التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما قيل في الزلازل والآيات

          ░27▒ بَابُ مَا قِيْلَ في الزَّلَازِلِ وَالآياتِ.
          ذكر فيه حديثين:
          1036- أحدهما: حديث أبي هُرَيرةَ: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ...) الحديث.
          1037- الثاني: حديث نافعٍ عن / ابن عُمَرَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا...) الحديث.
          الشرح: أمَّا الحديث الأوَّل فالمراد بقبض العلم فيه أكثره فيقلُّ، ومنه ((إِنَّ اللهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ)) يبيِّنه قوله: ((لاَ تَزَالُ طائفةٌ مِن أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ))، وقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] ولن تخلو الأرض مِن قائم لله بالحُجَّةِ، ومِن مبيِّنٍ طريق المحجَّةِ.
          وقوله: (وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ) هو جمع زلزلة: وهي حركةُ الأرض بتحرُّك الموضع منها حتَّى ربَّما يسقط البناء. وظهورها والآيات وَعِيدٌ مِن الربِّ جلَّ جلاله لأهل الأرض: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]، وكذا قال صلعم إنَّه وعيدٌ شديدٌ لأهل الأرض.
          والتخويف والوعيد بهذه الآيات إنَّما يكون عند المجاهرة بالمعاصي والإعلان بها، أَلَا ترى قول عمر حين زلزلت المدينة في أيامه: يا أهلَ المدينةِ مَا أسرعَ ما أحدثتم! واللهِ لئن عادت لأخرجنَّ مِن بين أظهركم، فخشيَ أن تصيبه العقوبة معهم، كما قالت زينبُ: ((يَا رَسولَ الله أَنَهِلِكُ وَفِيْنَا الصَّالحونَ؟ قال: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ)) وإذا هلكت العامَّة بذنوب الخاصَّة بعث الله الصَّالحين على نِيَّاتهم.
          واختُلف في الصَّلاة عند الزلزلة والهادِّ وسائر الآيات كما قال ابن المنذر، فقالت طائفةٌ: يُصلَّى عندها كما في الكسوف، ورُوي عن ابن عبَّاسٍ أنَّه صلَّى في الزَّلزلة بالبصرةِ.
          وقال ابن مَسْعُودٍ: إذا سمعتم هَدًّا مِن السَّماء فافزعوا إلى الصَّلاة، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثورٍ، وكان مالكُ والشافعيُّ لا يريان ذلك، وروى الشافعيُّ أنَّ عليًّا صلَّى في الزلزلة جماعةً. ثمَّ قال: إنْ صحَّ قلتُ به، فمِن أصحابه مَن قال: هذا قولٌ آخر له في الزلزلة وحدَها، ومنهم مَن عمَّم في جميع الآيات، لكنَّه لم يصحَّ عن عليٍّ، ولو ثبتَ حُمِل على الصَّلاة منفردًا، وكذا ما جاء عن غير عليٍّ مِن نحو هذا.
          وقال الكوفيُّون: الصَّلاة مِن ذلك حسنةٌ، وحديث الكسوف (فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ) يعمُّ الزلازل وجميع الآيات، لكن رواية (فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا) _يعني الشَّمس والقمر_ تأباه، وما صلَّى الشارع إلَّا في الشَّمس والقمر، وهو المنقول عن فعله.
          وقال الشافعيُّ: قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} الآية [فصلت:37]، وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} الآية [البقرة:214]. مع ذكر غيرها مِن الآيات في كتابه، فذكر الآيات ولم يذكر معها سجودًا إلَّا مع الشَّمس والقمر، فأمَر أن لا يُسجد لهما وَأَمَر أن يُسجد له، فاحتمل أمره أن يُسجد له عند ذكر الشَّمس والقمر، أن يُؤمر بالصَّلاة عند حادثٍ فيهما، واحتمل أن يكون إنَّما نهى عن السُّجُود لهما كما نهى عن عبادة ما سواه، فدلَّ رسول الله صلعم على أن يُصلَّى عند كسوفهما فأشبه ذلك الاختصاص بهما، ولا يُفعل في شيءٍ غيرهما، هذا معنى كلامه ملخَّصًا.
          وقال ابن التِّين: استحبَّ بعض العلماء أن يفزع إلى الصَّلاة عند الزلازل والظُّلمة، نصَّ عليه عند أشهب في الظُّلمة والرِّيح الشديدة، وقال: يصلُّون أفذاذًا أو جماعةً، وكره في «المدوَّنة» السجود عند الزلازل وسجود الشكر، ويُروى عن مالك جواز السجود عند الشكر، وعلى هذا يجوز عند الزلازل أن يسجد خوفًا.
          وقوله: (وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ) في معناه أربعة أقوالٍ، حكاها ابن الجوزيِّ:
          أحدها: أنَّه قرب القيامة، والمعنى إذا قرُبت القيامة كان مِن شرطها الشحُّ والهرجُ.
          ثانيها: أنَّه قِصَر مدَّة الأزمنة عمَّا جرت به العادة، كما جاء حين تكون السَّنَةُ كالشهر والشَّهرُ كالجمعة والجمعة كاليوم.
          ثالثها: أنَّه قِصَر الأعمار يعني: وقلَّة البركة فينا.
          رابعها: أنَّه تقارب أحوال الناس في غلبة الفساد عليهم، ويكون المعنى: يتقارب أهل الزمان أي: تتقارب صفاتهم في القبائح، ولهذا ذَكر على إثره الهرجَ والشُّحَّ.
          وقال ابن التِّين: قيل: إنَّ الأيَّامَ والليالي والساعات تَقْصُر، ويحتمل أن يريد تقاربَ الآيات بعضها مِن بعضٍ، وقربَ السَّاعة، قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1]، وقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر:1].
          وقال المنذريُّ في «حواشيه»: قيل معناه تطيبُ تلك الأيَّام، حتَّى لا تكاد تُستطال بل تَقْصُرُ، وقيل: على ظاهره مِن قِصَر مددها، وقيل: تقارب أحوال أهله في قلِّة الدِّين حتَّى لا يكون فيهم مَن يأمر بالمعروف، ولا يُنهى عن منكر لغلبة الفسق وظهور أهله، قال الطَّحاويُّ: وقد يكون معناه في ترك طلب العلم خاصَّةً.
          وقوله: (وَيَكْثُرُ الهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ) قال ابن التِّين: الهَرْج ساكن الرَّاء: القتل، كما ذُكر وبتحريكها: أن تُظلِم عينا البعير مِن شدَّةِ الحرِّ.
          وقوله: (حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ) الفيض: الكثير، كما قاله أهل اللغة، قال صاحب «المطالع»: يفيض المال أي: يكثر حتَّى يفضل منه بأيدي مُلَّاكه ما لا حاجة لهم به، وقيل: بل ينتشر في النَّاس ويعمُّهم، وهو الأَوْلى، وقد سلَف نحو هذا الحديث في باب رفع العلم، فليُراجع منه.
          وفي الحديث أشراطٌ مِن السَّاعة قد ظهرت، قال ابن بطَّالٍ: ونحن في ذلك قد قُبض العلم وظهرت الفتن وعمَّت وطبقت، وكثُر الهَرْج _وهو القتل_ وكثُر المال، ولاسيِّما عند أراذل النَّاس، كما جاء في الحديث ((عِنْدَ تَقَارُبِ الزَّمَانِ يَكُونُ أَسْعَدُ النَّاسِ في الدُّنيا لُكَعَ بْنَ لُكَعٍ))، ((ويَتَطَاولُ رُعَاةُ الإِبِلِ البُهْمُ فِي البُنْيَانِ)) وقد شاهدناه عيانًا، أعاذنا الله مِن سوء المنقلب، وختمَ أعمالنا بالسعادة والنَّجاة مِن الفتن. هذا لفظه، فكيف لو أدرك زمننا هذا؟! ولا حول ولا قوة إلَّا بالله.
          وأمَّا الحديث الثاني فيأتي نحوه في الفتن، مِن طريق نافعٍ عن ابن عمر، وأخرجه التِّرْمذيُّ في المناقب، وقال: حسنٌ صحيحٌ غريب، قال: وقد رُويَ هذا الحديث أيضًا عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النَّبِيِّ صلعم، ثمَّ في نسخ وقف هذا الحديث على ابن عمر، وفي نسخة الدِّمياطيِّ رفعه، قال الحُمَيديُّ: وقد اختُلف على ابن عون فيه، فرُوي عنه مسندًا وموقوفًا على ابن عمر مِن قوله، والخلاف إنَّما وقع مِن حسين بن حسن، فإنَّه هو الذي روى الوقف، أمَّا غيره فرواه مرفوعًا.
          قلتُ: وحسين هذا ثقةٌ، مات سنة ثماني وثمانين ومائة، بعد معتمر بسنةٍ، ونقل / ابن بطَّالٍ عن القابسيِّ أنَّه سقط مِن الحديث: (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم) لأنَّ مثل ذلك لا يُدْرَك بالرأي. وكذا نقل ابن التِّين عن أبي الحسن.
          إذا علمت ذلك، فالشَّام مأخوذٌ مِن اليد الشؤمى، وهي اليسرى أي: عن يسار الكعبة، واليمن مأخوذ مِن اليمين لأنَّها عن يمين الكعبة، قال ابن العربيِّ: ما كان عن يمينك إذا خرجت مِن الكعبة فهو يمنٌ، وما كان عن يسارك فهو شامٌ، قال: وقيل: إنَّما سُمِّي اليمن لأنَّهُ عن يمين الشَّمس.
          وقوله: (قالوا: وَفِي نَجدِنَا قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا، وَفِي يَمَنِنَا قَالُوا: وَفِي نَجْدِنَا؟ قال: هُنَالكَ الزَّلاَزِلُ وَالفِتَنُ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ)) وفي رواية أخرى: <ذَكَرَ ذَلِكَ مَرَّتَيْ>ِ)، وفي أخرى: <ثَلَاثًا> وفي رواية عُبَيد الله عن أبيه عبد الله بن عونٍ _أخرجها الإسماعيليُّ_ <فَلَمَّا كَانَ في الثالثةِ أو الرَّابعةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وفي نَجْدِنا، قَالَ: أظنَّه قال: وَفِيْ نَجْدِنَا قالَ: بِها الزَّلازِلُ والفِتَنُ>. وخُصَّت الفتن بالمشرق، لأنَّ الدَّجَّال ويأجوج ومأجوج يخرجون مِن هناك، وروى مَعْمَر عن ابن طاوس عن أبيه عن كعبٍ قال: يخرج الدَّجَّال مِن العراقِ، وقال عن عبد الله بن عمرو بن العاصي: يخرجُ الدَّجَّال مِن كُوَرٍ مِن الكوفةِ.
          و(قَرْنُ الشَّيْطَانِ) ذهب الدَّاوديُّ إلى أنَّ له قرنًا حقيقةً، يطلع مع الشَّمس، ويحتمل أن يريد بالقرن قوَّة الشيطان وما يستعين به على الإضلال، ولا يمتنع أن يخلق الله شيئًا يُسمَّى شيطانًا تطلع الشَّمس بين قرنيه، ويحتمل أن يريد به قبائل مِن النَّاس يستعين بهم الشَّيطان على كفره، وفي حديث: ((القَسْوَةُ وغِلَظُ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ، حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ)).
          وقال ابن بطَّالٍ: أمَّتهُ وحِزبهُ، وقال المهلَّب: إنَّما ترك الدُّعاء لأهل المشرق _والله أعلم_ ليضعفوا عن الشرِّ الذي هو موضوعٌ في جهتهم، ولاستيلاء الشيطان بالفتن فيها كما دعا على أهل مكَّة بسبعٍ كسبع يوسفَ، ليؤدِّبَهم بذلك، وكذا دعا أن ينقل الحمَّى إلى الجُحْفَة، وذلك والله أعلم لِمَا رآه مِن إرداف السَّوداء في المنام، فتأوَّل أنَّهم أحقُّ بمثل هذا البلاء ليضعفوا عمَّا كانوا عليه مِن أذى الناس، وإنَّما لم يقل: في نجدنا، لأنَّه لا يحبُّ أن يدعو بما سبق في عِلْم الله خِلافُه، لأنَّه لا يُبَدَّلُ القول لديه.
          وقوله: (هُنَاكَ الزَّلاَزِلُ) يعني: ما كان بتلك الجهة مِن الحروب والفتن.