إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب العلم قبل القول والعمل

           ░10▒ هذا (بابٌ) بالتَّنوين، وهو ساقطٌ في رواية الأَصيليِّ (العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ) لتقدُّمه بالذَّات عليهما لأنَّه شرطٌ في صحَّتهما؛ إذ إنَّه مصحِّحٌ(1) للنِّيَّة المُصحِّحة للعمل، فنبَّه المؤلِّف على مكانة العلم خوفًا من أن يَسبِق إلى الذِّهن _من قولهم: لا ينفع العلم إلَّا بالعمل_ تَوهينُ أمر العلم والتَّساهل في طلبه (لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى) وللأَصيليِّ: ” ╡ “: ({فَاعْلَمْ }) أي: يا محمَّد ({أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ }[محمد:19] فَبَدَأَ) تعالى (بِالعِلْمِ) أوَّلًا حيث قال: {فَاعْلَمْ } ثمَّ قال: {وَاسْتَغْفِرْ } إشارةً إلى القول والعمل، وهذا وإن كان خطابًا له ╕ فهو يتناول أمَّته، أوِ الأمر للدَّوام والثَّبات؛ كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ }[الأحزاب:1] أي: دُمْ على التَّقوى (وَأَنَّ العُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ) بفتح همزة «أَنَّ» عطفًا على سابقه، أو _بكسرها_ على الحكاية (وَرَّثُوا) بتشديد الرَّاء المفتوحة، أي: الأنبياء، أو بالتَّخفيف مع الكسر، وهو في «اليونينيَّة» من غير رقمٍ(2)، أي: العلماء وَرِثُوا (العِلْمَ، مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ) من ميراث النُّبوَّة (بِحَظٍّ وَافِرٍ) أي: بنصيبٍ كاملٍ، وهذا كلُّه قطعةٌ من حديثٍ عند أبي داودَ والتِّرمذيِّ وابن حبَّانَ والحاكم مُصحَّحًا من حديث أبي الدَّرداء، وضعَّفه غيرهم بالاضطراب في سنده، لكنْ له شواهدُ يتقوَّى بها، ومُناسَبَته للتَّرجمة من جهة أنَّ الوارث قائمٌ مقام المُورِّث، فله حكمه فيما قام مقامه فيه (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا) حال كونه (يَطْلُبُ بِهِ) أي: السَّالك (عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا) أي: في الآخرة أو في الدُّنيا بأن يوفِّقه للأعمال الصَّالحة الموصلة (إِلَى الجَنَّةِ) أو هو بشارةٌ بتسهيل العلم على طالبه لأنَّ طلبه من الطُّرق الموصلة إلى الجنَّة، ونكَّر «علمًا» كـ «طريقًا» ليندرج فيه القليل والكثير، وليتناول أنواع الطُّرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينيَّة، وهذه الجملة أخرجها مسلمٌ من حديث الأعمش عن أبي صالحٍ، والتِّرمذيُّ وقال: حسنٌ، وإنَّما لم يَقُلْ: صحيحٌ لتدليس الأعمش، لكنْ في رواية مسلمٍ عنِ الأعمش: حدَّثنا أبو صالحٍ، فانتفت تهمة تدليسه. وفي «مُسنَد الفردوس» بسنده إلى سعيد بن جبيرٍ قال: قال رسول الله صلعم : «ارحموا طالب العلم؛ فإنَّه متعوب البدن، لولا أنَّه يَأْخذُ بالعُجْب لصافحته الملائكة مُعايَنةً، ولكنْ يأخذ بالعُجْب ويريد أن يَقْهَرَ مَن هو أعلم منه»(3) (وَقَالَ) الله (جَلَّ ذِكْرُهُ) وفي روايةٍ: ”جلَّ وعزَّ“(4): ({إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ }) أي: يخافه ({مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء }[فاطر:28]) الذين علموا قدرته وسلطانه، فمن كان أَعْلَمَ كان أخشى لله؛ ولذا قال ╕ : «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له» (وَقَالَ) تعالى: ({ وَمَا يَعْقِلُهَا }) أي: الأمثالُ المضروبةُ وَحسنها وفائدتها ({إِلَّا الْعَالِمُونَ }[العنكبوت:43]) الذين يعقلون عن الله، فيتدبَّرون الأشياء على ما ينبغي، وقال تعالى حكايةً عن قول الكفَّار حين دخولهمُ النَّار: ({وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ }) أي: كلامَ الرُّسلِ فَنَقْبَلُه جملةً من غير بحثٍ وتفتيشٍ؛ اعتمادًا على ما لاح من صدقهم بالمعجزات ({أَوْ نَعْقِلُ }) فنفكِّر في حكمه ومعانيه تفكُّر المستبصرين ({مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }[الملك:10]) أي: في عدادهم وفي جملتهم (وَقَالَ) تعالى: ({قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }[الزمر:9]) قال القاضي ناصر الدِّين / ⌂ : نفيٌ لاستواء الفريقين؛ باعتبار القوَّة العِلْميَّة بعد نفيها؛ باعتبار القوَّة العَمَليَّة على وجهٍ أبلغَ لمزيد فضل العلم(5)، وقِيلَ: تقرير للأوَّل(6) على سبيل التَّشبيه، أي: كما لا يستوي العالِمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصُون.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم ) فيما وصله المؤلِّف بعد بابين [خ¦71]: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ) في الدِّين، وللمُستملي: ”يُفهِّمه“ بالهاء المُشدَّدة المكسورة بعدَها ميمٌ، وأخرجه بهذا اللَّفظ ابن أبي عاصمٍ في «كتاب العلم» بإسنادٍ حسنٍ، والتَّفقُّه: هو التَّفهُّم (وَإِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ) بضمِّ اللَّام المُشدَّدة على الصَّواب، وليس هو من كلام المؤلِّف، فقد رواه ابن أبي عاصمٍ، والطَّبرانيُّ من حديث معاويةَ مرفوعًا، وأبو نعيمٍ الأصفهانيُّ في «رياض المتعلِّمين» من حديث أبي الدَّرداء مرفوعًا: «إنَّما العلم بالتَّعلُّم، وإنَّما الحلم بالتَّحلُّم، ومن يتحرَّ(7) الخير يعطه»، وفي بعض النُّسخ _وهو في أصل فرع «اليونينيَّة» كهي(8)_: ”بالتَّعلِيم“ بكسر اللَّام وبالمُثنَّاة التَّحتيَّة، وفي «هامشها»: ”بالتَّعلُّم“ بضمِّ اللَّام، قال: وهو الصَّواب.
          (وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ) جندب بن جنادة، فيما وصله الدَّارميُّ في «مُسنَده» وغيره من حديث أبي مَرْثَدٍ، لمَّا قال له رجلٌ والنَّاس مجتمعون عليه عند الجمرة الوسطى يستفتونه: ألم تُنْهَ عن الفتيا؟ _وكان الذي منعه عثمان لاختلافٍ حصل بينه وبين معاوية بالشَّام في تأويل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ }[التوبة:34] فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب خاصَّةً، وقال أبو ذَرٍّ: نزلت فينا وفيهم. وأدَّى ذلك إلى انتقال أبي ذرٍّ عن المدينة إلى الرَّبَذَة_ [قال:] أرقيبٌ أنت عليَّ؟ (لَوْ وَضَعْتُمُ الصَّمْصَامَةَ) بالمُهمَلَتين الأولى مفتوحةٌ، أي: السَّيف الصَّارم الذي لا ينثني، أو الذي له حدٌّ واحد (عَلَى هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ) كذا في فرع «اليونينيَّة»، وفي غيره: ”إلى القفا“(9) وهو مقصورٌ يُذكَّر ويُؤنَّث (ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ) بضمِّ الهمزة وكسر الفاء آخره معجَمةٌ، أي: أُمْضِي (كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ) ولأبوي ذَرٍّ والوقت وابن عساكر: ”رسول الله“ ( صلعم قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا) بضمِّ المُثنَّاة الفوقيَّة وكسر الجيم وبعد التَّحتيَّة زايٌ، الصَّمْصَامَة (عَلَيَّ) أي: على قفايَ؛ والمعنى: قبل أن تقطعوا رأسي (لأَنْفَذْتُهَا) بفتح الهمزة والفاء وتسكين الذَّال المُعجَمَة، وإنَّما فعل أبو ذرٍّ هذا حرصًا على تعليم العلم طلبًا للثَّواب، وهو يَعْظُم مع حصول المشقَّة، واستُشكِل الإتيانُ هنا بـ «لو» لأنَّها لامتناع الثَّاني لامتناع الأوَّل، وحينئذٍ فيكون المعنى انتفاء الإنفاذ لانتفاء الوضع، وليس المعنى عليه، وأُجِيب بأنَّ «لو» هنا لِمُجرَّد الشَّرط كـ (إن) من غير أن يُلاحَظ الامتناع، أو المُرَاد أنَّ الإنفاذ حاصلٌ على تقدير الوضع، فعلى تقدير عدم الوضع حصولُه أَوْلى؛ فهو مثل قوله ◙ : «نِعْمَ العبدُ صهيبٌ، لو لم يَخَفِ الله لم يَعْصِه»، ولأبي الوقت هنا زيادةٌ؛ وهي قول النَّبيِّ صلعم : ”ليُبَلِّغِ الشَّاهدُ الغائبَ“ وتقدَّم قريبًا [خ¦67].
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ فيما وصله ابن أبي عاصمٍ والخطيب بإسنادٍ حسنٍ: ({كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ }[آل عمران:79]) أي (حُلَمَاءَ) جمع حليمٍ باللَّام (فُقَهَاءَ) جمع فقيهٍ، وفي روايةٍ: ”حكماء“ _بالكاف_ جمع حكيمٍ ”علماء“ جمع عالِمٍ، وهذا تفسير ابن عبَّاسٍ، وقال البيضاويُّ: و«الرَّبانيُّ»: المنسوب إلى الرَّبِّ؛ بزيادة الألف والنُّون، كاللِّحيانيِّ والرَّقَبانيِّ؛ وهو الكامل في العلم والعمل، وقال البخاريُّ حكايةً عن قول بعضهم: (وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ) أي: بجزئيَّات العلم قبل كليَّاته، أو بفروعه قبل أصوله، أو بوسائله قبل مقاصده، أو ما وَضُحَ من مسائله قبل ما دقَّ منها، ولم يذكر المؤلِّف حديثًا موصولًا، ولعلَّه اكتفى بما ذكره، أو غير ذلك من الاحتمالات، والله أعلم.


[1] في (ص): «به تصحُّ».
[2] قوله: «وهو في اليونينيَّة من غير رقمٍ» مثبتٌ من (م).
[3] قوله: «وفي مُسنَد الفردوس بسنده إلى... ويريد أن يقهر من هو أعلم منه» سقط من (ص).
[4] وقوله: «وفي روايةٍ: جلَّ وعزَّ» سقط من (ص).
[5] في (م): «المعلِّم».
[6] وفي غير (ج): «تقرير الأول».
[7] في (ص): «يتخيَّل».
[8] «كهي»: سقط من (س).
[9] قوله: «وفي غيره: إلى القفا»، سقط من (ص).