إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر

          883- وبه قال: (حَدَّثَنَا آدَمُ) بن أبي إياسٍ (قَالَ(1): حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) هو محمَّد بن عبد الرَّحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئبٍ، واسمه: هشامُ القرشيُّ العامريُّ المدنيُّ (عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ) بضمِّ المُوحَّدة، نسبةً إلى مقبرةٍ بالمدينة كان مجاورًا بها، التَّابعيِّ (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (أَبِي) أبو سعيدٍ، كيسان المقبريُّ التَّابعيُّ (عَنِ ابْنِ وَدِيعَةَ) عبد الله الأنصاريِّ المدنيِّ التَّابعيِّ، أو(2) هو صحابيٌّ (عَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ) ☺ (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم : لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ) غسلًا شرعيًّا (وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ) بالتَّنكير للمبالغة في التَّنظيف، أو المراد به التَّنظيف بأخذ الشَّارب والظُّفر والعانة، أو المراد بالغُسل غسل الجسد، وبالتَّطهير‼ غسل الرَّأس وتنظيف الثِّياب، ولأبي ذَرٍّ وابن عساكر عن الحَمُّويي والمُستملي: ”من الطُّهْرِ“ (وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ) بتشديد الدَّال بعد المُثنَّاة التَّحتيَّة، من باب «الافتعال» أي: يطلي بالدُّهن ليزيل شعث رأسه ولحيته به (أَوْ يَمَسُّ) بفتح المُثنَّاة التَّحتيَّة والميم (مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ) إن لم يجد دهنًا، و«أو» بمعنى: الواو، فلا ينافي الجمع بينهما، وأضاف الطِّيب(3) إلى البيت إشارةً إلى أنَّ السُّنَّة اتِّخاذ الطِّيب في البيت، ويجعل استعماله له عادةً، وفي حديث أبي داود عن ابن عمر: «أو يمسُّ من طيب امرأته» أي: إن لم يتَّخذ / لنفسه طيبًا فليستعمل من طيب امرأته، وزاد فيه: «ويلبس من صالح ثيابه» ولابن عساكر: ”ويمسُّ من طيب بيته“. (ثُمَّ يَخْرُجُ) زاد ابن خزيمة عن أبي أيُّوب: «إلى المسجد» ولأحمد من حديث أبي الدَّرداء: «ثمَّ يمشي وعليه السَّكينة» (فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ) في حديث ابن عمر عند أبي داود: «ثمَّ لم يتخطَّ رقاب النَّاس» وهو كنايةٌ عن التَّبكير، أي: عليه أن يبكِّر فلا يتخطَّى رقاب النَّاس، أو المعنى: لا يزاحم رَجُلين فيدخل بينهما لأنَّه ربَّما ضيَّق عليهما، خصوصًا في شدَّة الحرِّ واجتماع الأنفاس (ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ) أي: فُرِضَ من صلاة الجمعة، أو قُدِّر فرضًا أو نفلًا(4)، وفي حديث أبي الدَّرداء: «ثمَّ يركع ما قَضىَ له»، وفي حديث أبي أيُّوب: «فيركع إن بدا له» وفيه مشروعيَّة النَّافلة قبل صلاة الجمعة. (ثُمَّ يُنْصِتُ) بضمِّ أوَّله من: أنصت، وفتحه(5) من نصت، أي: يسكت(6) (إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ) أي: شرع في الخطبة، زاد في رواية قَرْثَعٍ _بقافٍ مفتوحةٍ وراءٍ ساكنةٍ ثمَّ مُثلَّثةٍ_ الضَّبِّيِّ _بالمُعجَمة والمُوحَّدة_ عند ابن خزيمة: «حتَّى يقضي صلاته» (إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ) أي: ما(7) بين الجمعة الحاضرة (وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى) الماضية أو المستقبلة لأنَّها تأنيث الآخَرِ _بفتح الخاء، لا بكسرها_، والمغفرة تكون للمستقبل كما للماضي، قال الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح:2] لكن في رواية اللَّيث عن ابن عجلان عند ابن خزيمة: «ما بينه وبين الجمعة الَّتي قبلها» وزاد في رواية أبي هريرة عند ابن حبان: «وزيادة ثلاثة أيَّامٍ من الَّتي بعدها»، والمراد غفران الصَّغائر لِمَا زاده في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه: «ما لم تُغْشَ الكبائر» أي: فإنَّها إذا غُشِيت لا تُكفَّر، وليس المراد أنَّ تكفير الصَّغائر مشروطٌ باجتناب الكبائر؛ إذ اجتناب الكبائر بمُجرَّده يكفِّر الصَّغائر كما نطق به القرآن العزيز في قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}[النساء:31] أي: كلُّ ذنبٍ فيه وعيدٌ شديدٌ {نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[النساء:31] أي: نمحُ عنكم صغائركم، ولا يلزم من ذلك ألَّا يكفِّر الصَّغائر إلَّا اجتناب الكبائر، فإذا لم تكن له صغائر تُكفَّر رُجِي له أن يُكفَّر عنه بمقدار ذلك من الكبائر، وإلَّا أُعطِي من الثَّواب بمقدار ذلك، وقد تبيَّن بمجموع ما ذكر من الغسل والتَّطيُّب(8) إلى آخره أنَّ تكفير الذُّنوب من الجمعة إلى الجمعة مشروطٌ بوجود جميعها.
          ورواة هذا الحديث كلُّهم مدنيُّون، وفيه(9): ثلاثةٌ من التَّابعين، إن لم يكن ابن وديعة صحابيًّا، وفيه: التَّحديث والإخبار والعنعنة.


[1] «قال»: ليس في (د).
[2] في (ب): «و»، وهو خطأٌ لأنَّه مختلفٌ في صحبته.
[3] في (ص) و(م): «الدُّهن».
[4] قال السندي في «حاشيته»: (قوله: «لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ...» إلى آخره، أي: لا يفعل رجلٌ هذه الأفعال المذكورة ولا يأتي بها إلَّا غفر له، فالنَّفي متوجِّه إلى الأفعال كلِّها بعد اعتبار العطف بينها، وقوله: «أو يمس طيبًا» لإفادة أنَّ أحد الأمرين من الادِّهان ومسِّ الطِّيب مع الأمور الباقية يكفي في ترتبِ الجزاء المذكور، وقوله: «ثم يصلي ما كتب له» معناه: ما قدِّر له من النَّوافل. وقال القسطلاني _تبعًا للكِرماني_: أي: ما فرضَ له من صلاة الجمعة، أو قدر له فرضًا أو نفلًا، ولا يخفى أنَّه لا يناسبه قوله: «ثم ينصت» لأنه يدلُّ على أنَّه قبل الخطبة، وصلاة الجمعة بعدها، إلَّا أن يقال: كلمة «ثمَّ» لمجرَّد تأخير الإخبار والموضع موضع الواو، والله تعالى أعلم).
[5] في (ص): «كسره».
[6] في (م): «سكت».
[7] «ما»: مثبتٌ من (م).
[8] في (د): «والطِّيب».
[9] «فيه»: ليس في (د).