إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: حفظت من رسول الله وعاءين

          120- وبه قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) بن أبي أويسٍ (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالتَّوحيد، وللأَصيليِّ: ”حدَّثنا“ (أَخِي) عبد الحميد بن أبي أويسٍ (عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ) محمَّد بن عبد الرَّحمن السَّابق قريبًا (عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ) بضمِّ المُوحَّدَة (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ أنَّه (قَالَ: حَفِظْتُ‼ عِنْ رَسُولِ اللهِ صلعم ) وفي رواية الكُشْمِيْهَنِيِّ: ”من“ بدل ”عن“، وهي أصرح في تلقِّيه مِنَ(1) النَّبيِّ صلعم بلا واسطةٍ (وِعَاءَيْنِ) بكسر الواو والمدِّ، تثنية وعاءٍ، وهو من باب ذكر المحلِّ وإرادة الحالِّ، أي: نوعين من العلم (فَأَمَّا أَحَدُهُمَا) أي: أحد ما في الوعاءين من نوعيِ العلم (فَبَثَثْتُهُ) بمُوحَّدَةٍ مفتوحة ومُثلَّثتين بعدهما مُثنَّاةٌ فوقيَّةٌ، ودخلته «الفاء» لتضمُّنه معنى الشَّرط، أي: نشرته، زاد الإسماعيليُّ(2): «فبثثته في النَّاس» (وَأَمَّا) الوعاء (الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ) أي: نشرته في النَّاس (قُطِعَ) وفي روايةٍ: ”لَقُطِعَ“ (هَذَا البُلْعُومُ) بضمِّ المُوحَّدَة، مرفوعٌ لكونه ناب عن الفاعل، وكنَّى به عن القتل، وزاد في رواية ابن عساكر والأَصيليِّ وأبي الوقت وأبي ذَرٍّ عن(3) المُستملي: ”قال أبو عبد الله“ أي: البخاريُّ: ”البلعوم: مجرى الطعام“، أي: في الحلق، وهو المريء، قاله القاضي والجوهريُّ وابن الأثير، وعند الفقهاء: الحلقوم: مجرى النَّفَس خروجًا ودخولًا، والمريء: مجرى الطَّعام والشَّراب، وهو تحت الحلقوم، والبلعوم تحت الحلقوم، وأراد بالوعاء الأوَّل: ما حفظه من الأحاديث، وبالثَّاني: ما كتمه من أخبار الفتن وأشراط السَّاعة، وما أخبر به الرَّسول ╕ من فساد الدِّين على يدي أغيلمةٍ من سفهاء قريشٍ، وقد كان أبو هريرة يقول: لو شئت أن أسمِّيَهم لَسمَّيتهم، أوِ المُرَاد: الأحاديث التي فيها تبيين أسماء أمراء الجور وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكنِّي عن بعض ذلك ولا يصرِّح خوفًا على نفسه منهم؛ كقوله: أعوذ بالله من رأس السِّتِّين وإمارة الصِّبيان، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنَّها كانت سنة ستِّين من الهجرة، واستجاب الله تعالى دعاء أبي هريرة، فمات قبلها بسنةٍ، وسيأتي ذلك مع مزيدٍ له في «كتاب الفتن» [خ¦7058] إن شاء الله تعالى، أوِ المُرَاد به: علم الأسرار المَصُون عن الأغيار، المختصُّ بالعلماء بالله تعالى من أهل العرفان والمُشاهَدَات والإتقان(4)، الذي هو نتيجة علم الشَّرائع، والعمل بما جاء به الرَّسول صلعم ، والوقوف عند ما حدَّهُ، وهذا لا يظفر به إلَّا الغوَّاصُّون في بحر المُجاهَدَات، ولا يسعد به إلَّا المصطَفَون(5) بأنوار المُشاهَدَات، لكن في كون هذا هو المُرَاد نظرٌ؛ من حيث إنَّه لو كان كذلك لَمَا وسع أبا هريرةَ كتمانه، مع ما ذكره من الآية الدَّالَّة على ذمِّ كتمان العلم لا سيَّما هذا الشَّأن الذي هو لبُّ ثمرة العلم(6)، وأيضًا فإنَّه نفى بثَّه على العموم من غير تخصيصٍ، فكيف يُستدَلُّ به لذلك؟ وأبو هريرة لم يكشف مستوره فيما أعلم، فمن أين علم أنَّ الذي كتمه هو هذا؟ فمن ادَّعى ذلك فعليه البيان، فقد ظهر أنَّ الاستدلال بذلك لطريق القوم فيه ما فيه، على أنَّهم في غنيةٍ عنِ الاستدلال؛ إذِ الشَّريعة ناطقةٌ بأدلَّتهم، ومن تصفَّح(7) الأخبار وتتبَّع الآثار مع التَّأمُّل والاستنارة بنور الله ظهر له ما قلته، والله يهدينا إلى سواء السَّبيل.


[1] في (د): «عن».
[2] في (ب) و(س): «الأَصيلي»، وهو خطأٌ.
[3] في (ب) و(س): «و»، وهو خطأٌ.
[4] في (ص): «الايقان».
[5] في (ص): «المصفون».
[6] قوله: «لا سيَّما هذا الشَّأن الذي هو لبُّ ثمرة العلم» سقط من (م).
[7] في (ص): «تصحف»، وهو تحريفٌ.