إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته

          893- وبه قال: (حَدَّثَنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ) بكسر المُوحَّدة وسكون المُعجَمة (المَرْوَزِيُّ) السَّختيانيُّ(1)، وسقط «المروزيُّ» عند ابن عساكر (قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ) بن المبارك (قَالَ: أَخْبَرَنا يُونُسَ) بن يزيد الأيليُّ (عَنْ) ابن شهابٍ (الزُّهرِيِّ) أنَّه (قَالَ: أَخْبَرَنَا) بالجمع، ولأبي ذَرٍّ وابن عساكر: ”أخبرني“ (سَالِمٌ بنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر، وسقط «بن عبد الله» للأربعة (عَنْ ابنِ عُمَرَ) بن الخطَّاب ( ☻ ) أنَّه (قالَ: سَمِعْتُ) ولكريمة: ”قال: إنَّ“ (رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: كُلُّكُمْ رَاعٍ) أي: حافظٌ ملتزمٌ صلاحَ ما قام عليه، وما هو تحت نظره، فكلُّ من كان تحت نظره شيءٌ فهو مطلوبٌ بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلَّقاته، فإن وفى ما عليه من الرِّعاية حصل له الحظُّ الأوفر والجزاء(2) الأكبر، وإلَّا طالبه كلُّ واحدٍ(3) من رعيَّته في الآخرة بحقِّه.
           (وَزَادَ اللَّيْثُ) بن سعدٍ، إمام المصريِّين ☼ في روايته على رواية عبد الله بن المبارك، ممَّا وصله الذُّهليُّ عن أبي صالح كاتب اللَّيث عنه: (قَالَ يُونُسُ) بن يزيد: (كَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ) بتقديم الرَّاء المضمومة على الزَّاي المفتوحة في الأوَّل، وضمِّ الحاء المُهمَلة وفتح الكاف على صيغة تصغير الثُّلاثيِّ في الثَّاني، الفزاريُّ مولى بني فزارة، ولابن عساكر: ”وكتب“ (إِلَى ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهريِّ (وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَئِذٍ بِوَادِي القُرَى) من أعمال المدينة، فتحه ╕ في جمادى الآخرة سنة سبعٍ من الهجرة لمَّا انصرف من خيبر: (هَلْ تَرَى أَنْ أُجَمِّعَ؟) أي: أن أصلِّي بمن معي / الجمعة؟ بضمِّ الهمزة وتشديد الميم المكسورة(4) (وَرُزَيْقٌ) يومئذٍ (عَامِلٌ عَلَى أَرْضٍ يَعْمَلُهَا) أي: يزرعها (وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ، وَرُزَيْقٌ يَوْمَئِذٍ) أميرٌ من قِبلَ عمر بن عبد العزيز (عَلَى أَيْلَةَ) بفتح الهمزة وسكون المُثنَّاة التَّحتيَّة وفتح اللَّام، كانت مدينةً ذات قلعةٍ، وهي الآن خرابٌ ينزل بها(5) حُجَّاج مصر وغزَّة، وبعض آثارها ظاهرٌ، والَّذي يظهر أنَّه سأله عن إقامة الجمعة في الأرض الَّتي كان يزرعها من أعمال أَيْلَة، لا عن أَيْلَة(6) نفسها لأنَّها كانت بلدًا لا يسأل عنها.
          قال يونس: (فَكَتَبَ) إليه (ابْنُ شِهَابٍ) بخطِّه وقرأه (وَأَنَا أَسْمَعُ) حال كونه (يَأْمُرُهُ) أي: ابنُ شهابٍ يأمر رُزيقَ بنَ حُكيمٍ في كتابه إليه (أَنْ يُجَمِّعَ) أي(7): بأن يصلِّي بالنَّاس الجمعة، أو أملاه ابن شهابٍ على كاتبه، فسمعه يونس منه، فالمكتوب الحديث، والمسموع المأمور به، كذا قرَّره البرماويُّ كالكِرمانيِّ، وقال في «الفتح»: والَّذي يظهر أنَّ المكتوب عين المسموع، وهو الأمر والحديث معًا، ثمَّ استدلَّ ابن شهابٍ على أمره رُزيق بن حُكيمٍ بالجمعة، حال كونه (يُخْبِرُهُ) أي: رُزيقًا في كتابه إليه، والجملة حاليَّةٌ من الضَّمير المرفوع، فهي‼ متداخلةٌ، والحالان السَّابقان، أعني: «وأنا أسمع»، و«يأمره» مترادفان (أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ: أَنَّ) أباه (عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ) بن الخطَّاب (يَقُولُ) ولأبي ذَرٍّ وابن عساكر عن الكُشْمِيْهَنِيِّ: ”قال“: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم ) حال كونه (يَقُولُ: كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ) في الآخرة (مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) ولأبي الوقت وابن عساكر والأَصيليِّ: ”كلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته“ (الإِمَامُ رَاعٍ) فيمن وُلِّي عليهم، يقيم فيهم الحدود والأحكام على سنن الشَّرع، وهذا موضع التَّرجمة لأنَّه لمَّا كان رُزيق عاملًا من جهة الإمام على الطَّائفة الَّتي ذكرها فكان عليه أن يراعي حقوقهم، ومن جملتها إقامةُ الجمعة، فيجب عليه إقامتها وإن كانت في قريةٍ، فهو راعٍ عليهم (وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ) يوفِّيهم حقَّهم من النَّفقة والكسوة والعِشرة (وَهْوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) سقط لفظ «وهو» عند الأربعة في رواية الكُشْمِيْهَنِيِّ (وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا) بحُسْن تدبيرها في المعيشة والنُّصح له، والأمانة في ماله، وحفظ عياله، وأضيافه، ونفسها (وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ) يحفظه(8) ويقوم بما يستحقُّ من خدمته (وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).
           (قَالَ) ابن عمر، أو سالمٌ، أو يونس: (وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ) كلمة «أنْ» مُخفَّفةٌ من الثَّقيلة، ولأبي ذَرٍّ والأَصيليِّ عن الكُشْمِيْهَنِيِّ: ”أنه قال“ أي: النَّبيُّ صلعم : (وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ) يحفظه ويدبِّر مصلحته (وَمَسْؤُولٌ) وفي رواية أبي ذَرٍّ والأَصيليِّ: ”وهو مسؤولٌ“ (عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ) أي: مؤتمنٌ حافظٌ ملتزمٌ إصلاحَ ما قام عليه (وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) ولابن عساكر: ”فكلُّكم راعٍ مسؤولٌ عن رعيَّته“ بالفاء بدل الواو، وإسقاط(9) الواو من ”ومسؤولٌ“، ولأبي ذَرٍّ في نسخةٍ: ”فكلُّكم راعٍ“ بالفاء ”وكلُّكم مسؤولٌ“ وكذا للأَصيليِّ، لكنَّه قال: ”وكلُّكم“ بالواو بدل الفاء.
          وفي هذا الحديث من النُّكت: أنَّه عمَّم أوَّلًا، ثمَّ خصَّص ثانيًا، وقسم الخصوصيَّة إلى أقسامٍ: من جهة الرَّجل، ومن جهة المرأة، ومن جهة الخادم، ومن جهة النَّسب، ثمَّ عمَّم ثالثًا وهو قوله: «وكلُّكم راعٍ...» إلى آخره تأكيدًا، وردًّا للعَجُز إلى الصَّدر بيانًا لعموم الحكم أوَّلًا وآخرًا، قِيلَ: وفي الحديث: أنَّ الجمعة تُقام بغير إذنٍ من السُّلطان إذا كان في القوم من يقوم بمصالحهم، وهذا مذهب الشَّافعيَّة، إذ إذنُ السُّلطان عندهم ليس شرطًا لصحَّتها، اعتبارًا بسائر الصَّلوات، وبه قال المالكيَّة وأحمد في روايةٍ عنه، وقال الحنفيَّة _وهو روايةٌ عن أحمد أيضًا_ إنَّه شرطٌ لقوله ╕ : «مَن ترك الجمعة وله إمامٌ جائرٌ أو عادلٌ لا جَمَعَ اللهُ شملَه» رواه ابن ماجه والبزَّار وغيرهما، فشرط فيه‼ أن يكون له إمامٌ، ويقوم مقامه نائبه، وهو الأمير أو القاضي، وحينئذٍ فلا دلالة فيه للشَّافعيَّة لأن رُزيقًا كان نائب الإمام.
          ورواة الحديث ما بين مدنيٍّ ومروزيٍّ وأَيْليٍّ، وفيه: التَّحديث والإخبار والعنعنة والقول والسَّماع والكتابة، وشيخ المؤلِّف من أفراده، وأخرجه أيضًا في «الوصايا» [خ¦2751] و«النِّكاح» [خ¦5188]، ومسلمٌ في «المغازي»، وكذا التِّرمذيُّ. /


[1] في غير (د): «السِّجستانيُّ»، وهو تحريفٌ.
[2] في (ص): «الخير».
[3] في (د): «أحد».
[4] قوله: «بضمِّ الهمزة وتشديد الميم المكسورة» سقط من (د).
[5] في (م): «ينزلها».
[6] «لا عن أيلة»: سقط من (د).
[7] في (ب): «أن»، وهو تحريفٌ.
[8] في (ص): «بحفظه».
[9] في (ص): «أسقط».