إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان

           ولمَّا فرغ المؤلِّف من عرض القراءة شَرَعَ يذكر المُنَاوَلَة، فقال:
           ░7▒ (بابُ مَا يُذْكَرُ) بضمِّ الياء وفتح الكاف (فِي المُنَاوَلَةِ) المقرونة بالإجازة؛ وهي أن يعطيَ الشَّيخُ الكتابَ للطَّالب ويقول: هذا سماعي من فلانٍ أو تصنيفي، وقد أجزت لك أن ترويَه عنِّي، وهي حالَّةٌ محلَّ السَّماع عند يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ، ومالكٍ، والزُّهريِّ، فيسوغ فيها التَّعبير بالتَّحديث والإخبار، لكنَّها أحطُّ مرتبةً من السَّماع عند الأكثرين، وهذه غير عرض المُنَاوَلَة السَّابق؛ الذي هو أن يُحْضِرَ الطَّالبُ الكتابَ، على أنَّ الجمهور سوَّغوا الرِّواية بها، وتقييد المُناوَلَة باقتران الإجازة مُخْرِجٌ لِمَا إذا ناول الشَّيخُ الكتابَ للطَّالب من غير إجازةٍ، فإنَّه لا تسوغ الرِّواية بها على الصَّحيح، ثمَّ عطف المؤلِّف على قوله: «في المُناوَلَة» قوله: (وَكِتَابِ أَهْلِ العِلْمِ بِالعِلْمِ إِلَى) أهل (البُلْدَانِ) بضمِّ المُوحَّدة، وأهل القرى والصحارى وغيرهما، والمُكاتَبَة صورتها: أن يكتبَ المحدِّثُ لغائبٍ بخطِّه، أو يأذنَ لثقةٍ يكتب، سواءٌ كان لضرورةٍ أم لا، وسواء سُئِلَ في ذلك أم لا، فيقول بعد البسملة: من فلان بن فلانٍ، ثمَّ يكتب شيئًا من مرويِّه حديثًا فأكثر، أو من تصنيفه أو نظمه، والإذن له في روايته عنه؛ كأن يكتب: أجزت لك ما كتبته لك، أو ما كتبت به إليك، ويرسله إلى الطَّالب مع ثقةٍ مُؤتَمَنٍ بعد تحريره بنفسه، أو بثقةٍ مُعتَمَدٍ وشدِّه وختمه احتياطًا؛ ليحصل الأمن من توهُّم تغييره، وهذه في القوَّة والصِّحَّة كالمُناوَلَة المقترنة بالإجازة، كما مشى عليه المؤلِّف حيث قال: «ما يُذكَر في المُناوَلَة وكتابِ أهل العلم بالعلم إلى البلدان»، لكن قد رجَّح قومٌ _منهمُ الخطيبُ_ المُناوَلَة عليها لحصول المشافَهَة فيها بالإذن دون المُكاتَبَة، وهذا وإن كان مُرجَّحًا فالمُكاتَبَة أيضًا تترجَّح بكون الكتابة لأجل الطَّالب، وإذا أدَّى المُكاتَب(1) ما تحمَّله من ذلك فبأيّ صيغةٍ يؤدِّي؟ جوَّز قومٌ _منهمُ اللَّيثُ بن سعدٍ، ومنصور بن المعتمر_ إطلاق «أخبرنا» و«حدَّثنا»، والجمهور: على اشتراط التَّقييد بالكتابة، فيقول: حدَّثنا أو أخبرنا فلانٌ مُكاتَبَةً أو كتابةً أو نحوهما، فإن عَرَتِ الكتابة عن الإجازة فالمشهور تسويغ الرِّواية بها.
          (وَقَالَ أَنَسٌ) وللأَصيليِّ: ”أنسُ بن مالكٍ“ كما هو موصولٌ عند المؤلِّف في حديثٍ طويلٍ في «فضائل القرآن» [خ¦4984] (نَسَخَ) أي: كَتَبَ (عُثْمَانُ المَصَاحِفَ) أي: أَمَرَ زيدَ بنَ ثابتٍ، وعبد الله بن الزُّبَيْر، وسعيد بن العاص، وعبد الرَّحمن بن الحارث بن هشامٍ أن ينسخوها، وللأَصيليِّ: ”عثمان بن عفَّان“ وهو أحد العشرة، المُتوفَّى _شهيد الدَّار_ يوم الجمعة لثمانِ عَشْرةَ خَلَتْ من ذي الحجَّة سنة خمسٍ وثلاثين، وهو ابن تسعين سنةً، وكانت خلافته اثنتي عشرةَ سنةً ☺ (فَبَعَثَ بِهَا) أي: أرسل عثمانُ بالمصاحف (إِلَى الآفَاقِ) مصحفًا إلى مكَّة، وآخرَ إلى الشام، وآخرَ إلى اليمن، وآخرَ إلى البحرين، وآخرَ إلى البصرة، وآخرَ إلى الكوفة، وأمسك بالمدينة واحدًا، والمشهور: أنَّها كانت خمسةً، وقال الدَّاني(2): أكثر الرِّوايات(3) على / أنَّها أربعةٌ، قلت: وفيما جمعته في «فنون القراءات الأربعَ عشْرةَ» مزيدٌ لذلك، فليُراجَع، ودلالة هذا الحديث على تجويز الرِّواية بالمُكاتَبَة بيِّنٌ غيرُ خفيٍّ لأنَّ عثمان أمرهم بالاعتماد على ما في تلك المصاحف ومُخالفةِ ما عداها، قال ابن المُنَيِّر: والمُستَفَاد من بعثه المصاحفَ إنَّما هو ثبوت إسناد صورة المكتوب فيها إلى عثمان، لا أصل ثبوت القرآن فإنَّه متواترٌ عندهم.
          (وَرَأَى عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن عاصم بن عمر بن الخطَّاب، أبو عبد الرَّحمن القرشيُّ المدنيُّ العدويُّ، المُتوفَّى سنة إحدى وسبعين ومئة، أو هو ابن(4) عمرو بن العاص، وبالأوَّل جزم الكِرمانيُّ وغيره، وهو موافقٌ لجميع نسخ «البخاريِّ» حيث ضُمَّتِ العينُ من «عُمر» وسقطتِ الواو، وبالثَّاني قال الحافظ ابن حجرٍ معلّلًا بقرينةِ تقديمِه في الذِّكر على يحيى بن سعيدٍ: لأنَّ يحيى أكبر من العمريِّ، وبأنَّه وجد في «كتاب الوصيَّة» لابن منده من طريق البخاريِّ بسندٍ صحيحٍ إلى(5) أبي عبد الرحمن الحُبُليِّ؛ بضمِّ المُهمَلَة والمُوحَّدة: «أنَّه أتى عبد الله بكتاب فيه أحاديث، فقال: انظر في هذا الكتاب، فما عَرَفته منه اتركه، وما لم تعرفه امْحُه». قال: وعبد الله يحتمل أن يكون ابن عمر بن الخطَّاب، فإنَّ الحُبُليَّ سمع منه، ويحتمل أن يكون ابن عمرو بن العاص، فإنَّ الحُبُليَّ مشهورٌ بالرِّواية عنه، وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ التَّقديم لا يستلزم التَّعيين، فمنِ ادَّعى ذلك فعليه بيان المُلازَمَة، وبأنَّ قول الحُبُليِّ: «إنَّه أتى عبد الله» لا يدلُّ بحسب الاصطلاح إلَّا على عبد الله بن مسعودٍ، وبأنَّ عمرو بن العاص _بالواو_، وهي ساقطةٌ في جميع نسخ «البخاريِّ». وأجاب في «انتقاض الاعتراض»: بأنَّه لا يلزم من انتفاء المُلازَمَة ألَّا تثبت المُلازَمَة إذا وُجِدَتِ القرينة؛ وهي أنَّ التقديم(6) يفيد الاهتمام، والاهتمام بالأسنِّ الأوثق مستقرأ(7)، وبأنَّ الحصر الذي ادَّعاه مردودٌ، وقد صرَّح الأئمَّة بخلافه، فقال الخطيب عن أهل الصَّنعة: إذا قال المصريُّ: عن عبد الله، فمراده عبد الله بن عمرو بن العاص، وإذا قال الكوفيُّ: عبد الله، فمراده ابن مسعودٍ، والحُبُلِيُّ مصريٌّ. انتهى.
          (وَ) كذا رأى (يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريُّ المدنيُّ (وَمَالِكٌ) إمام دار الهجرة، وللأَصيليِّ: ”مالك بن أنسٍ“ (ذَلِكَ جَائِزًا) أي: المُناوَلَة والإجازة، على حدِّ قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}[البقرة:68] أي: ما ذُكِرَ من «الفارض» و«البِكْر»، فأشار بـ «ذلك» إلى المُثنَّى (وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الحِجَازِ) هو شيخ المصنِّف الحميديُّ (فِي) صحَّة (المُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلعم ؛ حَيْثُ كَتَبَ) أي: أمر بالكتابة (لأَمِيرِ) وفي رواية الأَصيليِّ: ”إلى أمير“ (السَّرِيَّةِ) عبد الله بن جحشٍ المُجدَّع، أخي زينب أمِّ المؤمنين (كِتَابًا، وَقَالَ: لَا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا) وفي رواية عروة أنَّه قال له: «إذا سرتَ يومين فافتحِ الكتاب». وللكُشْمِيهَنِيِّ: ”لا نقرأ“ بنون الجمع، مع حذف الضَّمير، ويلزم منه كون «نبلغ» بالنُّون أيضًا (فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ المَكَانَ) وهو نخلةٌ بين مكَّة والطَائف (قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلعم ) ولم يذكره المؤلِّف ☼ موصولًا. نعم؛ وصله الطَّبرانيُّ بإسنادٍ حسنٍ، وهو في «سيرة ابن إسحاق» مُرسَلًا، ورجاله ثقاتٌ، ووجه الدَّلالة منه غير خفيَّةٍ، فإنَّه جاز له الإخبار بما في الكتاب بمُجرَّد المُناوَلَة، ففيه المُناوَلَةُ ومعنى الكتابة.


[1] في (ص): «الكاتب».
[2] «الدَّاني»: سقط من (م).
[3] في (م): «الرُّواة».
[4] قوله: «ابن» زيادة لا بدَّ منها.
[5] زيد في (ب) و(س): «أبي»، وهو خطأٌ.
[6] في (م): «التقدم».
[7] قوله: «مستقرأ» زيادة من «الانتقاض» وهي لازمة.