التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب تحويل الرداء في الاستسقاء

          ░4▒ بَابُ تَحْويلِ الرِّداءِ في الاسْتِسْقَاءِ.
          1011- 1012- ذكر فيه حديث عبَّاد بن تَميم عن عَبْدِ اللهِ بن زيدٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم اسْتَسْقَى فَقَلَبَ رِدَاءَهُ).
          ومِن حديث عبَّادٍ أيضًا، عن عمَّهِ عبدِ اللهِ بن زَيْدٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم خَرَجَ إِلَى المُصَلَّى فَاسْتَسْقَى فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ).
          قال أَبُو عَبْدِ اللهِ: كَانَ ابنُ عُيَينةَ يَقُول: هو صَاحِبُ الأذانِ، ولكنَّه وهْمٌ، لأنَّ هذا عبدُ اللهِ بن زيدِ بن عاصمٍ المازنيُّ، مازِنُ الأَنْصارِ، أي: وصاحب الأذان عبد الله بن زيد بن عبد ربِّه بن ثعلبة بن زيد بن الحارث بن الخزرج بن حارثة، فهما وإن جمعهما حسبهما الأكبر الخزرج بن حارثة فقد افترقا في بطنيهما كما افترقا في جدَّيهما، لأنَّ صاحب النِّداء بطنه بنو الحارث بن الخزرج، وصاحب الاستسقاء والوضوء بطنه مِن بني مازن بن النَّجَّار بن عمرو بن الخزرج / لأنَّه عبدُ الله بن زيدِ بن عاصم بن عمرو بن عوف بن مَبْذُول بن عَمْرو بن غَنْم بن مازن.
          وكالذي قال ابن عُيَينةَ: إنَّ صاحب حديث الاستسقاء هو صاحب حديث الأذان وقع في «مسند أبي داود الطَّيالسيِّ» وغيره وهو غلطٌ على ما بينَّاه.
          وروى مسلمٌ لمحمَّد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربِّه، وهذه العمومَة لعبَّاد مِن جهة الأمِّ، لأنَّه عبَّاد بن تميم بن غَزِيَّة بن عمرو بن عطيَّةَ بن خَنْساء بن مَبْذُول بن عمرو بن غَنْم بن مازن بن النَّجَّار، فتميم أخو عبد الله بن زيد بن عاصم بن عمرو بن عوف بن مَبْذُول لأمِّه أمِّ عُمَارة نَسِيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مَبْذُولٍ. وقد نبَّهنا في أوَّلِ كتاب الاستسقاء أنَّ هذا الحديث أخرجه البخاريُّ في عدَّة مواضعَ مِن هذا الباب وغيره، وأنَّه أخرجه باقي السِّتَّة أيضًا.
          قال التِّرْمذيُّ: وفي الباب عن ابن عبَّاسٍ وأبي هُريرةَ وأنسٍ وآبي اللَّحْم.
          أمَّا حُكم الباب، فتحويل الرِّداء سنَّة عند الجمهور، وانفرد أبو حنيفة فأنكره، ووافقه ابن سلَّام مِن قدماء العلماء بالأندلس، والسُّنَّة ماضيةٌ عليه، والحكمة فيه التفاؤل بتغيير الحال إلى الخصب والسَّعة، فإنَّه كان يعجبه الفأل الحسن إذا سمع مِن القول، فكيف مِن الفعل؟ وقد جاء مصرَّحًا به في الدَّارقطنيِّ، مِن حديث جعفر بن محمَّد عن أبيه: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلعم اسْتَسْقَى وَحَوَّل رِدَاءَهُ لِيَتَحَوَّلَ القَحْطُ)).
          قال ابن العربيِّ: وهذا أمارةٌ بينه وبين ربِّه لا على طريق الفأل فإنَّ مِن شرطه أن لا يكون بقصدٍ، وإنَّما قيل له: حوِّل رداءك فيتحوَّل حالك، لا يُقال: إنَّ ذلك لعلَّ رداءه سقط ففعله، لأنَّ الرَّاوي أعرف بالحال، وخالفه ابن بطَّالٍ فقال: فيه دلالةٌ على استعمال الفأل في الأمور، وإن لم يقع بالموافقة، ووقع استعمالًا، واختلف العلماء هل يفعل مَن معه مثل الإمام؟ فذهب مالكُ والشافعيُّ وأحمدُ وأبو ثورٍ إلى إلحاقهم به، وفي «مسند أحمد» مِن حديث عبد الله بن زيدٍ أنَّه صلعم حوَّل رداءَه وقَلَبَ ظهرًا لبطنٍ، وحوَّل النَّاس معه، ولمشاركتهم له في المعنى الذي شُرع له التحويل، وأبعَدَ النُّجْعَةَ بعضُهم فاحتجَّ بحديث: ((إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ)) فما فعله الإمام واجبٌ على المأموم فعله، ذكره ابن بطَّالٍ.
          وقال اللَّيث وأبو يوسف ومحمَّدُ بن عبد الحكم وابنُ وهبٍ: ينفرد به، وعن مالكٍ: إذا حوَّل حوَّل الناس قعودًا، وليس ذلك على النَّساء خوف التَّكشُّف قاله ابن الماجِشُون، وقيل: يحوِّل النَّاس قيامًا كالإمام، وبه قال محمَّد بن الحسن، واختلف قول الشافعيِّ في تنكسيه وأصحُّ قوليه استحبابه، فيجعل أعلاه أسفله وعكسه، وقد أخرجه أبو داود والنَّسائيُّ _اهتمامًا منه_ وصحَّحه ابن حبَّانَ والحاكمُ، وروى ابن عبد الحكم عن مالكٍ: أنَّه إذا فرغ مِن الخطبة استقبل وحوَّل رداءه، ما على ظهره منه يلي السَّماء وما كان يلي السَّماء على ظهره، وبه قال أحمد وأبو ثَورٍ وخيَّر ابن الجلَّاب بين التحويل والتنكيس.
          فائدة: نقل ابن بَزِيزة عن أهل الآثار أنَّ رداءَه صلعم كان طوله أربعةَ أذرعٍ وشِبر في عرض ذراعين وشِبر، كان يلبسه يوم الجمعة والعيد، وعن الواقديِّ: كان بُردُه طول ستَّة أذرعٍ في ثلاثة وشبر، وإزاره مِن نسج عُمان طوله أربعة أذرعٍ وشبر في عرض ذراعين وشبر، كان يلبَسُهما يوم الجمعة والعيد ثمَّ يطويان.
          خاتمة: في الحديث الخروج إلى الصَّحراء للاستسقاء، لأنَّه أبلغ في الافتقار والتواضع، وأوسع للنَّاس.
          وذكر ابن الأثير فرقًا بين رواية: ((خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم يَسْتَسْقِي))، و((خَرَجَ إِلَى المُصَلَّى فَاسْتَسْقَى)) لأنَّ الأولى أبلغ لفظًا مِن الثانية، لأنَّ (يَسْتَسْقِي) في موضع نصبٍ على الحال مِن خرج أي: خرج مستسقيًا، فكان الاستسقاء لها لازمًا حال خروجه، وليس كذلك قوله: خرج فاستسقى، لأنَّه معطوف على خرج بالفاء وليس حالًا، فكان الاستسقاء في هذا مرتبًا على الخروج بخلاف تلك، فإنَّه كان ممتزجًا به دالًّا على أنَّ نِيَّته في الخروج كان له وإن كانت الأخرى كذلك إلَّا أنَّ اللَّفظ لا يدلُّ عليه، ثمَّ ذكر سؤالًا وأجاب عنه، ولا طائل تحته.
          فرع: يكون التحويل عند استقبال القِبلة، ويستقبلها بعد صدر الخطبة الثانية، قال أصحابنا: نحو ثلثها، كما نقله النَّوويُّ عنهم في «شرح مسلمٍ» وعن «الكافي» للزُّبيريِّ: إذا بلغ نصفها، وقال الرُّوْيَانِيُّ في «بحره»: إذا فرغ مِن الاستغفار، وقال ابن التِّين: قلب الرداء لا يكون إلَّا عند استقبال القِبلة، قال: واختلف قول مالكٍ متى يستقبل القِبلة ويحوِّل رداءه؟ فروى عنه ابن القاسم: إذا فرغ مِن الخطبة، ورُوي عنه: في أثناء الخطبة، ويدعو ثمَّ يستقبل النَّاس ويتمُّ الخطبة، واختاره أَصْبغ، وَذُكر عن عبد الملك أنَّهُ يفعله بعد صدرٍ مِن الخطبة، وعن أصبغ أيضًا: في آخر الخطبة الثانية، وعن مالكٍ: أنَّه يحوِّل قبل الاستقبال، حكاها ابن بَزِيزة، وأغرب ابن العربيِّ فقال: المراد بالاستقبال الشُّروع في الصَّلاة، وإلَّا ليس في الدُّعاء استقبال، وإنَّما السَّماء قبلة الدُّعاء، والكعبة قبلة الصَّلاة. قال: ويحتمل أن يكون الاستسقاء يخصُّ الاستقبالين تأكيدًا فيه.
          فرع ثان: قوله: (وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) هو حُجَّة الجمهور أنَّ السُّنَّة في الاستسقاء أن يصلِّيَ ركعتين، ولا زيادة عليهما بالإجماع، ولا يكبِّر عندنا فيها على الأصحِّ، وعن سعيد بن المسيِّب وعمر بن عبد العزيز وأبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزمٍ وداودَ: يكبِّر.
          وحُكي عن ابن عبَّاسٍ ومذهب مالكٍ والأوزاعيِّ وأبي ثورٍ وإسحاقَ أنَّها تُصلَّى ركعتين كصلاة التطوُّع، ولا أذان لها ولا إقامة، بل: الصَّلاة جامعة.