التوضيح لشرح الجامع البخاري

حديث: أقام النبي بين خيبر والمدينة ثلاثًا

          5085- الحديث الثَّالث: حديث أنسٍ في قصَّة صفيَّة سلفَ في المغازي في غزوة خَيبرَ [خ¦4197]، وذكر خلفٌ أنَّه رواه أيضًا في الأطعمة، ويحتاج إلى تأويل قوله: (فَقَالَ المُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ...) إلى آخره مع الحديث الَّذي بعده: (أَعْتَقَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا)، وراويهما أنسٌ فإنَّه إذا جعل عتقها صداقها كيف يشكُّون ويقولون: إن حجبها فهي مِنْ أمَّهات المؤمنين، ويحتمل أن يكون قائل ذلك مَنْ لم يعلم عتقه ◙ لها.
          فصلٌ: واحتجَّ به مَنْ أوجب الوليمة، وهو أحد قولي الشَّافعيِّ وداود.
          فصلٌ: ذكر ابن المُرَابِط في قول أنسٍ السَّالف في غزوة خيبر [خ¦4201]: أصدقها نفسها. أنَّه مِنْ رأيه وظنِّه، وإنَّما قَالَ ذلك مدافعةً للسَّائل، ألا ترى أنَّه قَالَ: (فَقَالَ المُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ)، فكيف علم أنسٌ أنَّه أصدقَها نفسَها قبل ذلك، وقد صحَّ أنَّه لم يعلم أنَّها زوجةٌ إلَّا بالحجاب، فدلَّ على أنَّ قوله هذا لم يشهده عليه نبيُّنا ╕ ولا غيره، وإنَّما ظنَّه أنسٌ والنَّاس معه ظنًّا مع أنَّ كتاب الله أحقُّ أن يُتَّبع، قَالَ تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} الآية [الأحزاب:50] وهو دالٌّ على أنَّه عتقها وخيَّرها في نفسها فاختارته فنكحَها بما خصَّه الله تعالى بغير صداقٍ.
          قلتُ: روى أبو الشَّيخ ابن حَيَّان مِنْ حديث شاذِّ بن فيَّاضٍ، حَدَّثنا هاشم بن سعيدٍ، حَدَّثنا كِنَانة عن صفيَّة قالت: أعتقني رسول الله صلعم وجعل عتقي صداقي. وذكر الحربيُّ وابن منده وأبو نُعَيْمٍ وابن عبد البرِّ وغيرهم أنَّه ◙ أصدقَ صفيَّة جاريةً تُدعى رزينة.
          فصلٌ: روى أنسٌ ☺ أنَّه ◙ استبرأ صفيَّة بحيضةٍ، ذكره الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» وأنكرَه ابنُ المدينيِّ، وروى أيضًا مِنْ حديث إسماعيل بن عيَّاشٍ عن الحجَّاج بن أرْطاة عن الزُّهْريِّ عن أنسٍ وهو ضعيفٌ.
          فصلٌ: قد أسلفتُ الخلافَ في عتق الأمَة على أن يكون صداقَها، وهو ممتنعٌ عند أكثر العلماء أنَّه إنَّما يكون صداقًا إذا قارن العقد أو صادف عقدًا، فأمَّا إن تقدَّم عليه فلا يصحُّ، والعتقُ هنا مقدَّمٌ على العقد، فلم يكن صداقًا، فمَنْ أعتقها على أن تُزوِّجه مِنْ نفسها فأبت فلا لزوم عليها لأنَّ الإجبارَ ساقطٌ عنها بزوال الرِّقِّ، فكان لها الخيار.
          وَقَالَ ابن بَطَّالٍ: اختلف العلماء فيمن أعتقَ جاريةً وتزوَّجها، فذهب قومٌ إلى أنَّه إن أعتقها وجعل عتقها صداقها فهو جائزٌ، فإن تزوَّجته / فلا مهرَ لها غير العتاق على حديث صفيَّة، رُوي هذا عن أنسٍ أنَّه فعله، وهو راوي حديث صفيَّة، وهو قول سعيد بن المُسَيِّب والنَّخَعيِّ وطاوسٍ والحسن وابن شِهابٍ، وإليه ذهب الثَّوْريُّ وأبو يوسف وأحمد وإسحاق، وَقَالَ آخرون: ليس لأحدٍ بعد رسول الله صلعم أن يفعل هذا، وإنَّما كان ذلك خاصًّا لرسول الله صلعم لأنَّ الله تعالى أباح له أن يتزوَّج بغير صداقٍ، ولم يجعل ذلك لأحدٍ مِنَ المؤمنين غيره، هذا قول مالكٍ وأبي حنيفة وزُفَر ومُحمَّدٍ والشَّافعيِّ.
          وقد روى حمَّاد بن زيدٍ عن أيُّوب عن نافعٍ عن ابن عمرَ ☻ أنَّه ◙ فعل في جُوَيرية بنت الحارث مثل ما فعله في صفيَّة، أنَّه أعتقها وتزوَّجها وجعل عِتقها صداقها، لكن قَالَ ابن عمَر: إنَّه خاصٌّ به، قَالَ الطَّبَريُّ: ونظرنا في عتق رسول الله صلعم جُوَيرية كيف كان، فروى ابن إسحاق عن مُحمَّد بن جعفر بن الزُّبَير عن عروة عن عائشة ♦: أنَّه لمَّا أصاب رسول الله صلعم بني المصطلق وقعت جُوَيرية بنت الحارث في سهم ثابت بن قيسٍ، فكاتبَتْ على نفسها وجاءتْ تستعين رسول الله صلعم في كتابتها، فقال لها: ((هل لكِ في خيرٍ مِنْ ذلك، أقضي عنك كتابتك وأتزوَّجك؟)) قالت: نعم، فتزوَّجها، فبيَّنت عائشة العتاق الَّذي ذكره ابن عمر الَّذي جعله مهرها، أنَّه أداؤه عنها كتابتها لتعتق بذلك الأداء ويكون مهرها لها، فلما كان لرسول الله صلعم أن يجعل ذلك مهرًا لها، كان ذلك له خاصًّا دون أمَّته، كما كان خاصًّا أن يجعل العتاق الَّذي تولَّاه هو مهرًا.
          فإن قلت: لم جعل العتق كالمال؟ قيل: لأنَّها ملكتة بعض ما كان له فلذلك لم يجب عليها بذلك العتاق.
          فصلٌ: قد أسلفنا الكلام على رواية: (ثُمَّ أصدقها) قَالَ ابن حَزْمٍ: ولو صحَّت لم يكن فيه حجَّةٌ لأنَّه ليس فيه أنَّه لا يجوز له نكاحها إلَّا بمهرٍ جديدٍ، ونحن لا نمنع مِنْ أن يجعل لها مهرًا آخر، وقد سلف عنه أنَّه تفرَّد به يحيى، وأنَّه ضعيفٌ جدًّا، وليس كما ذكر، فقد قَالَ فيه ابن نُمَيْرٍ: كان ثقةً، وهو أكبر مِنْ هؤلاء كلِّهم، ورضيَه يحيى بن مَعينٍ، وخرَّج له الشَّيخان، وهو حافظٌ صاحب حديثٍ صدوقٌ، قَالَ الحاكم: وسُئل عنه أبو بكرٍ الأعين، فقال: ثقةٌ، وقد ظُلم.
          وزعم الواقِديُّ أنَّه ◙ جعل صداق جُوَيرية عتقَ كلِّ أسيرٍ مِنْ بني المصطلق؛ قاله الشَّعْبيُّ، وقيل: أربعين أسيرًا؛ قاله مجاهدٌ، وعند الطَّبَرانيِّ: أنَّ أباها لمَّا أسلم زوَّجها مِنْ رسول الله صلعم، قَالَ ابن المُنْذرِ: قضى كتابتها وتزوَّجها كما فعل في حديث صفيَّة سواءً.
          ولمَّا ذكر ابن حَزْمٍ ما ذكره الطَّحَاويُّ عن أحمد بن داود: حَدَّثنا يعقوب بن حُميدٍ، حَدَّثنا سليمان بن حربٍ، حَدَّثنا حمَّاد بن زيدٍ عن ابن عَونٍ قَالَ: كتب إليَّ نافعٌ أنَّ النَّبِيَّ صلعم أخذ جُوَيرية في غزوة بني المصطلق فأعتقها وتزوَّجها، وجعل عِتقها صداقها، أخبرني بذلك ابن عمرَ وذلك في ذلك الجيش. قَالَ الطَّحَاويُّ: كذا روى هذا ابنُ عمرَ، ثُمَّ قَالَ: هو مِنْ بعد النَّبِيِّ صلعم في مثل هذا أنَّه يجدِّد لها صداقًا، ثُمَّ ساقه عن سليمان بن شُعيبٍ، حَدَّثنا الخَصِيْبُ، حَدَّثنا حمَّاد بن سَلَمة عن عبيد الله عن نافعٍ عن ابن عمرَ ☻ مثل ذلك، قَالَ: فهذا ابنُ عمر قد ذهب إلى أنَّ الحُكم في ذلك بعد رسول الله صلعم غير ما كان لرسول الله صلعم، فيحتمل أن يكون ذلك شيئًا سمعَه مِنْ رسول الله صلعم، ويحتمل أن يكون على ذلك المعنى الَّذي استدللنا به على خصوصيَّته ◙ بذلك دون النَّاس، ثُمَّ نظرنا فوجدنا عائشة ♦ قد روت عن رسول الله صلعم: أنَّه لمَّا جاءته جُوَيْرية تستعينُه في كتابتها قَالَ لها: ((هل لكِ في خيرٍ مِنْ ذلك، أقضي عنك كتابتك وأتزوَّجك؟)) قالت: نعم، فتزوَّجها، فبيَّنت عائشةُ العتاق الَّذي ذكر ابن عمر أنَّ رسول الله صلعم تزوَّجها عليه، وجعل مهرها كيف هو، وهو إنَّما هو أداؤه عنها كتابتها لتَعْتِقَ بذلك الأداء، ثُمَّ كان بذلك الإعتاق الَّذي وجب بأداء رسول الله صلعم إلى الَّذي كاتبها مهرًا لها عنْ رسول الله صلعم على هذا، وليس لأحدٍ أن يفعله لأنَّه خاصٌّ به دون الأمَّة.
          قَالَ: الَّذي نعرفه عن ابن عمر هو ما رُوِّيناه عن سعيد بن منصورٍ، حَدَّثنا هُشيمٌ وجريرٌ كلاهما، عن المغيرة بن مِقْسمٍ عن إبراهيم النَّخَعيِّ قَالَ: كان ابن عمرَ يقول في الرَّجل يُعْتِق الجارية ثُمَّ يتزوجها: كالرَّاكب بدنتَه، قَالَ: فإنَّما كره ابن عمرَ زواجَ المرءِ مَنْ أعتقها لله فقط، فبطل كيدهم الضَّعيف في هذه المسألة. قلتُ: النَّخَعيُّ لم يسمع مِنِ ابن عمر ألبتَّة كما صرَّح به هو وغيره، قَالَ: وقوله هو مِنْ بعده في مثل هذا أنَّه يجدِّد لها صداقًا، قَالَ: ولم يذكر كلامَ ابن عمرَ كيف كان، ولعلَّه لو أورده لكان خلافًا لظنِّ الطَّحَاويِّ، وهذا الحديث ليس ممَّا رواه أصحاب حمَّاد بن سَلَمة، فهو أمرٌ ضعيفٌ مِنْ كلِّ جهةٍ، والخبرً الأوَّل مِنْ رواية يعقوب بن حُميدٍ وهو ضعيفٌ.
          قلت: والخَصِيْبُ السَّالف ثقةٌ، وممَّن ذكره فيهم ابن حبَّان وَقَالَ: ربَّما أخطأ، وصحَّحه الحاكم مِنْ طريقه، وَقَالَ: لم يتكلَّم فيه أحدٌ بحجَّةٍ، وخرَّج له البُخاريُّ، وَقَالَ ابن عَديٍّ: لا بأس به وبروايته.
          ثُمَّ قَالَ ابن حَزْمٍ: وذكروا الخبر الَّذي رُوِّيناه مِنْ طريق مُحمَّد بن إسحاق عن مُحمَّد بن جعفرٍ عن عروة عن عائشة: أنَّ جُوَيرية قالت لرسول الله صلعم... الحديث المذكور أوَّلًا، قَالَ: يُقال قبل كلِّ شيءٍ: هذا خبرٌ لا تقوم به حجَّةٌ إنَّما رُوِّيناه عن ابن إسحاق مِنْ طريقين ضعيفين: أحدهما: مِنْ طريق زيادٍ البَكَّائيِّ، والآخر: مِنْ حديث أسد بن موسى، وكلاهما ضعيفٌ. قلت: أسدٌ ثقةٌ كما صرَّح به غير واحدٍ، وقد رواه عن ابن إسحاق أيضًا _يونس بن بُكَيرٍ_ كما أفاده البَيْهَقيُّ في «دلائله».
          فرعٌ: نقل ابن أبي شيبة عن عَطاءٍ: أنَّها لو قالت لعبدِها: أعتقتُك على أن تتزوَّجني فكأنَّها بدأت بعتقِه، وكذا قاله أبو عُبيد بن عُميرٍ، ولمَّا سُئل مجاهدٌ عن هذا غضب وَقَالَ: في هذا عقوبةٌ مِنَ الله ومِنَ السُّلطان، وفي روايةٍ عن عَطاءٍ وعُبيدٍ: تعتقه ولا تشارطه.
          فصلٌ: فيه مِنَ الفقه أنَّه يجوز للسَّيِّد إذا أعتق أَمَته أن يزوِّجها مِنْ نفسه دون السُّلطان، وكذلك الوليُّ في وليَّته، وفيه اختلافٌ للعلماء يأتي في باب: إذا كان الوليُّ هو الخاطب.
          فصلٌ: قَالَ ابن المُنْذرِ: وفي تزويجه ◙ صفيَّة مِنْ نفسه إجازة النِّكاح بغير شهودٍ إذا أُعلن، وهو قول الزُّهْريِّ وأهل المدينة ومالكٍ وعبيد الله بن الحسن وأبي ثَوْرٍ، ورُوي عن ابن عمر أنَّه تزوَّج ولم يحضر شاهدين، وأنَّ / الحسن بن عليٍّ زوَّج عبد الله بن الزُّبَير وما معهما أحدٌ مِنَ النَّاس، ثُمَّ أعلنوه بعد ذلك، وَقَالَت طائفةٌ: لا يجوز النِّكاح إلَّا بشاهدَي عدلٍ، رُوي ذلك عن ابن عبَّاسٍ وعطاءٍ والنَّخَعيِّ وسعيد بن المُسَيِّب والحسن، وبه قَالَ الثَّوْريُّ والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأحمد، وَقَالَ أبو حنيفة: لا يجوز إلَّا بشاهدين، ويجوز أن يكونا محدودين في قذفٍ أو فاسقين أو أعميَين.
          وقام الإجماع على ردِّ شهادة الفاسق، وكان يزيد بن هارون مِنْ أصحاب الرَّأي ويقول: أَمرنا الله بالإشهاد عند التَّبايع، فقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282] وأمر بالنِّكاح ولم يأمر بالإشهاد عليه، فزعم أصحاب الرَّأي أنَّ البيع الَّذي أمر الله بالإشهاد عليه جائزٌ مِنْ غير شهودٍ، وأنَّ النِّكاح الَّذي لم يأمر فيه بالإشهاد عنده لا يجوز إلَّا بشهودٍ.
          قَالَ ابن المُنْذرِ: وقد اختلف في ذلك أصحاب الرَّسول، وجاء الحديث الثَّابت الدَّالُّ على إجازة النِّكاح بغير شهودٍ، وهو حديث تزويجه ◙ صفيَّة، ألا ترى أنَّ أصحابه اختلفوا، فلم يعرفوا أكانت زوجةً له أو ملْكَ يمينٍ، واستدلُّوا على أنَّه تزوَّجها بالحجاب، فدلَّ ذلك على أنَّه ◙ لم يشهدهم على إنكاحها واجتزأ فيه بالإعلام، ولو كان هناك شهودٌ ما خفي ذلك عليهم.
          قلتُ: نكاحه عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام لا يحتاج إلى شهودٍ لأنَّه مأمونٌ لا يقع منه جحدٌ أصلًا بخلافنا، وفيه الحكم بالدَّليل.
          فصلٌ: قوله: (فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّأَ لَهَا خَلْفَهُ) فهو معنى قولِه في غزوة خيبرَ: يحوي لها وراءه بعباءةٍ، أي يدير كساءً حول سنام البعير لتركب عليه، وهو الحَوِيَّة، قَالَ الأصمعيُّ: والحَوِيَّة كساءٌ محشوٌّ بثُمَامٍ أو لِيْفٍ يُجعَل على ظهر البعير، وفي قصَّة بدرٍ أنَّ أبا جهلٍ _لعنه الله_ بعث عُمير بن وَهْبٍ ليحزر أصحاب رسول الله صلعم، فطاف عُميرٌ برسول الله صلعم، فلمَّا رجع قَالَ: رأيت الحَوايا عليها المنايا، نواضِحُ يثربَ تحملُ الموتَ النَّاقع.