نجاح القاري لصحيح البخاري

باب استئجار الرجل الصالح

          ░1▒ (بابُ اسْتِئْجَارِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ. وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على قوله: استئجار الرَّجل الصَّالح، وفي رواية أبي ذرٍّ: <وقال الله تعالى> ({إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]) وأشار بذلك إلى قصَّة موسى ╕ وهي على طريقة الاختصار: أنَّه لمَّا قتل موسى ╕ القبطيَّ كما أخبر الله تعالى في القرآن: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15] {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:18] الأخبار وأمر فرعون الذبَّاحين بقتل موسى، فجاءه رجلٌ من شيعته يقال له: خربيل وكان قد آمن بإبراهيم ╕ وصدَّق موسى ╕، وكان ابن عمِّ فرعون وقال له: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أي: يتشاورون في قتلك {فَاخْرُجْ} من هذه المدينة {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] فخرج ولم يدر أين ذهب، فجاءه ملكٌ ودلَّه على الطَّريق فهداه إلى مدين، وبينها وبين مصر ثمانية أيام، وكان يأكلُ من ورق الشَّجرة ويمشي حافياً حتَّى ورد ماء مدين ونزل عند البئر، وإذا بجنبه {أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} أي: تمنعان أغنامهما عن الاختلاط بأغنام النَّاس فقال لهما: {مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} لأنَّا ضعفاء لا نقدر على مزاحمتهم {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] تعنيان شعيباً ╕، وهو المشهور عند الجمهور. وذكر ابن جرير اختلافاً في أنَّه شعيب النَّبي ╕ أو ابن أخيه أو آخر اسمه: يثرون بن صيفون، أو يثرى، أقوال، ولم يرجح منها شيئاً.
          وذكر السُّهيليُّ: أنَّ شعيباً عليه هو: يثرون بن صيفون بن مدين بن إبراهيم ◙، ويقال: شعيب بن ملكائين، وقيل: يثرون هو: ابن أخي شعيب ◙، وقيل: ابن عم شعيب ◙، فسقى غنمهما لأجلهما.
          روي أنَّ الرُّعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجراً لا يقله إلَّا سبعة رجالٍ، وقيل: / عشرة، وقيل: أربعون وقيل: مائة، فأقله وحده.
          وروي أنَّه سألهم دلواً فأعطوه دلوهم، وقالوا: استق به، وكانت لا ينزعها إلَّا أربعون، فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا بالبركة وروى غنمهما وأصدرها، وروي: أنَّه دفعهم عن الماء حتَّى سقى لهما، وقيل: كانت بئراً أخرى عليها الصَّخرة وإنَّما فعل هذا رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف.
          {ثُمَّ تَوَلَّى} إلى ظلِّ سمرة {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} قليل أو كثير، غث أو سمين {فَقِيرٌ} [القصص:24]، قال ذلك لما أصابه من الجوع بحسب البشريَّة. يقال: إنَّ خضرة البقل تترائى في بطنه من الهزال {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] أي: مستحيية متخفِّرة، وقيل: قد استترت بكم درعها.
          {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] روي أنَّهما لمَّا رجعتا إلى أبيهما قبل النَّاس وأغنامهما حفل بطان، قال لهما: ما أعجلكما، قالتا وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا، فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي، فتبعها موسى فألزقت الرِّيح ثوبها بجسدها فوصفته، فقال لها: امشي خلفي، وانعتي لي الطَّريق.
          {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25] فلا سلطان لفرعون بأرضنا، وقدَّم إليه الطَّعام فامتنع وقال: إنَّا أهل بيتٍ لا نبيع ديننا بطلاع الأرض (1) ذهباً، ولا نأخذ على المعروف ثمناً حتَّى قال شعيب ╕: هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا.
          {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} هي كبراهما كانت تسمَّى صفراء وهي التي تزوَّجها، واسم أختها لَيَّا، وقيل: إنَّ اسمهما صَفوراء وعبراء وأنَّهما كانتا توأماً.
          {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] أي: قويٌّ فيما ولي، أمين على ما استودع كذا روي من طريق عليِّ بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس ☻ . وعنه ☻ : أنَّ شعيباً ╕ أحفظته الغيرة؛ أي: أغضبته فقال: وما علمك بقوَّته وأمانته؟ فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو، وأنَّه صوَّب رأسه وغضَّ طرفه / حين بلَّغته رسالته، وأمرها بالمشي خلفه ودلالته على الطَّريق بالنَّعت.
          وقد أخرجه البيهقيُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن عمر بن الخطَّاب ☺ وزاد فيه: فزوَّجه وأقام موسى ╕ معه يكريه، ويعمل له في رعاية غنمه، {قَالَ} أي: شعيب ╕: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27] إلى آخر الآية، وكان في شرعهم يجوز تزويج الأَمَةِ على رعي الغنم، وأمَّا في شرعنا ففيه اختلافٌ مشهور بين الحنفية والشَّافعية في التَّجويز وعدمه، والله أعلم.
          (وَالْخَازِنِ الأَمِينِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَنْ أَرَادَهُ) هذا أيضاً من جملة التَّرجمة وهو جزآن:
          أحدهما: قوله: والخازن الأمين. والثَّاني: قوله: ومن لم يستعمل مَنْ أراده.
          وقد ذكر بَعْدُ لكلِّ واحدٍ منهما حديثاً، ومعنى من لم يستعمل من أراده الإمام الذي لم يستعمل الذي أراد العمل؛ لأنَّ الذي يريده يكون لحرصه فلا يؤمن عليه.


[1] في هامش الأصل: طلاع الأرض ملأها. منه.