرب وسقي الدَّواب دون كرى النَّهر.
          وقسمٌ منه يكون مُحرَزاً في الأواني كالجبابِ والدِّنان والجرار ونحوها، وهذا مملوكٌ لصاحبه بالإحراز، وانقطع حقُّ غيره عنه، كما في الصَّيد المأخوذ حتَّى لو أتلفَه رجلٌ يضمنُ قيمته، ولكن شُبهة الشَّركة فيه باقيةٌ؛ لقوله صلعم : ((المسلمون شُركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنَّار))، رواه ابن ماجه من حديث ابن عبَّاس ☻ ، ورواهُ الطَّبراني من حديث عبد الله بن عمر ☻ ، ورواهُ أبو داود عن رجلٍ من الصَّحابة وأحمد في «مسنده»، وابنُ أبي شيبة في «مصنفه»، والمراد شركة إباحةٍ لا شركة ملكٍ، فمَنْ سبقَ إلى أخذِ شيءٍ منه في وعاءٍ وأحرزهُ فهو أحقُّ به، وهو ملكه دون مَنْ سواهُ لكنَّه لا يمنع مَنْ يخاف على نفسه من العطش، أو مركبه فإن منعه يقاتله بلا سلاحٍ بخلاف الماء الثاني فإنَّه يقاتله فيه بسلاحٍ.
          ثمَّ إنَّ الرَّجل إذا كان له شربٌ في الماء وأوصى أن يسقيَ منه أرض فلان / يوماً أو شهراً أو سنةً أُجيزت من الثُّلث، فإن مات المُوصَى له بطلتِ الوصيَّةُ، وإذا أوصى ببيع الشرب أو هبته أو صدقته فإنَّ ذلك لا يصحُّ للجهالة أو للغرر فإنَّه خطر الوجود؛ لأنَّ الماء يجيءُ وينقطع، وكذا لا يصحُّ أن يكون مسمًّى في النِّكاح حتَّى يجبُ مهر المثل، ولا بدل الصُّلح عن الدَّعوى.
          ولا يباع الشُّرب في دين صاحبه بدون أرضٍ بعد موته، وكذا في حياته ولو باع الماء المحرز في إناءٍ أو وهبه لشخصٍ أو تصدَّق به فإنَّه يجوز، ولو كان مشتركاً بينه وبين آخر فلا يجوز قبل القسمة، والله أعلم.
          (وَقَالَ عُثْمَانُ) أي: ابن عفَّان (☺: قَالَ النَّبِيُّ صلعم : مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ) بإضافة بئر إلى رُوْمة _بضم الراء وسكون الواو وبالميم_ علم صاحب البئر، وهو رومةُ الغفاريُّ.
          وقال ابن بَطَّال: بئرُ رومة كانت ليهوديٍّ، وكان يقفل عليها بقفلٍ ويغيب، فيأتي المسلمون ليشربوا منها فلا يجدونه حاضراً فيرجعون بغير ماءٍ، وليس بالمدينة حين قدمَ رسول الله صلعم المدينة ماء يُستعذب غير بئر رُومة، فشكى المسلمون ذلك للنَّبي صلعم فقال صلعم : ((مَنْ يَشتري بئر رُومة)).
          (فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلاَءِ الْمُسْلِمِينَ) أي: يوقفها ويمنحها للمسلمين، ويكون حظُّه ونصيبه فيها كحظِّ غيره من المسلمين من غير مزيَّة فله الجنَّة.
          (فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ) ☺، وفي رواية: <من يشتري بئر رُومة يجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين بخيرٍ منها في الجنَّة فاشتريتها من صلب مالي>، وهي بئرٌ معروفةٌ بمدينة النَّبي صلعم اشتراها عثمان ☺ بخمسة وثلاثين ألف درهمٍ فوقفها.
          وزعم الكَلْبيُّ أنَّه كان قبل أن يشتريَها عثمان ☺ يشتري كلَّ قربةٍ منها بدرهمٍ، وظاهر قوله صلعم : ((فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين)) أنَّ له الانتفاع إذا شرطه، ولا شكَّ أنَّه إذا جعلها للسُّقاة وحبسها على مَنْ يشرب أنَّ له الشُّرب وإن لم يشترط؛ لدخوله في جملتهم.
          وفيه: جواز بيع الآبار، وفيه: جواز الوقف على نفسه، ولو وقف على الفقراء، ثمَّ صار فقيراً جاز أخذه منه، / ثمَّ هذا التَّعليق سقط من رواية النَّسفي؛ وقد وصله التِّرمذي قال: حدَّثنا عبد الله بن عبد الرَّحمن قال: أنا عبد الله بن جعفرٍ الرِّقِّي قال: حَدَّثَنَا عبد الله بن عَمرو، عن زيد _هو: ابن أبي شَيْبة_ عن أبي إسحاق عن أبي عبد الرَّحمن السُّلَمي، قال: لمَّا حضر عثمان ☺ أشرف عليهم فوق داره، ثمَّ قال: أذكركم بالله هل تعلمون أنَّ حراء حين انتفضَ قال رسول الله صلعم : ((أثبت حراء فليس عليك إلَّا نبيٌّ أو صديق أو شهيدٌ)) قالوا: نعم قال: أذكركم بالله هل تعلمون أنَّ رسولَ الله صلعم قال في جيش العسرة: ((مَنْ يُنفق نفقة متقبَّلة)) والنَّاس مُجهَدون مُعسَرون فجهَّزت ذلك الجيش، قالوا: نعم، قال: أذكركم بالله هل تعلمون أنَّ بئر رومة لم يكن يشربُ منها أحدٌ إلَّا بثمنٍ فابتعتها، فجعلتُها للغنيِّ والفقير وابن السَّبيل، قالوا: اللَّهمَّ نعم. وأشياء عدُّوها.
          ثمَّ قال التِّرمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه من حديث أبي عبد الرَّحمن السُّلَمي عن عثمان ☺. وقد أخرجه التِّرمذي أيضاً والنَّسائي وابن خُزيمة من طريق ثمامة بن حَزْب _بفتح المهملة وسكون الزاي_ القشيريِّ قال: شهدتُ الدَّار حيث أشرف عليهم عثمان ☺ فقال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أنَّ رسول الله صلعم قدم المدينة وليس بها ماءٌ يُستعذب غير بئر رُومة فقال: ((مَنْ يشتري بئر رُومة يجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين بخيرٍ منها في الجنَّة)) فاشتريتها من صلب مالي قالوا: اللهمَّ نعم. الحديث.
          وقد أخرجه البخاريُّ في كتاب «الوقف» [خ¦2778] بغير هذا السِّياق، وليس فيه ذكر الدَّلو، والذي ذكره هنا مطابقٌ للتَّرجمة، والله أعلم.