الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرا

          ░11▒ (باب: مَنْ رَأَى ألَّا يَخْلِطَ البُسْر وَالتَّمر...) إلى آخره
          قالَ ابنُ بطَّالٍ: قوله: (إذا كان مُسْكِرًا) خطأ، لأنَّ النَّهي عن الخليطين عامٌّ وإن لم يُسْكِر كثيرُهما لسرعة سريان الإسكار إليهما مِنْ حيثُ لا يشعر صاحبه به، فليس النَّهي عن الخليطين لأنَّهما يُسْكِرَان حالًا بل لأنَّهما يسكران مآلًا، فإنَّهما إذا كانا مسكرين في الحال لا خلاف في النَّهي عنهما، قالَ الكَرْمانيُّ: فعلى هذا فليس هو خطأ، بل يكون أطلق ذلك على سبيل المجاز، وهو استعمال مشهور، وأجاب ابن المنيِّر بأنَّ ذلك لا يَرِدُ على البخاريِّ، إمَّا لأنَّه يرى جواز الخليطين قبل الإسكار، وإمَّا لأنَّه ترجم على ما يطابق الحديث الأوَّل... إلى آخر ما ذكر الحافظ.
          وقال: الَّذِي يظهر لي أنَّ مراد البخاريِّ بهذه التَّرجمة الرَّدُّ على مَنْ أوَّلَ النَّهي عن الخليطين بأحد تأويلين: أحدهما: حمل الخليط على المخلوط، وهو أن يكون نبيذ تمر وحده مثلًا وقد اشتدَّ، ونبيذ زبيب وحده مثلًا قد اشتدَّ، فيُخْلَطان ليصيرا خلًّا، فيكون النَّهي مِنْ أجل تعمُّد التَّخليل، وهذا مطابق للتَّرجمة مِنْ غير تكلُّف، ثانيهما: أن يكون علَّة النَّهي عن الخلط الإسراف، فيكون كالنَّهي عن الجمع بين إدامين، ويؤيِّد الثَّاني قوله في التَّرجمة: (وألَّا يَجْعَلَ إِدَامَين [في إدام]) وقد نصر الطَّحاويُّ مَنْ حمل النَّهي / عن الخليطين على منع السَّرَف... إلى آخر ما بسط الحافظ، وبسط في نقل مذاهب العلماء في حكم الخليط.
          وقالَ القَسْطَلَّانيُّ: وهل إذا خُلط نبيذ البُسْر الَّذِي لم يشتدَّ مع نبيذ التَّمر الَّذِي لم يشتدَّ يَمتنع، أو يختصُّ النَّهيُ عن الخلط عند الانتباذ؟ فقال الجمهور: لا فرق ولو لم يُسْكِر، وقال الكوفيُّون بالحِلِّ، ولا خلاف أنَّ العسل باللَّبن ليس بخليطين، لأنَّ اللَّبن لا يُنْبَذ، واختُلف في الخليطين بالتَّخليل. انتهى.
          قالَ العلَّامةُ العَينيُّ: قلت: في هذا الباب أقوال: أحدها: أنَّه يحرم، وبه قالَ مالكٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ، والثَّاني: يحرم خليط كلِّ نوعين ممَّا يُنتبذ في الانتباذ، وبعد الانتباذ لا يُخَصُّ شيء مِنْ شيء(1) وهو قول بعض المالكيَّة، والثَّالث: أنَّ النَّهي محمول على التَّنزيه، وأنَّه ليس بحرام ما لم يصر مُسْكرًا، وقال شيخُنا زين الدِّين: حكاه النَّوويُّ عن مذهبنا وأنَّه قول جمهور العلماء، الرَّابع: رُوي عن اللَّيث أنَّه قال: لا بأس أن يخلط نبيذ الزَّبيب ونبيذ التَّمر ثمَّ يشربان جميعًا، وإنَّما جاء النَّهي عن أن يُنتبذا جميعًا لأنَّ أحدهما يشدُّ صاحبه، الخامس: أنَّه لا كراهة في شيء مِنْ ذلك، وهو قول أبي حنيفة في رواية عن أبي يوسف.
          قالَ النَّوويُّ: أنكر عليه الجمهور وقالوا: هذه منابذة لصاحب الشَّرع، فقد ثبتت الأحاديث الصَّحيحة الصَّريحة في النَّهي عنه، فإن لم يكن حرامًا كان مكروهًا، قلت: هذه جرأة شنيعة على إمام أجلَّ مِنْ ذلك، وأبو حنيفة لم يكن قال ذلك برأيه، وإنَّما مستنده في ذلك أحاديث، ثمَّ ذَكَر العلَّامةُ العينيُّ تلك الأحاديث.
          وكتبَ الشَّيخُ قُدِّس سرُّه في «الكوكب»: قوله: (نهى عن أن يُنتبذ البُسر والرُّطَب...) إلى آخره، هذا النَّهي كالنَّهي عن الانتباذ في الظُّروف كان في أوَّل الأمر لِما فيه بَعْدَ الخلط مِنْ قوَّةٍ فيسرع الاشتداد، ثمَّ صار الأمر واسعًا غير أن المسكر حرام أيًّا ما كان. انتهى.
          وفي «هامشه» عن «الهداية»: لا بأس بالخليطين لِما روي عن ابن زياد أنَّه قال: ((سقانا(2) ابن عمر شربة ما كدت أهتدي إلى إبلي(3) فغدوتُ إليه مِنَ الغد فأخبرته بذلك فقال: ما زدناك على عجوة وزبيب)) وهذا مِنَ الخليطين، ثمَّ ذكر توجيه الحديث نحو ما قال الشيخ قُدِّس سرُّه.
          قوله: (وألَّا يجعل إدامين) أي: التَّمر والزَّبيب مثلًا فيكونان كالواحد فيكون تابعًا لِما سبق، كذا قالوا.
          والأوجَهُ عندي: أنَّه تأسيسٌ وحكمٌ مستقلٌّ كما هو المعروف عن عمر ☺ ، وقد تقدَّم نحوه في كلام الحافظ.


[1] قوله: ((من شيء)) ليس في (المطبوع).
[2] في (المطبوع): ((سقاني)).
[3] في (المطبوع): ((أهلي)).