التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}

          ░28▒ بَابُ قَوْلِهِ تَعَالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]
          قال ابنُ عبَّاسٍ: شُكْرَكُمْ.
          1038- وهذا رواه عَبْدُ بن حُمَيدٍ في «تفسيره» مِن حديث عِكرِمة عنه، ومِن حديث عمروٍ عنه الاستسقاء بالأنواء، ثمَّ روى حديثَ زيدِ بن خالدٍ الجهنيِّ: (صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ...). الحديث.
          سلف في باب: يستقبل الإمام الناس إذا سلَّم، كذا فسَّر ابن عبَّاسٍ الرِّزق بالشُّكر هنا، ورُوي عنه أنَّه قال: هو استسقاؤهم بالأنواء، وقد تقدَّم.
          وكانوا يقولون: مُطرنا بِنَوء كذا، ورُوي عن عليِّ بن أبي طالبٍ أنَّه كان يقرأ: {وَتَجْعَلُون شُكْرَكُم أَنَّكُم تَكْذِبُون} بفتح التاء وتخفيف الذال، وهي قراءةٌ تتأوَّل على التفسير، وذُكرتْ عن ابن عبَّاسٍ، إلَّا أنَّها مخالفةٌ للمصحف الذي وقع الإجماع عليه.
          وقيل: معناه شكر رزقكم كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}. وقيل هو مثل عتابك السيِّد أي: الذي يقوم مقام الشكر التكذيب، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا} [إبراهيم:28].
          وقال الطَّبَريُّ: إن قلت: كيف يكون الرِّزق بمعنى الشُّكر؟ ثمَّ أجاب عنه بمخارج في اللغة:
          أحدها: أن يُراد به وتجعلون ما جعله الله سببًا لرزقكم مِن الغيوث أنَّكم تكذِّبون به، ثمَّ تُرك ذكر السبب وأُقيم الرِّزق مقامه إذ كان مؤدِّيًا عنه كما قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175] بمعنى يخوِّفُ بأوليائه، إذ كان معلومًا أنَّه لا يخوِّف مَن كان له وليًّا، وإنَّما يخوِّفُ مَن كان له عدوًا، فاكتفى بذكر أوليائه.
          ثانيها: أن يكون المراد: وتجعلون رزقَكم الذي رزقكم مِن الغيث الذي به حياتكم، ووجب به عليكم شكرُ ربِّكم تكذيبَكم به، فاكتفى بذكر الرِّزق مِن ذكر الشكر إذ كان معلومًا أنَّ مَن رَزق إنسانًا فقد اصطنع إليه معروفًا يستوجبُ به الشكر.
          ثالثها: أن يكون الرِّزق اسمًا مِن أسماء الشكر، حُدِّثتُ عن الهيثم بن عَدِيٍّ أنَّه قال: مِن لغة أزْدِ شنوءة: ما رَزق فلانٌ فلانًا بمعنى: ما شكره.
          قال المهلَّب: تعليق الترجمة بهذا الحديث هو أنَّهم كانوا ينسبون الأفعال إلى غير الله تعالى، فيظنُّون أنَّ النَّجْم يمطرهم ويرزقهم، فهذا تكذيبهم، فنهاهم الله تعالى عن نسبة الغيوث التي جعلها الله تعالى حياةً لعباده وبلاده إلى الأنواء، وأمرهم أن يضيفوا ذلك إليه، لأنَّه مِن نعمته وتفضله عليهم، وأن يفردوه بالشكر على ذلك، والحمد على تفضُّلِهِ.
          فإن قلت: إن كان كما وصف مِن نهيِ الله ورسوله عن نسبة الغيوث إلى الأنواء، فما أنت قائل فيما رُويَ عن عمر أنَّه حين استسقى قال للعبَّاس: يا عمُّ، كم بقي مِن نَوء الثُّرَيَّا؟ فقال: العلماءُ يزعُمُون أنَّها تعترضُ في الأفق بعد سُقوطها سَبعًا، قال: فما مضت سابعةٌ حتَّى مُطروا؟
          قيل: إنَّ ذلك مِن عُمر لم يكن على المعنى المنهيِّ عنه، وذلك أنَّ المنهيَّ عنه إضافة ذلك إلى أنَّه مِن فعل النَّوء وحدَه فكان كفرًا، وأمَّا ما كان مِن عمر فإنَّه كان مِنه أنَّه من قِبَل الله تعالى عند نَوء النَّجم، كما يقول القائل: إذا كان الصَّيف كان الحرُّ، وإذا كان الشتاء كان البرد، لا على أنَّ الشتاء والصيف يفعلان شيئًا مِن ذلك، بل الذي يأتي بها والحرِّ والبردِ الربُّ تعالى خالقُ كلِّ ذلك، ولكن ذلك مِن النَّاس / على ما جرت عادتهم فيه، وتعارفوا معاني ذلك في خطابهم، ومرادهم لا على أنَّ النُّجوم تُحْدِثُ شيئًا مِن نفعٍ أو ضرٍّ بغير إذن خالقها لها بذلك.