نجاح القاري لصحيح البخاري

باب القطائع

          ░14▒ (بابُ الْقَطَائِعِ) / جمع: قطيعة، من أقطعه الإمام أرضاً ملَّكه فيتملك ويستبدُّ به وينفرد، والإقطاع يكون تمليكاً وغيرَ تمليك، والمرادُ هنا: ما يخصُّ به الإمام بعض الرعيَّة من الأرض الموات، فيختصُّ به ويصير أولى بإحيائه ممَّن له سُبْقٌ بإحيائه.
          وحكى القاضي عياضٌ أنَّ الإقطاع تسويغ الإمام من مال الله ╡ شيئاً لمَنْ يراه أهلاً لذلك. قال: وأكثر ما يستعمل في الأرض، وهو أن يُخِرجَ منها لمَنْ يراه ما يحوزه، إمَّا بأن يملِّكه إيَّاهُ فيعمِّرَه، وإمَّا بأن يجعل له غلَّته مدَّةً، انتهى.
          قال السُّبكي: والثَّاني هو الذي يسمَّى في زماننا هذا إقطاعاً، ولم أر أحداً من أصحابنا ذكره، وتخريجه على طريقٍ فقهيٍّ مشكل. قال: والذي يظهر أنَّه يحصل للمُقطَع بذلك اختصاصٌ كاختصاص المتحَجِّر، ولكنَّه لا يملك الرقبة بذلك، انتهى. وبهذا جزم المحبُّ الطَّبري.
          وادَّعى الأَذْرُعيُّ نفي الخلاف في جواز تخصيص الإمام بعض الجند بغلَّة أرضٍ إذا كان مستحقًّا لذلك، وقال العينيُّ: في صورةِ التَّمليك يملك الذي أُقطِع له، وهو الذي يُسمَّى المُقطَع له رقبة الأرض فيصير ملكاً له يتصرَّف فيه تصرُّف الملَّاك في أملاكهم، وفي صورةِ جَعْلِ الغلة له لا يملك إلَّا منفعة الأرضِ دون رقبتها، فعلى هذا يجوزُ للجندي الذي يُقطَعُ له أن يُؤجِّرَ ما أُقطِع له؛ لأنَّه يملك منافعها وإن لم يملك رقبتها، وله نظائر في الفقه:
          منها: أنَّه إذا وقعتِ المصالحة على خدمة عبد سنة كان للمصالح أن يؤجره، ومعلومٌ أنَّه لا يملك رقبته، وإنَّما يملك منفعته، ومنها: أنَّ المستأجر يملك إجارة ما استأجره وإن كان لا يملك إلَّا المنفعة، ومنها: أنَّ الواقف إذا جعل غلَّة الوقف لفلانٍ فله أن يؤجره في الصَّحيح ذكره في «المحيط»، ومنها: أنَّ أمَّ الولدِ يجوز لسيِّدها أن يؤجرها مع أنَّه لا يملك منها سوى منفعتها، فإذا جازتْ له الإجارةُ تجوز له المزارعة أيضاً؛ لأنَّ القرى والأراضيَ في الممالك الإسلامية لا يمكن أن ينتفعَ بها إلَّا بالكراء والزراعة ومباشرة أعمال الفلاحة من السقي والحصاد والدياس والتذرية وغير ذلك من الأمور التي يتوقف عليها الاستغلال، وذلك لا يحصل إلَّا بالمزارعة عليها، أو بإيجارها لمن يقوم بهذه الأعمال فإنَّ الجند لا يقدرون على / القيام بذلك بأنفسهم، إذ لو أُمِرُوا بذلك لصاروا أكرةً، وتعطَّل المعنى المطلوب منهم وهو القيام بما أُعِدُّوا له من مصالح المسلمين، وهي قتال أعداء الإسلام، وردع المفسدين، وقمع الخارجين، وصون الأموال والأنفس من السرَّاق واللصوص وقطَّاع الطريق، وحفظُ مراصدِ الطُّرقات، ومواطن المرابطات، فمتى اشتغل الجند بذلك تفوت تلك المصالح، كما قال أصحابُنا في رزق القاضي: إنَّه إذا كان فقيراً فالأفضل له بل الواجب عليه الأخذ؛ لأنَّه متى اشتغل بالكسب أُقعِد عن إقامة فرض القضاء، فإذا كان الأمر كذلك يجوز لهم الانتفاع بالذي يُقطَع لهم بالإجارة أو المزارعة، فبأيِّهما تمكَّن الجندي فعل، فأمَّا الزراعة فعلى قول الصاحبين فإنَّها في معنى الإجارة، فيزارع الجنديُّ على قولهما بالشروط التي حرِّرت في كتب الفقه، والله تعالى أعلم.