إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب المشي إلى الجمعة

          ░18▒ (بابُ المَشْي إِلَى) صلاة (الجُمُعَةِ، وَقَوْلِ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ) بجرِّ لام «قول» عطفًا على «المشي» المجرور بالإضافة، وبالضَّمِّ على الاستئناف: ({فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ }[الجمعة:9]) أي(1): فامضوا لأنَّ السَّعي يُطلَق على المضيِّ وعلى العَدْو، فبيَّنت السُّنَّة المراد به كما في الحديث الآتي في هذا الباب [خ¦908]: «فلا تأتوها تسعون، وأْتُوها وأنتم تمشون وعليكم السَّكينة» نعم إذا ضاق الوقت فالأّوْلى الإسراع، وقال المحبُّ الطَّبريُّ: يجب إذا لم تُدرَك(2) الجمعة إلَّا به.
           (وَمَنْ قَالَ) في تفسيره: (السَّعْيُ: العَمَلُ) لها (وَالذَّهَابُ) إليها (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَعَى لَهَا}) أي: للآخرة ({سَعْيَهَا}[الإسراء:19]) المُفسَّر: يعمل لها حقَّها من السَّعي، وهو الإتيان بالأوامر والانتهاء عن النَّواهي.
           (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻ ) ممَّا وصله ابن حزمٍ من طريق عكرمة عنه، لكن بمعناه: (يَحْرُمُ البَيْعُ) أي: ونحوه من سائر العقود ممَّا فيه تشاغلٌ عن السَّعي إليها كإجارةٍ وتوليةٍ، ولا تبطل الصَّلاة (حِينَئِذٍ) أي: إذا نُودِي بها بعد جلوس الخطيب على المنبر لآية(3) { إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ }[الجمعة:9]، وقِيسَ على البيع نحوه، وإنَّما لم تبطل الصَّلاة به(4) لأنَّ النَّهي لا يختصُّ به، فلم يمنع صحَّته كالصَّلاة في أرضٍ مغصوبةٍ، ويصحُّ البيع عند الجمهور لأنَّ النَّهي ليس لمعنًى في العقد داخل ولا لازم، بل‼ خارجٌ عنه، وقال المالكيَّة: يُفسَخ ما عدا النِّكاح والهبة والصَّدقة، وحيث فُسِخَ تُرَدُّ السِّلعة إن كانت قائمةً، ويلزم قيمتها يوم القبض إن كانت فائتةً، والفرق بين الهبة والصَّدقة وبين غيرهما: أنَّ غير الهبة والصَّدقة يُرَدُّ على كلِّ واحدٍ ماله، فلا يلحقه كبيرُ مضرَّةٍ، ولا كذلك الهبة والصَّدقة لأنَّه ملك شيءٍ بغير عوضٍ، فيبطل عليه، فتلحقه المضرَّة، وأمَّا عدم فسخ النِّكاح فللاحتياط في الفروج. انتهى. وتقييد الأذان بكونه بعد جلوس الخطيب لأنَّه الَّذي كان في عهده صلعم كما سيأتي _إن شاء الله تعالى_ فانصرف النِّداء في الآية إليه، أمَّا الأذان الَّذي عند الزَّوال فيجوز البيع عنده مع الكراهة؛ لدخول وقت الوجوب، لكن قال الإسنويُّ: ينبغي ألَّا يُكرَه في بلدٍ / يؤخِّرون فيها تأخيرًا كثيرًا _كمكَّة_ لما فيه من الضَّرر، فلو تبايع مقيمٌ ومسافرٌ أَثِما جميعًا لارتكاب الأوَّل النَّهي، وإعانة الثَّاني له عليه، نعم يُستَثنى من تحريم البيع ما لو احتاج إلى ماء طهارته، أو إلى ما يواري به عورته، أو يقوته عند اضطراره، ولو باع وهو سائرٌ إليها أو في الجامع جاز لأنَّ المقصود ألَّا يتأخَّر عن السَّعي إلى الجمعة، لكن يُكرَه البيع ونحوه في المسجد لأنَّه يُنزَّه عن ذلك، وعن(5) الحنفيَّة: يُكرَه البيع مطلقًا، ولا يحرم.
           (وَقَالَ عَطَاءٌ) هو ابن أبي رباحٍ، ممَّا وصله عبد بن حُمَيْدٍ في «تفسيره»: (تَحْرُمُ الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا) لأنَّها بمنزلة البيع في التَّشاغل عن الجمعة.
           (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) بسكون العين، ابن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوفٍ المدنيُّ (عَنِ) ابن شهابٍ (الزُّهْرِيِّ: إِذَا أَذَّنَ المُؤَذِّنُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهْوَ مُسَافِرٌ فَعَلَيْهِ) أي: على طريق الاستحباب (أَنْ يَشْهَدَ) أي(6): الجمعة، لكن اختُلِف على الزُّهريِّ فيه، فرُوِي عنه هذا، ورُوِي عنه: «لا جمعة على مسافرٍ» على طريق الوجوب، قال ابن المنذر: وهو كالإجماع، ويحتمل أن يكون مراده بقوله: «فعليه أن يشهد» ما إذا اتَّفق(7) حضور المسافر في موضعٍ تُقام فيها الجمعة، فسمع النِّداء لها، لا أنَّه(8) يلزمه حضورها مطلقًا حتَّى يحرم عليه السَّفر قبل الزَّوال من البلد الَّذي يدخله مجتازًا، وقال المالكيَّة: تجب عليه إذا أدركه صوت المؤذِّن قبل مجاوزة الفرسخ.


[1] «أي»: ليس في (د).
[2] في (د): «يدرك».
[3] في (د): لأنه، وفي (ص): «لقوله».
[4] «به»: مثبتٌ من (م).
[5] في (ب) و(س): «عند».
[6] «أي»: ليس في (ب).
[7] في (د): «يشهدها إذا اتَّفق»، وهو تحريفٌ.
[8] في (ص) و(م): «فإنَّه»، وليس بصحيحٍ.