نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: احتجم النبي وأعطى الحجام أجره، ولو علم كراهة لم يعطه

          2279- (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) هو: ابنُ مُسَرْهَدٍ، قال: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) مصغَّر زرع (عَنْ خَالِدٍ) الحَذَّاءِ (عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ ) أنَّه (قَالَ: احْتَجَمَ / النَّبِيُّ صلعم وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَلَوْ عَلِمَ كَرَاهِيَةً لَمْ يُعْطِهِ) أي: ولو علم النَّبي صلعم كراهية أجرِ الحجَّام لم يعطه أجره، ولفظه في كتاب ((البيوع))، في باب ((ذكر الحجام)) [خ¦2103]: ((ولو كان حراماً لم يعطه)) يدلُّ على أنَّ المراد بالكراهية هنا كراهية التحريم، وكأنَّ ابن عباس ☻ أشار بذلك إلى الردِّ على مَنْ قال: إنَّ كسب الحجام حرام.
          وقد اختلف العلماء بعد ذلك في هذه المسألة، فذهب الجمهورُ إلى أنَّه حلالٌ واحتجُّوا بهذا الحديث، وقالوا: هو كسبٌ فيه دناءةٌ وليس بمحرمٍ، فحملوا الزَّجر عنه على التَّنزيه، ومنهم من ادَّعى النسخ وأنَّه كان حراماً ثمَّ أبيح، وجنح إلى ذلك الطَّحاويُّ والنَّسخ لا يثبت بالاحتمال، وذهب أحمد وجماعةٌ إلى الفرق بين الحرِّ والعبد، فكرهوا للحرِّ الاحتراف بالحجامة ويحرم عليه الإنفاق على نفسهِ منها، ويجوز له الإنفاق على الرَّقيق والدَّواب منها، وأباحوها للعبد مطلقاً وعمدتهم حديث محيصة أنَّه سأل النَّبي صلعم عن كسب الحجَّام فنهاه، فذكر له الحاجة فقال: ((اعلفْه نواضحَك))، أخرجهُ مالك وأحمد وأصحاب السنن، ورجاله ثقاتٌ.
          وذكر ابن الجوزيِّ: أنَّ أجر الحجَّام إنَّما كره؛ لأنَّه في الأشياء التي يجب للمسلم على المسلم إعانته عند الاحتياج فما كان ينبغي له أن يأخذَ على ذلك أجراً.
          وجمع ابنُ العربي بين قوله صلعم : ((كسبُ الحجَّام خبيثٌ)) وبين إعطائه الحجَّام أُجْرته بأنَّ محل الجواز ما إذا كان الأجر على عملٍ معلوم، ومحلُّ الزَّجر ما إذا كان على عملٍ مجهولٍ، وفي الحديث: إباحة الحجامةِ ويلتحق به ما يتداوى به من إخراج الدم وغيره. وسيأتي مزيدٌ لذلك في كتاب ((الطِّب)) [خ¦5700] إن شاء الله تعالى.
          وفيه أيضاً: جواز أخذ الأجرةِ على المعالجة بالطِّب، وجواز الشَّفاعة إلى أصحاب الحقوق أن يخفِّفوا عنها، كما وقع في بعضِ طُرق الحديث، كما مرَّ، وجواز مخارجة السيِّد لعبده كأن يقول له: أذنت لك أن تكتسب (1) / على أن تعطيني كلَّ يومٍ كذا، وما زاد فهو لك.
          وفيه: استعمال العبد بغير إذن سيِّده الخاصِّ إذا كان قد تضمَّنَ تمكينه من العمل إذنه العام.


[1] في (خ): ((تكسب)).