إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا

           ░4▒ (باب قَوْلِ / المُحَدِّثِ) أي: الذي يحدِّث غيره: (حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا) وللأَصيليِّ(1) وغيره: ”وأخبرنا“ (وَأَنْبَأَنَا)(2) هل بينها(3) فرقٌ أو الكلُّ واحدٌ؟ ولكريمة بإسقاط: «وأنبأنا»، وللأَصيليِّ بإسقاط: «وأخبرنا»(4)، وثبت الجميع في رواية أبي ذرٍّ (وقَالَ الحُمَيْدِيُّ) بضمِّ المُهمَلَة وفتح الميم فياءِ تصغيرٍ وياءِ نسبةٍ، أبو بكر(5) عبد الله بن الزُّبير المكِّيُّ، المذكور أوَّل الكتاب [خ¦1]: (كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ) سفيان، وللأَصيليِّ وكريمة: ”وقال لنا الحُمَيْدِيُّ“ وكذا ذكره أبو نعيمٍ في «المُستخرَج» فهو متَّصلٌ، وأفاد جعفر بن حمدان(6) النَّيسابوريُّ: أنَّ كلَّ ما في البخاريِّ من «قال لي فلانٌ» فهو عَرْضٌ أو(7) مناولةٌ (حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَسَمِعْتُ وَاحِدًا) لا فرق بين هذه الألفاظ الأربعة عند المؤلِّف(8) كما يعطيه قوَّة تخصيصه بذكره عن شيخه الحُمَيْدِيِّ من غير ذكر ما يخالفه، وهو مرويٌّ أيضًا عن مالكٍ، والحسن البصريِّ، ويحيى بن سعيدٍ القطَّان، ومُعظَم الكوفيِّين والحجازيِّين، وممَّن رواه أيضًا(9) عن مالكٍ: إسماعيلُ ابن أبي أُويسٍ، فإنَّه قال: إنَّه سُئِل عن حديثٍ أسماعٌ هو؟ فقال: منه سماعٌ، ومنه عَرْضٌ، وليس العرض عندنا بأدنى من السَّماع، وقال القاضي عياضٌ: لا خلاف أنَّه يجوز في السَّماع من لفظ الشَّيخ أن يقول السَّامع فيه: حدَّثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعته يقول، وقال لنا فلانٌ، وذكر لنا فلانٌ، وإليه مال الطَّحاويُّ، وصحَّح هذا المذهب ابنُ الحاجب، ونقل هو وغيره: أنَّه مذهبُ الأئمَّة الأربعة، ومنهم مَنْ رأى إطلاق ذلك؛ حيث يقرأ الشَّيخ من لفظه، وتقييده حيث(10) يقرأ عليه، وهو مذهب إسحاق بن رَاهُوْيَه، والنَّسائيِّ، وابن حبَّان، وابن منده، وغيرهم، وقال آخرون: بالتَّفرقة بين الصِّيغ بحسب افتراق(11) التَّحمُّل، فلِمَا سمعه من لفظ الشَّيخ: سمعت أو حدَّثنا، ولما قرأه على الشَّيخ: أخبرنا، والأَحْوَط: الإفصاح بصورة الواقع، فيقول إن كان قرأ: قرأت على فلانٍ، أو: أخبرنا بقراءتي عليه، وإن كان سمع: قرأ عليَّ فلانٌ وأنا أسمع، أو: أخبرنا فلانٌ قراءةً عليه وأنا أسمع، وأنبأنا ونبَّأنا _بالتَّشديد_ للإجازة التي يشافه بها الشَّيخ من يجيزه(12)، وهذا مذهب ابن جريجٍ، والأوزاعيِّ، وابن وهبٍ، وجمهور أهل المشرق، ثمَّ أحدث أتباعهم تفصيلًا آخر؛ فمن سمع وحده من لفظ الشَّيخ أَفردَ فقال: حدَّثني، ومن سمع مع غيره جَمَعَ فقال: حدَّثنا، ومن قرأ بنفسه على الشَّيخ أفرد فقال: أخبرني، ومن سمع بقراءة غيره جَمَعَ فقال: أخبرنا، وأمَّا «قال لنا» أو «قال لي» أو(13) «ذكر لنا» و«ذكر لي» ففيما سمع في(14) حال المُذاكَرَة، وجزم ابن منده بأنَّه للإجازة، وكذا قال أبو يعقوب الحافظ، وقال جعفر بن حمدان(15): إنَّه عَرْضٌ ومُناوَلَةٌ، قال في «فتح المغيث»: وهو على تقدير تسليمه منهم له حكم الاتِّصال أيضًا على رأي الجمهور، لكنَّه مردودٌ عليهم، فقد أخرج البخاريُّ في «الصَّوم» من «صحيحه» [خ¦1933] حديث أبي هريرة فقال: قال: «إذا نسي أحدكم فأكل أو شرب...»، فقال فيه: «حدَّثنا عبدان»، وأورده في «تاريخه» بصيغة: «قال لي عبدان»، وكذا(16) أورد حديثًا(17) في «التَّفسير» من «صحيحه» عن إبراهيم بن موسى بصيغة «التَّحديث» [خ¦4912] ثم أورده في «الأيمان والنُّذور» منه أيضًا بصيغة: «قال لي إبراهيم بن موسى» [خ¦6691] في أمثلةٍ كثيرةٍ، قال: وحقَّقه شيخنا باستقرائه لها أنَّه إنَّما يأتي بهذه الصِّيغة _يعني: بانفرادها_ إذا كان المتن ليس على شرطه في أصل موضوع كتابه، كأنْ يكون(18) ظاهره الوقف، أو في السَّند من ليس على شرطه في الاحتجاج، وذلك في المُتابَعات والشَّواهد، وإنَّما خصُّوا قراءة الشَّيخ بـ «حدَّثنا» لقوَّة إشعاره بالنُّطق والمُشافَهَة، وينبغي مُلاحَظَة هذا الاصطلاح لِئلَّا يختلط المسموع بالمُجَاز، قال الإسفراينيُّ: لا يجوز فيما قرأ أو سمع أن يقول: «حدَّثنا»، ولا فيما سمع لفظًا أن يقول: «أخبرنا» إذ بينهما فرقٌ ظاهرٌ، ومن لم يحفظ ذلك على نفسه كان من المدلِّسين.
          ثمَّ عطف المؤلِّف ثلاثةَ تعاليقَ يؤيِّد بها مذهبه في التَّسوية بين الصِّيغ الأربعة، فقال: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ) عبد الله ☺ : (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم وَهُوَ الصَّادِقُ) في نفس الأمر (المَصْدُوقُ) بالنِّسبة إلى الله تعالى، أو إلى النَّاس، أو بالنِّسبة إلى ما قاله غيره(19)، أي: جبريل له، وهذا طرفٌ من حديث وصله المؤلِّف في «القدر» [خ¦6594] (وَقَالَ شَقِيقٌ) بفتح المُعجَمَة، أبو وائلٌ السَّابق في «باب خوف المؤمن أن يحبط عمله» من «كتاب الإيمان» [خ¦48]: (عَنْ عَبْدِ اللهِ) أي: ابن مسعودٍ، وإذا / أُطلِق؛ كان هو المُراد من بين العبادلة (سَمِعْتُ النَّبِيَّ) ولأبي ذَرٍّ والأَصيليِّ: ”سمعت مِنَ النَّبيِّ“ ( صلعم كَلِمَةً) وهذا وصله المؤلِّف في «الجنائز» [خ¦1238] (وَقَالَ حُذَيْفَةُ) بن اليمان، صاحب سرِّ رسول الله صلعم في المنافقين، المُتوفَّى بالمدائن سنة ستٍّ وثلاثين، بعد قتل عثمان ☺ بأربعين ليلةً، ومقول قوله: (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم حَدِيثَيْنِ) وهذا وصله المؤلِّف في «الرِّقاق» [خ¦6497] وساق التَّعاليق الثَّلاثة تنبيهًا على أنَّ الصَّحابيَّ تارةً يقول: «حدَّثنا» وتارةً يقول: «سمعت»، فدلَّ على عدم الفرق بينهما.
          ثمَّ عطف على هذه الثَّلاثة(20) ثلاثةً(21) أخرى، فقال: (وَقَالَ أَبُو العَالِيَةِ) بالمُهمَلَة والمُثنَّاة التَّحتيَّة؛ هو رُفَيعٌ _بضمِّ الرَّاء وفتح الفاء_ ابن مِهران _بكسر الميم_ الرِّياحيُّ؛ بالمُثنَّاة التَّحتيَّة والحاء المُهمَلة، أسلم بعد موته صلعم بسنتين، وتُوفِّي سنة تسعين(22)، وقال العينيُّ _كالقطب الحلبيِّ_: هو البرَّاء؛ بتشديد الرَّاء نسبةً لبري النَّبل، واسمه: زياد بن فيروزٍ القرشيُّ البصريُّ، المُتوفَّى سنة تسعين، قال ابن حجرٍ: وهو وهمٌ؛ فإنَّ الحديث المذكور معروفٌ برواية الرِّياحيِّ دونه، وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يروي عن ابن عبَّاسٍ، وترجيح أحدهما على(23) الآخر في رواية هذا الحديث عن ابن عبَّاسٍ يحتاج إلى دليلٍ، وبأنَّ قوله: «فإنَّ الحديث المذكور معروفٌ برواية الرِّياحيِّ دونه» يحتاج إلى نقلٍ عن أحدٍ يُعتمَد عليه، وأجاب في «انتقاض الاعتراض»: بأنَّ المصنِّف وصله في «التَّوحيد» [خ¦7536] [خ¦7538] [خ¦7539] ولو راجعه العينيُّ من هناك لَمَا احتاج إلى طلب الدَّليل (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم فِيمَا يَرْوِي(24) عَنْ رَبِّهِ) ╡ (وَقَالَ أَنَسٌ) بن مالكٍ ☺ : (عَنِ النَّبِيِّ صلعم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ ╡ ) وللأَصيليِّ: ”فيما يرويه عن ربِّه“ (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ ╡ ) ولأبوَي ذَرٍّ والوقت: ”تبارك وتعالى“ بدلًا عن قوله: « ╡ »(25) بكاف الخطاب مع ميم الجمع، وهذه التَّعاليق الثَّلاثة وصلها المؤلِّف في «كتاب التَّوحيد» [خ¦7538] وأوردها هنا تنبيهًا على حكم المُعنعَن، والذي ذهب إليه هو وأئمَّة(26) جمهور المحدِّثين أنَّه موصولٌ إذا أتى عن رواةٍ مُسمَّين معروفين بشرط السَّلامة واللِّقاء، وهو مذهب ابن المدينيِّ وابن عبد البرِّ والخطيب وغيرهم، وعَزَاه النَّوويُّ للمحقِّقين، بل هو مُقتضى كلام الشَّافعيِّ. نعم؛ لم يشترطه مسلمٌ، بل أنكر اشتراطه في مقدِّمة «صحيحه»، وادَّعى أنَّه قول مُخترَعٌ لم يسبق قائله إليه، وأنَّ القول الشَّائع المُتفَّق عليه بين أهل العلم بالأخبار قديمًا وحديثًا(27) ما ذهب هو إليه من عدم اشتراطه، لكنَّه اشترط تعاصرهما فقط، وإن لم يأت في خبرٍ قطُّ أنَّهما اجتمعا أو(28) تشافها؛ يعني: تحسينًا للظَّنِّ بالثقة، وفيما قاله نظرٌ يطول ذكره.


[1] كذا وصوابه: «ولأبي ذرٍّ وغيره» كما في اليونينية طبعة الكمال.
[2] قوله: «وللأصيليِّ وغيره: وأخبرنا، وَأَنْبَأَنَا»، سقط من (ص).
[3] في (ب) و(س): «بينهما»، وفي (ص): «فيها».
[4] كذا، وفي حواشي اليونينية: «في رواية الكشميهني والأصيلي، حدثنا وأنبأنا أو أخبرنا».
[5] زاد في الأصول: (بن)، وليس بصحيح.
[6] في (ص) و(م): «أحمد» وهو تحريف.
[7] في (م): «و».
[8] «عند المؤلِّف»: سقط من (ص).
[9] «أيضًا»: سقط من (س).
[10] في (م): «بحيث».
[11] في (م): «اقتران».
[12] في (ص): «يخبره».
[13] في (س): «و».
[14] «في»: سقط من (م).
[15] في (ب) و(س): «أحمد»، وهو تحريفٌ. وفي الأصل: «أبو جعفر بن حمدان» و«أبو» غير صحيح كما في «الفتح» و«فتح المغيث».
[16] «وكذا»: سقط من (س).
[17] في (ص) و(م) «حدَّثنا».
[18] في (ب) و(س): «يقول»، وهو تحريفٌ.
[19] في (م): «عنه».
[20] «الثَّلاثة»: سقط من (ص).
[21] «ثلاثة»: سقط من (م).
[22] في (م): «تسع»، وليس بصحيحٍ.
[23] في غير (م): «عن».
[24] في (ب) و(س): «يرويه».
[25] قوله: «ولأبوَي ذَرٍّ والوقت... عن قوله: ╡ »، وقع في (م) بعد قوله: «عن ربِّكم ╡ ».
[26] «أئمَّة»: ليس في (م).
[27] في (م): «قديمها وحديثها».
[28] في (ب) و(س): «و».