التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي: نصرت بالصبا

          ░26▒ بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: (نُصِرْتُ بِالصَّبَا).
          1035- ذكر فيه حديث ابن عبَّاسٍ أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: (نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ).
          هذا الحديث أخرجه مسلمُ أيضًا، وأخرجه البخاريُّ في بدء الخلق وأحاديث الأنبياء، وغزوة الخندق مِن المغازي، وبوَّب عليه البيهقيُّ باب: أي الرِّيح يكون منها المطر.
          و(الصَّبَا) بفتح الصاد المهملة مقصورة: الرِّيح الشرقية تأتي ليِّنة، وهي القَبُول أيضًا.
          قال الشافعيُّ: أخبرنا مَن لا أتَّهمُ، حدَّثنا عبد الله بن عُبَيد الله عن محمَّد بن عمروٍ أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: ((نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وكَانَتْ عَذَابًا عَلَى مَن كَانَ قَبْلَنا)).
          قلت: والصَّبا إحدى الرِّياح الأربع: الصَّبا، والدَّبُور مقابلها، والشَّمال والجنوب مقابلها، قال الجوهريُّ: مهبُّ الصَّبا المستوى أن تهبَّ مِن موضع مطلع الشَّمس إذا استوى الليل والنهار.
          و(الشَّمال) الرِّيح التي تهبُّ مِن ناحية القطب يعني: الجدي، لأنَّها تأتي مِن جهة الشَّمال، والجمع شَمالات بالفتح، وشمائل على غير قياس، والوارد في أشعار العرب وأقوالهم أنَّ الجنوب تجمع السَّحاب، والشَّمال تقصره فتأتي بالمطر، والصَّبا تسلِّي عن المكروب، فهذه الثلاثة تأتي بخيرٍ وهي المنشآت.
          وعبارة ابن التِّين: الأرياح ثمانية: قَبُول: وهي التي تأتي مِن مطلع الشَّمس، ودَبُور: وهي ما أتى مِن دُبُر تلك القِبلة، والصَّبا: عن يمين مستقبِل القبلة وهي الجنوب، لأنها مِن جانب الأيمن، وعند أهل اللغة أنَّ الصَّبا هي القَبُول، والشَّمال عن شمال مستقبل تلك القبلة لأنَّها عن شماله، وبين كلِّ ريحين مِن هذه ريحٌ تُسمَّى النَّكباء.
          ونصرُهُ بالصَّبا: يريد ما أنعم الله به في غزوة الخندق على المسلمين، وكان صلعم والمسلمون في شدَّة وضيقٍ، وتجمَّعتِ المشركون لقتاله، فبعث الله على المشركين ريحًا باردة في ليالٍ شاتيةٍ شديدة البرد، وكانت ريح الصَّبا فأطفأت النيران، وقطَّعت الأطناب، وألقت المضارب والأخبية، وألقى الله عليهم الرعب، فانهزموا في غير قتالٍ ليلًا، وجاء في التفسير أنَّ ريح الصَّبا هي التي حملت ريح يوسف قَبل البشير إلى يعقوب فإليها يستريح كلُّ محزونٍ.
          وقال الدَّاوديُّ: إذا أراد الله نصر قومٍ أتت الرِّياح مِن جهتهم فسدَّت عيون مقاتلتهم فأوهنَتهم، ومنه قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] والرِّيح القَبُول: هي التي تأتي مِن مطلع الشَّمس، وقيل لها قَبول لأنَّها كانت القبلة قبل الإسلام. وقال القزَّاز: سُمَّيت الصَّبا قَبولًا لأنَّها تقابل باب الكعبة، يُقال: صَبَت الرِّيح تَصْبُو صَبًا إذا هبَّت بالقَبُول. وغلَّطَ ابن التِّين الدَّاوديَّ.
          وأمَّا الدَّبُور فهي بفتح الدَّال: الغربية وهي الريِّح العقيم، لأنَّها لا تُلْقِحُ الشَّجر وتهدم البنيان وتقلع الأشجار، وهي مذمومةٌ في القرآن العظيم، وهي التي تقابل الصَّبا، سُمَّيت بذلك لأنَّها تأتي مِن دُبُر الكعبة.
          وفي الحديث تفضيل المخلوقات بعضها على بعض، وإخبار المرء عن نفسه بما خصَّه الله به، والإخبار عن الأمم الماضية وإهلاكها على وجه التَّحدُّث بالنِّعم والاعتراف بها والشكر له لا على وجه الفخر في حقِّنا.