إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث أم قيس: أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل

          223- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ (قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) إمام الأئمَّة (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهريِّ (عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) بتصغير الأوَّل (ابْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود ☺ (عَنْ أُمِّ قَيْسٍ) بفتح القاف وسكون المُثنَّاة التَّحتيَّة، وذكرها الذَّهبيُّ في «تجريده» في «الكنى»، ولم يذكر لها اسمًا، وعند ابن عبد البر: اسمها: جُذامة، بالجيم وبالذَّال المُعجَمَة، وعند السُّهيليِّ: آمنة (بِنْتِ) ولأبي الوقت والأَصيليِّ: ”ابنة“ (مِحْصَنٍ) بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصَّاد المُهمَلتين آخره نون، وهي أخت عكاشة بن مِحْصَنٍ، وهي من السَّابقات المُعمِّرات، ولها في «البخاريِّ» حديثان (أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا) ذكرٍ (صَغِيرٍ) بالجرِّ صفة «ابن» لقوله: (لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ) لعدم قدرته على مضغه ودفعه لمعدته (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم ، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم فِي حَـِجْرِهِ) بكسر الحاء وفتحها وسكون الجيم (فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ) أي: ثوب النبيِّ صلعم (فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ) أي: رشَّه بماء عمَّه وغلبه من غير سيلانٍ، كما يدلُّ عليه قوله: (وَلَمْ يَغْسِلْهُ) لأنَّه لم يبلغ الإسالة، وقد ادَّعى الأَصيليُّ أنَّ قوله: «ولم يغسله» من كلام ابن شهابٍ، وليس من المرفوع، والفاءات الأربعة في قوله: «فأجلسه» «فبال» «فدعا بماءٍ» «فنضحه» للعطف بين الكلام(1) بمعنى التَّعقيب(2)، ومراده بـ «الصَّغير» هنا: الرَّضيع بدليل قوله: «لم يأكل»، وعبّر بـ «الابن» دون الولد لأنَّ الابن لا يُطلَق إلَّا على الذَّكر، بخلاف الولد فإنه يطلق عليهما، والحكم المذكور إنَّما هو للذَّكر لا لها، ولا بدَّ في بولها من الغسل على الأصل، وقد / روى ابن خزيمة والحاكم وصحَّحاه: «يغسل من بول الجارية، ويرشُّ من بول الغلام»، وفرَّق بينهما بأنَّ الائتلاف بحمل الصَّبي أكثر فخفَّف في بوله، وبأنَّه(3) أرقُّ من بولها، فلا يلصق بالمحلِّ لصوقَ(4) بولها به(5)، ولأنَّ بولها بسبب استيلاء الرُّطوبة والبرودة على مزاجها أغلظ وأنتن، ومثلها الخنثى، كما جزم به في «المجموع»، ونقله في «الرَّوضة» عن البغويِّ، وأفهم قوله: «لم يأكل الطعام» أنَّه لا يمنع النَّضح تحنيكه بتمر ونحوه، ولا تناوله(6) السَّفُوف ونحوه للإصلاح، وممَّن قال بالفرق: عليُّ بن أبي طالبٍ، وعطاءُ بن أبي رباحٍ، والحسن، وأحمد ابن حنبل، وابن رَاهُوْيَه، وابن وهب من المالكيَّة(7)، وذهب أبو حنيفة ومالكٌ ► إلى عدم الفرق بين الذَّكر والأنثى، بل قالا بالغسل فيهما مطلقًا، سواء أكلا الطَّعام أم لا، واستدلَّ لهما بأنَّه ╕ نضح، والنَّضح هو الغسل؛ لقوله ╕ في المذي: «فلينضح فرجه» رواه أبو داود وغيره من حديث المقداد، والمُرَاد به: الغسل، كما وقع التَّصريح به في «مسلمٍ»، والقصَّة واحدةٌ كالرِّاوية، ولحديث أسماء في غسل الدَّم: «وانضحيه»، وقد ورد الرَّشُّ وأُريد به: الغسل، كما في حديث ابن عبَّاسٍ ☻ في «الصَّحيح» [خ¦140] لمَّا حكى الوضوء النَّبويَّ: أخذ غرفة من ماءٍ ورشَّ(8) على رجله اليمنى حتَّى غسلها، وأراد بـ «الرِّشِّ» هنا: الصَّبَّ قليلًا قليلًا، وتأوَّلوا قوله: «ولم يغسله» أي: غسلًا مبالغًا فيه بالعرك(9)، كما تُغسَل الثِّياب إذا أصابتها النَّجاسة، وأُجيب‼ بأنَّ النَّضح ليس هو الغسل، كما دلَّ عليه كلام أهل اللُّغة، ففي «الصِّحاح» و«المُجمَل» لابن فارس و«ديوان الأدب» للفارابيِّ و«المنتخب» لكُراعٍ، و«الأفعال» لابن طريفٍ(10)، و«القاموس» للفَيْرُوزَابادي: النَّضح: الرشُّ، ولا نسلِّم أنَّه في حديث المقداد وأسماء بمعنى: «الغسل»، ولئن سلَّمناه فبدليلٍ خارجيٍّ، واستدلَّ بعضهم بقوله: «ولم يغسله» على طهارة بول الصَّبيِّ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثورٍ، وحُكِي عن مالكٍ والأوزاعيِّ، وأمَّا حكايته عن الشَّافعيِّ فجزم النَّوويُّ بأنَّها باطلة قطعًا، فأيَّده(11) مجموع الصِّغار الذين حصل منهم بولٌ عليه صلعم : الحسن والحسين وعبد الله بن الزبير وابن أمِّ محصنٍ وسليمان(12) بن هشام ♥ ، قاله الذَّهبيُّ رحمة الله عليه(13).
          ورواة هذا الحديث الخمسة ما بين تِنِّيسيٍّ ومدنيٍّ، وفيه: التَّحديث والإخبار والعنعنة.


[1] زيد في (م): «والتعقيب».
[2] في (ص): «التَّعيُّب»، وهو تحريفٌ.
[3] في (م): «لأنَّه».
[4] في (س): «كلصوق».
[5] «به»: سقط من (س).
[6] في (د) و(ج): «تناول»، وفي (ص) و(م): «بتناوله».
[7] «المالكيَّة»: سقط من (ص).
[8] في (د): «فرشَّ».
[9] في غير (د): «بلعرك».
[10] في (م): «ظريف»، وهو تصحيفٌ.
[11] في (د): «فائدة»، وهو تصحيفٌ.
[12] في (د): «سلمان»، وهو تصحيفٌ.
[13] قوله: «فأيَّده مجموع الصِّغار الذين حصل منهم... قاله الذَّهبيُّ رحمة الله عليه» مثبتٌ من (م).