الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب الشرب قائما

          ░16▒ (باب: الشُّرْب قَائِمًا)
          قالَ ابنُ بطَّالٍ: أشار بهذه التَّرجمة إلى أنَّه لم يصحَّ عنده الأحاديث الواردة في كراهة الشُّرب قائمًا، كذا قال وليس بجيد، بل الَّذِي يُشْبِه صنيعه أنَّه إذا تعارضت عنده الأحاديثُ لا يُثْبِت الحُكم. انتهى مِنَ «الفتح».
          والأوجَهُ عندي ما قالَ ابنُ بطَّالٍ مِنْ أنَّه أشار بالتَّرجمة إلى ترجيح أحاديث الجواز، ولذا لم يذكر في الباب شيئًا مِنْ أحاديث النَّهي كما ترى، فمعنى التَّرجمة جواز الشُّرب قائمًا، والمسألة خلافيَّة لأجل اختلاف الرِّوايات.
          قالَ الحافظُ: واستُدلَّ بهذا الحديث / على جواز الشُّرب للقائم، وقد عارض ذلك أحاديثُ صريحةٌ في النَّهي عنه، منها عند مسلم عن أنس: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم زَجَرَ عَن الشُّرْب قائمًا)) ومثله عنده عن أبي سعيد بلفظ: ((نَهَى)) ولمسلم عن أبي هريرة بلفظ: ((لا يَشْرَبَنَّ أحدكم قائمًا فمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقيء(1)))إلى أن قالَ الحافظُ: قالَ القُرْطُبيُّ: لم يَصِرْ أحدٌ إلى أنَّ النَّهي فيه للتَّحريم، وإن كان جاريًا على أصول الظَّاهريَّة القولُ به، وتُعُقِّب بأنَّ ابن حزمٍ جَزَمَ بالتَّحريم.
          ثم قال: وسلك العلماء في ذلك مسالك:
          أحدها: التَّرجيح، وأنَّ أحاديث الجواز أثبتُ مِنْ أحاديث النَّهي، وهذا طريقة أبي بكر بن الأثرم. الثَّاني: دعوى النَّسخ، وإليها جنح الأثرم وغيره فقالوا: إنَّ أحاديث النَّهي منسوخة بأحاديث الجواز بقرينة عمل الخلفاء الرَّاشدين ومعظم الصَّحابة والتَّابعين بالجواز، وقد عَكَسَ ذلك ابن حزم، فادَّعَى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النَّهي.
          الثَّالث: الجمع بين الخبرين بضربٍ مِنَ التَّأويل، فقيل: المراد بالقيام هاهنا المشي، وجنح الطَّحاويُّ إلى حمل النَّهي على مَنْ لم يُسَمِّ عند شربه، ومال جماعةٌ إلى حمل النَّهي على كراهة التَّنزيه، وأحاديثِ الجواز على بيانه، وهذا أحسنُ المسالك، وقيل: إنَّ النَّهي عن ذلك إنَّما هو مِنْ جهة الطبِّ مخافة وقوع ضرر به... إلى آخر ما بسط في «هامش اللَّامع».
          وفيه: وعُلِمَ ممَّا سبق أنَّهم اختلفوا في ذلك على ستَّة أقوال:
          أحدها: أنَّ النَّهي مخصوص بما سِوى زمزم وفضل الوضوء، وهو مختار بعض أصحابنا الحنفيَّة، كصاحب «المُنْية» وصاحب «الدُّرِّ المختار» وغيرهما إلى أن قال: الخامس: النَّهيُ للتنزيه والفعلُ للجواز، وهو مختار النَّوويِّ والسُّيوطيِّ وغيرهما، وهو مختار أكثر أصحابنا الحنفيَّة حَتَّى أنَّ الحلبيَّ نقل عليه الإجماع، والسَّادس: ما اختاره الطَّحاويُّ أنَّ النَّهي للمضرَّة فهذا أمرُ إرشاد طبِّيٍ لا شرعيٍّ. انتهى.


[1] في (المطبوع): ((فليستقئ)).