التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يكره من التبتل والخصاء

          ░8▒ (بَابُ: مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ وَالْخِصَاءِ).
          ذكر فيه أحاديث:
          5073- أحدها: حديث سعد بن أبي وقَّاصٍ ☺: (رَدَّ رَسُولُ الله صلعم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا).
          5074- وفي لفظٍ: (لَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ _يَعْنِي النَّبِيَّ صلعم_ عَلَى عُثْمَانَ، وَلَوْ أَجَازَ لَهُ التَّبَتُّلَ لاَخْتَصَيْنَا)، وقد أخرجه مسلمٌ أيضًا.
          5075- ثانيها: حديث قيسٍ قَالَ: (قَالَ عَبْدُ الله) يعني ابنَ مسعودٍ: (كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم وَلَيْسَ لَنَا شَيء...) الحديث، سلف قريبًا [خ¦5071] وسيأتي.
          5076- ثالثها: (وَقَالَ أَصْبَغُ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ، وإِني أَخَافُ عَلَى نَفْسِي العَنَتَ وَلاَ أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ، فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قُلْتُ ذَلِكَ فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، جَفَّ القَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ، فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ).
          الشَّرح: الكلام عليه مِنْ وجوهٍ:
          أحدها: كذا وقع في الأصول: (وَقَالَ أصبغ...) إلى آخره، وكذا ذكره أبو مسعودٍ وخلفٌ، وخالف ذلك أبو نُعَيْمٍ والطَّرْقيُّ فقالا: رواه البُخاريُّ عن أصبغ، ووصله الإسماعيليُّ فرواه عن القاسم، حَدَّثنا الرَّماديُّ، حَدَّثنا أصبغُ به.
          وأمَّا ما وقع في «كتاب الطَّرْقيِّ»: أصبغ بن مُحمَّدٍ فغير جيِّدٍ، لأنَّا لا نعلمُ في البُخاريِّ شيخًا اسمُه أَصبغ بن مُحمَّدٍ، بل ولا في باقي السِّتَّة، وإنَّما هذا أصبغ بن الفرج وَرَّاق ابن وَهْبٍ، وأخرجه النَّسَائيُّ مِنْ حديث أنس بن عِياضٍ عن الأوزاعيِّ عن الزُّهْريِّ به، وَقَالَ: الأوزاعيُّ لم يسمعه مِنَ الزُّهْريِّ، وهو حديثٌ صحيحٌ.
          ثانيها: العَنَتُ بالتَّحريك الحملُ على المكروه، وقد عَنِتَ يَعْنَتُ، وأَعْنَتَهُ غيرُه، والعَنَتُ الإثمُ، وقد عَنِتَ: اكتسب إثمًا، والعَنَتُ الفجور والزِّنا وكلُّ أمرٍ شاقٍّ، ذكره في «المنتهى» وفي «التَّهذيب»: الإِعْنَاتُ: تكليفُ غير الطَّاقة، وَقَالَ ابن الأنباريِّ: أصله التَّشديد.
          ثالثها: التَّبتُّلُ الانقطاعُ عن النِّساء وترك النِّكاح انقطاعًا إلى العبادة، وأصله القطع، ومنه فاطمة البَتول، ومريم البَتول لانقطاعهما عن نساء زمانهما دينًا وفضلًا ورغبةً في الآخرة، وصدقةٌ بتلةٌ أي منقطعةٌ عن مالكها، قَالَ الطَّبَريُّ: والتَّبتُّل الَّذي أرادَه عثمان بن مَظعونٍ هو ما عزم عليه مِنْ ترك النِّساء والطَّيِّب وكل ما يُلتَذُّ به ممَّا أحلَّه الله لعباده مِنَ الطَّيِّبات مطلقًا، قَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} الآية [المائدة:87] ورُوي هذا عن ابن عبَّاسٍ وجماعةٍ. /
          وقول أبي زيدٍ: التَّبتُّلُ العزوبة، يريد نوعًا مِنْ أنواع التَّبتُّل.
          رابعها: إن قيل: مِنْ أين يلزمُ مِنْ جواز التَّبتُّل عن النِّساء جواز الاختصاء، وهو قطع عضوين شريفين بهما قوام النَّسل، وربَّما أفضى بصاحبه إلى الهلاك، هو محرَّمٌ بالاتِّفاق؟ فالجواب: أنَّ ذلك لازمٌ مِنْ حيث إنَّ مطلقَ التَّبتُّل يتضمَّنه، وكأنَّ قَائل ذلك وقع له أن التبتُّل الحقيقي الَّذي تؤمن معه شهوة النِّساء هو الخصاء، وكأنَّه أخذه بأكثر ما يدلُّ عليه الاسم، والألم العظيم مغتفرٌ في جنب صيانة الدِّين، فقد يُغتفر الألم العظيم في جنب ما هو أعظم منه كقطع اليد للأَكَلَةِ، وكالكيِّ والبطِّ وغير ذلك، ودعوى إفضائه إلى الهلاك غالبًا غير مسلَّمٍ، بل وقوع الهلاك منه نادرٌ، فلا يُلتفت إليه، وخِصاء البهائم يشهد لذلك، وما ذكرناه إنَّما هو تقدير ما وقع لسعدٍ، ولا يُظنُّ أنَّ ذلك يجوز لأحدٍ اليوم، بل هو محرَّمٌ بالإجماع، وكلُّ ما ذكرناه إنَّما هو مبنيٌّ على الأخذ بظاهر قوله: (لاَخْتَصَيْنَا) ويحتمل أن يريد سعدٌ: لمنعنا أنفسنا منعَ المُختصي، والأوَّل هو الظَّاهر.
          قَالَ المُهَلَّب: وإنَّما نهى ◙ عن التَّبتُّل والتَّرهُّب مِنْ أجل أنَّه مكاثرٌ بهم الأمم يوم القيامة، وأنَّه في الدُّنيا يقاتل بهم طوائف الكفَّار، وفي آخر الزَّمان يقاتلون الدَّجَّال، فأراد ◙ أن يُكثر النَّسل.
          قلت: وإذا كان التَّبتُّل الَّذي لا جناية فيه على النَّفس إنَّما هو منعها عن المباح لها، فمنعها ما فيه جنايةٌ عليها بإيلامها _وهو الخِصاء_ أحرى أن يكون منهيًّا عنه، وثبت أنَّ قطع شيءٍ مِنَ الأعضاء مِنْ غير ضرورةٍ تدعو إلى ذلك حرامٌ، وأمَّا حديث أبي أمامة رفعَه: ((أربعةٌ لعنَهم اللهُ فوقَ عرشه وأمَّنَتْ عليه الملائكة، الَّذي يخصي نفسه عن النِّساء...)) الحديثَ، فهو منكرٌ كما قاله أبو حاتمٍ في «علله»،، ولا التفاتَ إلى ما رُوي: ((خيرُكم بعدَ المئتين الخفيف الحاذُّ الَّذي لا أهل له ولا ولد))، فإنَّه ضعيفٌ بل موضوعٌ، وكذا قول حُذيفة: إذا كان سنة خمسين ومئةٍ فلأن يربِّي أحدكم جرو كلبٍ خيرٌ له مِنْ أن يُربِّي ولدًا، وممَّا يوهِّن ذلك أنَّه لو قيل بذلك لبطل النَّسل والجهاد والدِّين، وغلب أهل الكفر مع ما فيه مِنْ تربية الكلاب.
          فرعٌ: قَالَ ابنُ حَزْمٍ: وليس النِّكاح فرضًا على النِّساء لقوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [النور:60]، وقوله ◙ في الخبر الثَّابت: ((الشَّهادةُ سَبعٌ سوى القتل)) فذكر ◙: ((المرأة تموتُ بجُمْعٍ شهيدةٌ)) قَالَ: وهي الَّتي تموت في نفاسها، ((والمرأة تموتُ بِكرًا لم تطمث)) وفيما ذكره نظرٌ، فالنِّساء شقائق الرِّجال، وحديث عليٍّ: ((ثلاثٌ لا تؤخَّر)) ومنها: ((الأَيِّم إذا وجدَتْ كُفؤًا))، وللحاكم مِنْ حديث عائشة مرفوعًا: ((ما مِنْ شيءٍ خيرٌ لامرأةٍ مِنْ زوجٍ أو قبرٍ))، ولابن الجَوْزيِّ في كتاب «النِّساء» مِنْ حديث زيد بن أسلم عن أبيه قَالَ عمر ☺: زوِّجوا أولادَكم إذا بلغوا ولا تحملوا آثامهم، وعن خُلَيْد بن دَعْلَج قَالَ: قَالَ الحسن: بادروا ببناتِكم التَّزويج.
          وللخلَّال في «علله» عن ابن أبي نَجِيحٍ المكِّيِّ رفعه: ((مسكينةٌ مسكينةٌ امرأةٌ ليست لها زوجٌ))، قالوا: يا رسول اللهِ، وإن كانت غنيَّةً مِنَ المال؟ قَالَ: ((وإنْ كانَت غنيَّةً مِنَ المال))، وَقَالَ بمثل ذلك في الرَّجل. قال ابن مَعينٍ: هذا مرسلٌ، وأخرجه أبو نُعَيْمٍ والطَّبَرانيُّ في «الأوسط» أيضًا.
          فصل: ينعطف على ما مضى: لا يجوزُ لأحدٍ مِنَ المسلمين تحريمُ ما أحلَّ الله لعباده المؤمنين على نفسه مِنْ طيِّبات المطاعم والملابس والمناكح إذا خاف على نفسه بإحلال ذلك لها بعض الخبث والمشقَّة أو أَمِنه، وذلك لردِّه ◙ التبتلَ على عثمان بن مَظْعونٍ فثبتَ أنَّه لا فضلَ في ترك شيءٍ ممَّا أحلَّه الله لعباده، وأنَّ الفضل والبرَّ إنَّما هو في فعل ما ندب عبادَه إليه، وعمل به رسولُه وسنَّه لأمَّته، واتَّبعه على منهاجه الأئمَّة الرَّاشدون إذ كان خيرُ الهدي هديُه، فإذا كان ذلك تبيَّن خطأ مَنْ آثرَ لباس الشَّعر والصُّوف على لباس القطن والكتَّان إذا قدر على لبس ذلك مِنْ حلِّه، وآثر أكلَ الفول والعدس على أكل خبز البُرِّ والشَّعير، وترك أكلَ اللَّحم والوَدَك حذرًا مِنْ عارض الحاجة إلى النِّساء، فإنْ ظنَّ الظَّانُّ أنَّ الفضلَ في غير الَّذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله مِنَ المشقَّة على النَّفس وصرف فضل ما بينهما مِنَ القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظنَّ خطأً، وذلك أنَّ الأَولى للإنسان بالنَّفس إصلاحُها وعونُها له على طاعة ربِّها، ولا شيءَ أضرَّ للجسم مِنَ المطاعم الرَّديئة لأنَها مفسدةٌ لعقله ومضعفةٌ لأدواته الَّتي جعلها الله تسبُّبًا إلى طاعاته.
          فصلٌ: وفيه أنَّ خصاء بني آدم حرامٌ، وذلك أنَّ التَّبتُّل إذا كان منهيًّا عنه ولا جناية فيه على النَّفس غير منعها المباح، فمنعها ما فيه جنايةٌ عليها بإيلامها وتعذيبها بقطع بعض الأعضاء أحرى أن يكون منهيًّا عنه، فثبت بها أنَّ قطعَ شيءٍ مِنْ أعضاء الإنسان مِنْ غير ضرورةٍ تدعوه إلى ذلك حرامٌ كما أسلفناه، وسواءٌ في ذلك الصَّغير والكبير، ولأنَّ فيه تغييرَ خلق الله، ولما فيه مِنْ قطع النَّسل وتعذيب الحيوان كما أسلفناه، وأمَّا غير الآدميِّ فإن كان لا يؤكل فكذلك، كما قاله البَغَويُّ، وأمَّا المأكول فيجوز في صغره دون كبره.
          فصلٌ: وقوله: (فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ أَوْ ذَرْ) وقع في بعض الأصول: <اقْتَصِرْ>بدل: (اخْتَصِ) وهذا مثل قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] لأنَّه أمرٌ بعدَ حظرٍ، فهو في معنى الزَّجر، قَالَ ابن الجَوْزيِّ: ليس بأمرٍ، وإنَّما المعنى: إن فعلت أو لم تفعل فلا بدَّ مِنْ نفوذ القدر، وقد رأينا بعض جهَّال الأحداث يزهد في صباه، فلمَّا اشتدت عليه العزوبة جبَّ نفسه، وبعضهم جبَّها قَالَ: لحيائه مِنْ ربِّه، فانظر ما يصنع الجهل بأهله، فأوَّل ما يُقال لهذا: ليس لك أن تتصرَّف في شيءٍ إلَّا بإذنٍ مِنْ ربِّ العالمين، وهذا أمرٌ لا يقال ما أذن له، بل قد حرَّمه، ثُمَّ ينبغي أنَّ الله وضع هذا الأمر لحكمةٍ وهي إيجادُ النَّسل، فمَنْ تسبَّب في قطعه فقد ضادَّ الحكمةَ، ثُمَّ مِنَ النِّعمة على الرَّجل خلقُه رجلًا ولم يُجعل امرأةً، فإذا جبَّ نفسه اختار النَّقص على التَّمام، فلو مات مِنْ ذلك استحقَّ النَّار مع مكابدته في العاجلة شدَّةً لا توصف، ومنع نفسه لذَّةً عاجلة، ووجود ولدٍ يُذكر به أو يُثاب عليه، وكان نسبه متَّصلًا مِنْ آدم إليه فتسبب بقطع ذلك المتَّصل مع تشويهه نفسَه وهو أبعدُ له مما رجاه، فإنَّ قطع الآلة لا يزيلُ ما في القلب مِنَ الشَّهوة بل يزداد أضعافًا فيما ذكرَه الجاحظ في كتاب «الحيوان» وكتاب «الخِصيَان»، والعجيب مِنَ المتزهِّد الَّذي قَالَ: إنَّه استحيا مِنَ الله ممَّا وضعه الله فيه، فلو شاء الله لم يضع هذا في نفسه.
          فصلٌ: وفي حديث أبي هريرة إثباتُ القدر وأنَّ المرءَ لا يفعلُ باختياره شيئًا لم يكن سبق في علم الله سبحانه.
          فصلٌ: قول ابن مسعودٍ: (ثُمَّ أَرخَصَ لَنَا أَنْ نَنْكِحَ بِالثَّوْبِ) يعني المتعة الَّتي كانت حلالًا في أوَّل الإسلام ثُمَّ نُسخت بالعدَّة والميراث والصَّدقات.