نجاح القاري لصحيح البخاري

باب من استأجر أجيرًا فبين له الأجل ولم يبين العمل

          ░6▒ (بابٌ) بالتنوين (إِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فَبَيَّنَ لَهُ الأَجَلَ وَلَمْ يُبَيِّنِ الْعَمَلَ) أي: بين للأجير المدَّة ولم يبين له أيَّ عملٍ يعمله له، وفي رواية أبي ذرٍّ: <باب من استأجر أجيراً> وجواب إذا أو من محذوف تقديره هل يصحُّ ذلك أو لا؟ وقد مال البخاريُّ إلى الصحة؛ لأنَّه احتجَّ لذلك فقال: (لِقَوْلِهِ تَعَالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ}) أي: أزوِّجك({إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي}) أي: على أن تكون أجيراً لي ({ثَمَانِيَ حِجَجٍ}) أي: ثماني سنين من أجرته إذا كنت له أجيراً كقولك: أَبَوْته إذا كنت له أباً، و{ثَمانِيَ حِجَجٍ} ظرفه، ويجوز أن يكون من أجرته كذا إذا أثبته إيَّاه، ومنه تعزية رسول الله صلعم : آجركم الله، ورحمكم الله، و{ثَمَانِيَ حِجَجٍ} مفعوله؛ أي: رعيه ثماني حجج.
          وقال الزَّمخشريُّ: فإن قلت: كيف جاز أن يمهرها إجارة نفسه في رعيه الغنم، ولا بدَّ / من تسليم ما هو مالٌ ألا ترى إلى أبي حنيفة كيف منع أن يتزوَّج امرأةً بأن يخدمها سنة، وجوَّز أن يتزوَّجها بأن يخدمها عبده سنة أو يسكنها داره سنةً؛ لأنَّه في الأول: سلَّم نفسه وليس بمالٍ، وفي الثَّاني: هو مسلم مالاً وهو العبد أو الدَّار. قلت: الأمر على مذهب أبي حنيفة كما ذكرت، وأمَّا الشَّافعي فقد جوز التَّزوج على الإجارة ببعض الأعمال والخدمة إذا كان المستأجر له والمخدوم فيه أمراً معلوماً، ولعلَّ ذلك كان جائزاً في تلك الشَّريعة، ويجوز أن يكون المهر شيئاً آخر، وإنَّما أراد أن يكون رعى غنمه هذه المدَّة، وأراد أن ينكحه ابنته فذكر له المرادين، وعلَّق الإنكاح بالرَّعية على معنى أنِّي أفعل هذا إذا فعلت ذلك على وجه المعاهدة لا على وجه المعاقدة.
          ويجوز أن يستأجره لرعي غنمه ثماني سنين بمبلغٍ معلومٍ ويوفيه إيَّاه ثمَّ ينكحه ابنته به، ويجعل قوله: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} عبارة عمَّا جرى بينهما.
          ({فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً}) أي: عمل عشر سنين ({فَمِنْ عِنْدِكَ}) أي: فإتمامه من عندك لا من عندي يعني: لا ألزمك إيَّاه ولا أُحَتِّمُهُ عليك، ولكن إن فعلته فهو منك تفضُّل وتبرعٌّ وإلا فلا عليك.
          ({وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ}) في هذه المدَّة فأكلِّفك ما يصعب عليك ({سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27]) في حسن العشرة والوفاء بالعهد، وهذا شرطٌ للأب وليس بصداق. وقيل: صداق، والأول أظهر لقوله: {تَأْجُرَنِي} ولم يقل تأجرها، وإنَّما قال: {إِنْ شَاءَ اللهُ} للاتِّكال على توفيقه ومعونته.
          ({قَالَ}) أي: موسى لشُعَيْبٍ ╨ ({ذَلِكَ}) إشارةٌ إلى ما عاهده عليه ({بَيْنِي وَبَيْنَكَ}) مبتدأ وخبر ({أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ}) أي: أيُّ أجل من الأجلين أطولهما الذي هو العشر أو أقصرهما الذي هو ثمان ({قَضَيْتُ})أي: أوفيتك وفرغت من العمل فيه ({فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ}) أي: لا سبيل عليَّ، والمعنى لا تعتد عليَّ بأن تلزمني أكثر منه / ({وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28]) أي: على ما نقول من النِّكاح والأجر والإجارة حفيظٌ وشاهد، ولمَّا استعمل {وَكِيلٌ} في موضع الشَّاهد عُدِّيَ بعلى.
          ورُوِيَ عن ابن عبَّاس ☻ مرفوعاً: ((سئل جبريل ◙ أيُّ الأجلين قضى موسى ◙؟ فقال: أتمها وأكملها)).
          (يَأْجُرُ فُلاَناً: يُعْطِيهِ أَجْراً) وهذا تفسير من البخاري لقوله: ((يأجُر)) بضم الجيم، وبهذا فسَّره أبو عبيدة في «المجاز» وتعقَّبه الإسماعيليُّ بأنَّ معنى الآية في قوله: {تَأْجُرَنِي} أي: تكون لي أجيراً والتَّقدير على أن تؤجر في نفسك.
          (وَمِنْهُ) أي: ومن هذا المعنى قولهم: (فِي التَّعْزِيَةِ: أَجَرَكَ اللَّهُ) هو بالمد والقصر، والقصر أشهر أي: يعطيك أجراً، وهكذا فسَّره أبو عبيدة أيضاً وزاد: ((يأجرك)) أي: يثبتك وكأنَّه نظرٌ إلى أصل المادة وإن كان المعنى في الأجر والأجرة مختلفاً، ووجه دلالة الآية على المطلب أنَّه لم يقع في سياق القصة المذكورة ذكر العمل، وإنَّما فيه أنَّ موسى ◙ آجر نفسه من والد المرأتين.
          قال الزَّمخشريُّ: فإن قلت: كيف يصحُّ أن ينكحه إحدى ابنتيْه من غير تمييزٍ؟ قلت: لم يكن ذلك عقد النِّكاح ولكن مواعدة ومواضعة أمرٍ قد عزم عليه، ولو كان عقداً لقال: قد أنكحتك، ولم يقل: إنِّي أريد أن أنكحك، انتهى.
          وحاصله: أنَّ شُعَيْباً ◙ استأجر موسى ◙، ولم يبيِّن له العمل أولاً ولكن بيَّن له الأجل، فدلَّ ذلك أنَّ الإجارة إذا بيَّن فيها المدة ولم يبيِّن العمل جازت لكن هذا في موضع يكون نفس العمل معلوماً بنفس العقد كاستئجار العبد للخدمة، وأمَّا إذا لم يكن نفس العمل معلوماً بنفس العقد فلا تجوز إلَّا ببيان العمل؛ لأنَّ الجهالة فيه تفضي إلى المنازعة.
          وقال المُهَلَّبُ: ليس في الآية دليلٌ على جهالة العمل في الإجارة؛ لأنَّ ذلك كان معلوماً بينهم من سقي وحرثٍ ورعي واحتطاب وما شاكل ذلك من أعمال البادية ومهنة أهلها فهذا متعارفٌ، وإنَّما حذف ذكره للعلم به، وقد عرَّفه المدة وسمَّاها له، انتهى.
          وتعقَّبه ابن المنيِّر بأنَّ البخاري لم يَرِدِ جواز / أن يكون العمل مجهولاً، وإنَّما أراد أنَّ التَّنصيص على العمل باللفظ ليس مشروطاً، وأنَّ المُتَّبَعَ المقاصد لا الألفاظ.
          ويحتمل أن يكون المصنف أراد أن يشير إلى حديث عتبة بن النُّدُّرِ _بضم النون وتشديد المهملة_ قال: كنَّا عند رسول الله صلعم فقال: ((إنَّ موسى ◙ أجَّر نفسه ثمان سنين أو عشراً على عفة فرجه وطعام بطنه)) أخرجه ابنُ ماجه، وفي إسناده ضعفٌ، وليس فيه بيان العمل من قبل موسى ◙.
          قال الذَّهبيُّ: عتبة بن النُّدر السُّلميُّ صحابيٌ يقال: هو عتبة بن عبدٍ السُّلميُّ وليس بشيءٍ، روى عنه عليُّ بن رباح وخالد بن معدان.
          تتمة: وأمَّا حكم النِّكاح على عمل البدن، فلا يجوز عند أهل المدينة؛ لأنَّه غرر، وما وقع من النِّكاح على مثل هذا الصَّداق لا يعمل به اليوم لظهور الغرر في طول المدَّة، وهو مخصوصٌ لموسى ◙ عند أكثر العلماء؛ لأنَّه قال: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27] ولم يعينها وهذا لا يجوز.
          وقد اختلف العلماء في ذلك فقال مالكٌ: إذا تزوَّجها على أن يؤجرها نفسه سنة أو أكثر يفسخ النِّكاح إن لم يكن دخل بها فإن دخل ثبت النِّكاح بمهر المثل. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن كان حرًّا فلها مهر مثلها، وإن كان عبداً فلها خدمة سنة، وبه قال أحمد في رواية وقال محمد: يجب عليه قيمة الخدمة سنة؛ لأنَّها متقوَّمة.
          وقال الشَّافعي: النِّكاح جائزٌ على خدمته إذا كان وقتاً معلوماً، وكذلك الخلاف إذا تزوَّجها على تعليم القرآن. وقال الكرمانيُّ: فإن قلت: ما الفائدة في عقد هذا الباب إذا لم يذكر فيه حديثاً؟ قلت: البخاري كثيراً ما يقصد بالتَّراجم بيان المسائل الفقهية، فأراد هنا بيان جواز مثل هذه الإجارة، والله أعلم.