التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الأكفاء في الدين

          ░15▒ (بَابُ: الأَكْفَاءِ فِي الدِّينِ، وَقَوْلِهِ تعالى: {وَهُوَ الَّذي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:54]).
          ذكر فيه أربعة أحاديث:
          5088- أحدها: أبي اليَمَانِ: (عَنْ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْريِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ♦: أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيْعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ _وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صلعم_ تَبَنَّى سَالِمًا، وَأَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَهْوَ مَوْلَى امْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، كَمَا تَبَنَّى النَّبِيُّ صلعم زَيْدًا، وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلًا فِي الجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إِلَيْهِ وَوَرِثَ مِنْ مِيرَاثِهِ، حتَّى أَنْزَلَ اللهُ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5] فَرُدُّوا إِلَى آَبَائِهِمْ، فَمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ أَبٌ كَانَ مَوْلًى وَأَخًا فِي الدِّينِ، فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو القُرَشِيِّ ثُمَّ العَامِرِيِّ _امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ_ النَّبِيَّ صلعم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَرى سَالِمًا وَلَدًا وَقَدْ أَنْزَلَ الله فِيهِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، فَذَكَرَ الحَدِيثَ).
          5089- ثانيها: حديث عَائِشَةَ ♦ قَالَتْ: (دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَير فَقَالَ: لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الحَجَّ؟ قَالَتْ: والله لاَ أَجِدُنِي إلَّا وَجِعَةً، فَقَالَ لَهَا: حُجِّي وَاشْتَرِطِي، وقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي. وَكَانَتْ تَحْتَ المِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ).
          5090- ثالثها: حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺: (عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ).
          5091- رابعها: حديث سَهْلٍ قَالَ: (مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنَ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟ قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَلَّا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ ألَّا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَلَّا يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا).
          الشَّرح: هذا الحديث _أعني الأوَّل_ سلف في بابٍ مجرَّدٍ عقب باب: شهود الملائكة بدرًا [خ¦4000] مِنْ حديث عُقَيلٍ عن الزُّهْريِّ، وأخرجه أبو داود مِنْ حديث يونس عن الزُّهْريِّ عن عروة عن عائشة وأمِّ سلمة ☻.
          ورواه النَّسَائيُّ مِنْ حديث أبي اليمان بإسناده مختصرًا، ومِنْ حديث يحيى بن سعيدٍ عن الزُّهْريِّ عن عروة وابن عبد الله بن ربيعة عن عائشة، قَالَ الذُّهْليُّ في هذا الحديث: ورواه عُقَيلٌ عن الزُّهْريِّ عن عروة وأبو عائذ الله بن ربيعة عن عائشة، ورواه شُعيبٌ عن الزُّهْريِّ عن عروة وأبو عائذ الله بن ربيعة عن عائشة وأمِّ سَلَمة، ورواه يحيى بن سعيدٍ الأنصاريُّ عن الزُّهْريِّ عن عروة وأبو عائذ الله بن ربيعة عن عائشة وأمِّ سَلَمة، ورواه يونس عن الزُّهْريِّ عن عروة وابن عبد الله بن ربيعة في قصَّة سالمٍ مولى أبي حُذيفة وسهلة بنت سُهيلٍ، قَالَ: ورواه عبد الرَّحْمَن بن خالد بن مُسافرٍ عن الزُّهْريِّ عن عُروة وعَمْرة عن عائشة، ورواه مَعمرٌ عن الزُّهْريِّ عن عروة عن عائشة، ورواه ابن أخي ابن شِهابٍ عن عمِّه بمثل حديث مَعمرٍ، ورواه مالكٌ عن الزُّهْريِّ عن عُروة، لم يذكر عائشة.
          قَالَ: وهذه الوجوه عندنا محفوظةٌ غير حديث ابن مُسافرٍ، فإنَّه لم يتابعه عليه أحدٌ مِنْ أصحاب الزُّهْريِّ، غير أنِّي لست أقف على هذا الرَّجل المقرون مع عروة، إلَّا أنِّي أتوهَّم أنَّه إبراهيم _وأمَّا أبو عائذ الله فمجهولٌ ليس بمعروفٍ_ ابن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن ربيعة بن أمِّ كلثومٍ بنت الصِّدِّيق، فإنَّ الزُّهْريَّ قد روى عنه حديثين، وهو برواية يونس بن يزيد ويحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ أشبه مِنْ حيث قالا: عن ابن عبد الله بن ربيعة، وهذا عندي أوجه _والله أعلم_ إبراهيم بن عبد الرَّحْمَن الَّذي ذكرناه.
          قَالَ الحُمَيديُّ في «جمعه»: وأخرجه البَرْقانيُّ في كتابه بطوله مِنْ حديث أبي اليمان بسنده بزيادة: فكيف ترى يا رسول الله صلعم؟ قَالَ: ((أَرْضِعيه))، فأرضعته خمس رضعاتٍ، فكان بمنزلة ولدها مِنَ الرَّضاعة، فبذلك كانت عائشة تأمرُ بنات أختها وأخيها أن يُرضعن مَنْ أحبَّت عائشة أن يراها ويدخل عليها _وإن كان كبيرًا_ خمسَ رضعاتٍ فيدخل عليها، وأبت أمُّ سَلَمة وسائر أزواج النَّبِيِّ صلعم أن يُدْخلن / عليهنَّ بتلك الرَّضاعة أحدًا مِنَ النَّاس حتَّى يكون في المهد، وقلنَ لعائشة ♦: والله ما ندري لعلَّه رخصةٌ لسالٍم دون النَّاس.
          وفي مسلمٍ مِنْ حديث القاسم عن عائشة: جاءت سهلةُ إلى النَّبِيِّ صلعم فقالت: يا رسول الله، إنِّي أرى في وجه أبي حذيفة مِنْ دخول سالمٍ، فقال: ((أَرضِعيهِ))، فقالت: وكيف أرضعه وهو رجلٌ كبيرٌ؟ فتبسم وَقَالَ: ((قد علمتُ أنَّه رجلٌ كبيرٌ))، وفي رواية ابن أبي مُلَيكة: ((أرضعيه تَحرمي عليه ويذهبُ الَّذي في وجه أبي حذيفة))، ولمالكٍ: ((أرضعيه خمسَ رضعاتٍ))، وهو ترسيخٌ لحديث أمِّ الفضل الصَّحيح المرفوع: ((لَا تُحرِّم الإِمْلاجَةُ ولا الإملاجتان))، وعن أبي هريرة: ((لا تُحرِّم المصَّة ولا المصَّتان)) صحَّحه عبد الحقِّ، وحديثُ أمِّ الفضل الآخر المرفوع: ((يحرِّم مِنَ الرَّضاعة المصَّة والمصَّتان)) ضعيفٌ.
          فصلٌ: قولها: (وَأَنْكَحَهُ ابنةَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الوَلِيدِ) وقع في «الموطَّأ» أنَّ اسمَها فاطمة بنت الوليد، ووهم مَنْ ضبطه بضمِّ الهمزة والتَّاء.
          وقوله: (وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ) هي سلمى، وقيل ثُبَيْتَة بنت يَعَارٍ، وَقَالَ أبو طوالة: عَمْرَة بنت يعارٍ فيما ذكره أبو عمر.
          فصلٌ: اختلف العلماء في الأكفاء مَنْ هم، فقال مالكٌ: الأكفاءُ في الدِّين دون غيرهم، والمسلمون بعضهم لبعضٍ أكفاءٌ، ويجوز أن يتزوَّج العربيُّ والمولى العربيَّة، رُوي ذلك عن عمر قَالَ: لستُ أبالي أيَّ المسلمين نكحتُ وأيَّهم أُنكحتُ، وبمثله عن ابن مسعودٍ، ومِنَ التَّابعين عمر بن عبد العزيز وابن سيرين.
          وَقَالَ أبو حنيفة: قريشٌ كلُّهم أكفاء بعضهم لبعضٍ، والعرب أكفاء بعضهم لبعضٍ، ولا يكون أحدٌ مِنَ العرب كفؤًا لقريشٍ ولا أحدٌ مِنَ الموالي كفؤًا للعرب، ولا يكون كفؤًا مَنْ لا يجد المهر والنَّفقة. وَقَالَ الشَّافعيُّ: ليس نكاحُ غير الأكفاء بمحرَّمٍ فأردَّه بكلِّ حالٍ، وإنَّما هو تقصيرٌ بالمتزوِّجة والأولياء، فإن تزوَّجت غير كفؤٍ فإن رضيَتْ به وجميع الأولياء جاز، ويكون حقًّا لهم تركوه، وإن رضيت به وجميع الأولياء إلَّا واحدًا منهم فله فسخُه. وَقَالَ بعضهم: إنْ رضيتْ به وجميع الأولياء لم يجز، وكان الثَّوْريُّ يرى التَّفريق إذا نكح مولًى عربيَّةً، ويشدد فيه، وَقَالَ أحمد: يفرَّق بينهما.
          واحتج الَّذين جعلوا الكفاءة في النَّسب والمال، فقالوا: العارُ به يدخل على الأولياء والمناسبين لأنَّ حقَّ الكفاءة رفعُ العار عنها وعنهم، قالوا: وقد رُوي عن ابن عبَّاسٍ أنَّه قَالَ: قريشٌ بعضُهم لبعضٍ كفؤ، والموالي بعضُهم لبعضٍ كفؤ إلَّا الحاكة والحجَّامين، ورواه نافعٌ عن مولاه مرفوعًا، قال ابنُ أبي حاتمٍ: سألت أبي عنه فقال: هو حديثٌ منكرٌ، ورواه هشامٌ الرَّازيُّ فزاد فيه: أو دبَّاغ، قَالَ: فخرج عليه الدبَّاغون، حتَّى إنَّ بعض النَّاس حسَّن الحديث، وَقَالَ: إنَّما معناه أو دباب، كذا أراد هؤلاء الَّذين يتَّخذون الدِّباب.
          واحتج أهلُ المقالة الأولى بحديث عائشة الَّذي في الباب: أنَّ أبا حذيفة تبنَّى سالمًا وأنكحه ابنة أخيه، وهي سيِّدةُ أيامى قريشٍ، وسالمٌ مولًى لامرأةٍ مِنَ الأنصار، وتزوَّج ضُباعة بنت الزُّبَير بن عبد المطلب بنت عم رسول الله صلعم المقدادُ وهو عربيٌّ حليف للأسود بن عبد يغوث، تبنَّاه ونُسب إليه، وهو وجه إيراد البُخاريِّ له في الباب، حيث قَالَ في آخره: (وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ).
          وروى الدَّارَقُطْنيُّ عن حنظلة بن أبي سفيان عن أبيه: رأيت أختَ عبد الرَّحْمَن بن عوفٍ تحت بلالٍ، واحتجُّوا بحديث الباب: (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)، وهو وجه إيراد البُخاريِّ له هنا، فجعل العمدة ذات الدِّين، فينبغي أن تكون العمدة في الرَّجل مثل ذلك، ألا ترى قولَه في حديث سهلٍ حين فضَّل الفقيرَ الصَّالح على الغنيِّ، وجعلَه خيرًا مِنْ ملء الأرض منه، وذكره البُخاريُّ أيضًا في الرِّقاق [خ¦6447]، وذكره أبو مسعودٍ في «أطرافه»: أنَّ مسلمًا أخرجه، وذكره الخليليُّ وابن الجَوْزيِّ في المتَّفق عليه.
          واحتجُّوا أيضًا بقوله ◙ لبني بياضة: ((أَنكِحوا أبا هندٍ)) فقالوا: يا رسول الله، أنزوِّج بناتنا مِنْ موالينا؟ فنزلت {يَا أَيُّهَا النَّاسُ...} الآية [الحجرات:13]، رواه أبو داود، وفي التِّرْمِذيِّ مِنْ حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((إذا خطبَ إليكم مَنْ ترضونَ دينَه وخلقَه فزوِّجوه))، ثُمَّ قال: رواه اللَّيث عن ابن عَجْلان عن أبي هريرة مرسلًا، قَالَ مُحمَّدٌ: وهو أشبه، وعن أبي حاتمٍ المزَنيِّ مرفوعًا: ((إذا أتاكم مَنْ ترضون دينه وخلقه فأنكحوه))، ثُمَّ قَالَ: غريبٌ، ولا نعلم لأبي حاتمٍ عن رسول الله صلعم غيره.
          وأجابَ بعضهم عن حديث سالمٍ وغيره أنَّ ذلك كان قبل أن يُدعى إلى أبويهما فإنَّهم كانوا يرَون أنَّ مَنْ تبنَّى أحدًا فهو ابنه، وآخر حديث سالمٍ صريحٌ فيه.
          وَقَالَ المُهَلَّب: الأكفاء في الدِّين هم المتشاكلون، وإن كان في النَّسب تفاضلٌ، فقد نسخ الله ما كان يحكم به العرب في الجاهليَّة مِنْ شرف الأنساب بشرف الصَّلاح والدِّين، فقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ} الآية [الحجرات:13]، وقد نزع لهذِه الآية مالك بن أنسٍ.
          وأمَّا دعوى دخول العار عليها وعلى الأولياء فيُقال: مع الدِّين لا عار، فمعَه ما يحمل كل شيءٍ، وفي النَّسب مع عدم الدِّين كلُّ عارٍ، وقد تزوَّج بلالٌ امرأةً قرشيَّةً كما سلف، وأسامة بن زيد فاطمةَ بنت قيسٍ وهي قرشيَّةٌ، وقد كان عزم عمر بن الخطَّاب على تزويج ابنته مِنْ سلمان الفارسيِّ حتَّى قَالَ عمرو بن العاصي لسلمان: لقد تواضع لك أمير المؤمنين، فقال سلمان: لمثلي يتواضع؟! والله لا أتزوَّجها أبدًا، ولولا أنَّ ذلك جائزٌ ما أراده عمر ولا همَّ به لأنَّه لا يدخل العار نفسه وعشيرته.
          فصلٌ: قد أسلفنا وجه دخول حديث ضُبَاعة هنا، وقد أجازه طائفةٌ عملًا به _أعني الاشتراط_ ومنهم عمرُ وعثمانُ وعليٌّ وابنُ مسعودٍ وعمَّارٌ وابن عبَّاسٍ، ومِنَ التَّابعين سعيد بن المُسَيِّب وعروة وعَطاءٌ وعلقمة وشُرَيْحٌ وعُبيدة، ذكره ابن أبي شَيبة وعبد الرَّزَّاق، وهو الأظهر عند الشَّافعيِّ، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثَوْرٍ، وأنكر الاشتراط طائفةٌ أخرى وقالوا: هو باطلٌ، رُوي ذلك عن ابن عمر وعائشة، وهو قول النَّخَعيِّ والحكم وطاوسٍ وسعيد بن جُبَيْرٍ، وإليه ذهب مالكٌ والثَّوْريُّ وأبو حنيفة، وقالوا: لا ينفعه اشتراطه ويمضي على إحرامه حتَّى يتمَّ، وكان ابن عمر ينكر ذلك ويقول: أليس حسبُكم سنَّة رسول الله صلعم فإنه لم يشترط، فإن حُبس أحدكم بحابسٍ عن الحجِّ فليأتِ البيت فليطفْ به وبين الصَّفا والمروة، ويحلق ويقصِّر، وقد حلَّ مِنْ كلِّ شيءٍ حتَّى يحجَّ قابلًا، ويهدي أو يصوم إن لم يجد هديًا، وأنكر ذلك طاوسٌ وسعيد بن جُبَيْرٍ، وهما رويا الحديث عن ابن عبَّاسٍ، وأنكره الزُّهْريُّ وهو راويه عن عروة.
          فهذا كلُّه ممَّا يوهن الاشتراط وادِّعاء خصوصها وليس بظاهرٍ، وادَّعى ابن المرابط أنَّ عدم ذكره لهذا الحديث في كتاب الحجِّ دلالةٌ على أنَّ الاشتراط عنده لا يصحُّ، وهو عجيبٌ.
          وفيه دليلٌ على أنَّ الإحصار لا يقع إلَّا بعدوٍّ مانعٍ، وأنَّ المرض وسائر العوائق لا يقع بها الإحلال، وإلَّا لما احتاجت إلى هذا الشَّرط، وهو قول ابن عبَّاسٍ، قَالَ: لا حصر إلَّا حصر العدوِّ، ورُوي معناه عن ابن عمرَ.
          وقولها: (مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي) فيه دليلٌ على أنَّ المُحْصَر يحلُّ حيث يُحبس، وينحر بدنةً هناك، حرامًا كان أو حلالًا.
          فصلٌ: وحديث أبي هريرة ☺: (تُنْكَحُ المَرْأَةُ / لِأَرْبَعٍ...) إلى آخرِه، هو إخبارٌ عن عادة النَّاس في ذلك، قَالَ المُهَلَّب: وهو دالٌّ على أنَّ للزَّوج الاستمتاع بمالها، فإنَّه يقصد لذلك، فإن طابت به نفسًا فهو له حلالٌ، وإن منعت فإنَّما له مِنْ ذلك بقدر ما بذل مِنَ الصَّداق، واختلفوا إذا أصدقَها وامتنعت الزَّوجة أن تشتري شيئًا مِنَ الجهاز، فقال مالكٌ: ليس لها أن تقضي به دينها، وأن تنفق منه في غير ما يصلحها، إلَّا أن يكون الصَّداق شيئًا كثيرًا فتنفق منه شيئًا يسيرًا في دَينها، وَقَالَ أبو حنيفة والثَّوْريُّ والشَّافعيُّ: لا تجبر على شراء ما لا تريد، والمهر لها تفعل فيه ما شاءت، واحتجُّوا بأجمعهم بأنَّها لو ماتت والصَّداق بحاله أنَّ حكمه حكم سائر مالها.
          والحديث دالٌّ على أنَّ للزَّوج الاستمتاع بمالها والارتفاق بمتاعها، ولولا ذلك لم يفدنا قوله: (تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِمَالِهَا) فائدةً، ولساوت الغنية الفقيرة في قلة الرَّغبة فيها، فقول مالكٍ أشبهُ بدليل الحديث.
          فائدةٌ: زاد الزَّمَخْشَريُّ في «ربيعه» في الحديث مرفوعًا: ((فمَنْ نكحَ للجمال عاقبه الله بالغيرة، ومَنْ نكح للنَّسب عاقبه الله بالذُّلِّ، فلا يخرج مِنَ الدُّنيا حتَّى يكثر حبسُه وتُخرَّق ثيابه ويُشجَّ وجهه، ومَنْ نكح للمال لم يخرج مِنَ الدُّنيا حتَّى يبتليه الله بمالها، ثُمَّ يقسو قلبها فلا تعطيه شيئًا، ومَنْ نكح للدِّين أعطاه الله المال والجمال والنَّسب وخيرَ الدُّنيا والآخرة)).
          فصلٌ: تَرِبَ معناه افتقر، وقيل: استغنى ولم يدع بالفقر، وإنَّما هي كلمةٌ جرت على ألسنتهم مِنْ غير قصدٍ لمعناها كعَقْرى حَلْقى ونحوه، وسيأتي أيضًا في الأدب [خ¦6156].
          فصلٌ: وحديث سهلٍ في الباب هو ابن سعدٍ، وذكره الحُمَيديُّ وأبو مسعودٍ وابن الجَوْزيِّ في «المتَّفق» مِنْ مسند سهلٍ، وأبى ذلك الطَّرْقيُّ وخلفٌ فعزياه إلى مسلمٍ، و(حَرِيٌّ) بالحاء معناه: حقيقٌ.
          فصلٌ يتعلَّق بما ذكرناه مِنْ تتمَّة الحديث الأوَّل: ذكر البُخاريُّ قريبًا في باب: لا رضاع بعد حولين [خ¦5102]، حديث عائشة السَّالف في الشَّهادات [خ¦2647]: ((فإنَّما الرَّضاعة مِنَ المجاعة))، وقد اتَّفق جمهور العلماء على أنَّ رضاع الكبير لا يحرِّم، وفيه حديثٌ في الدَّارَقُطْنيِّ مِنْ حديث أبي هريرة، وفي آخره: ((لا رضاعَ بعد فطامٍ، إنَّما يُحرِّم مِنَ الرَّضاع ما في المهد))، وعند مالكٍ عن ابن دينارٍ عن ابن عمرَ: إنَّما الرَّضاعة رضاعة الصَّغير، وعن نافعٍ عن ابن عمرَ: لا رضاعة لكبيرٍ، ولا رضاعة إلَّا ما أرضع في الصِّغر، وعن أمِّ سَلَمة قالت: لا رضاع بعد فطامٍ، وَقَالَ ابن مسعودٍ: الرَّضاع ما أنبت اللَّحم والعظم، ومِنْ حديث جُوَيبرٍ عن الضَّحَّاك عن النَّزَّال عن عليٍّ: لا رضاع بعد الفِصال، وعن عمرو بن دينارٍ عمَّن سمع ابنَ عبَّاسٍ ☻: لا رضاع بعد الفطام، وكذا قاله الحسن والزُّهْريُّ وقَتَادة وعِكرمة، وروى هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذِرِ عن أمِّ سَلَمة مرفوعًا: ((لا يُحرِّم مِنَ الرَّضاع إلَّا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام))، ولابن عَديٍّ عن ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: ((لا يحرِّم مِنَ الرَّضاع إلَّا ما كان في الحولين)).
          وشذَّ اللَّيثُ وأهلُ الظَّاهر فقالوا: يحرِّم، وحكاه عبد الرَّزَّاق عن عليِّ بن أبي طالبٍ وعَطاءٍ ذهابًا إلى حديث سالٍم، وجوابه أنَّه منسوخٌ أو خاصٌّ، كما قالت أمَّهات المؤمنين، كما نبَّه عليه ابن بَطَّالٍ وغيره، فإن وقع ذلك لم يلزم بها حكمٌ لا في النِّكاح ولا في الحجاب، وَقَالَ داود: يرفع تحريم الحجاب لا غير، وَقَالَ ابن الموَّاز: لو أخذ هذا في الحجاب لم أَعِبْهُ، وتركه أحبُّ إليَّ، وما علمتُ أخذ مَنْ به عامًّا إلَّا عائشة.
          وقد انعقد الإجماع على خلاف التَّحريم برضاعة الكبير؛ لأنَّ الخلاف كان أوَّلًا ثُمَّ انقطع، وما حكاه عن عائشة فيه نظرٌ لأنَّ نصَّ حديث «الموطَّأ» عنها أنَّها كانت تأخذ بذلك في الحجاب خاصَّةً، وقد اعتضد الجمهور على الخصوصيَّة بأمورٍ منها:
          أنَّ ذلك مخالفٌ للقواعد، منها: قاعدةُ الرَّضاع فإنَّ الله تعالى قَالَ بعد {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] فهذِه أقصى مدَّة الرَّضاع المحتاج إليها عادةً، فما زاد عليها بمدَّةٍ مؤثِّرةٍ فغير محتاجٍ إليها عادةً ولا يُعتبر شرعًا لندورها، والنَّادر لا حكم له.
          ومنها: تحريم الاطِّلاع على العورة، فإنَّه لا خلاف أنَّ ثدي الحرَّة عورةٌ، وأنَّه لا يجوز الاطِّلاع عليه، ويبعد الإرضاع مِنْ غير اطِّلاعٍ، ونفس الالتقام اطِّلاعٌ.
          ومنها: أنَّه مخالفٌ لحديث أمِّ سلمة مِنْ عند التِّرْمِذيِّ صحيحًا: ((لا يحرِّم مِنَ الرَّضاع إلَّا ما فتق الأمعاء في الثَّدي وكان قبل الطَّعام)) وقد سلف، وللحديث السَّالف: ((إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ))، وهو دالٌّ على أنَّ الرَّضاعة المعتبرة إنَّما هي في الزَّمان الَّذي يغني فيه عن الطَّعام، وذلك إنَّما يكون في الحولين عند الشَّافعيِّ، وما قاربهما مِنَ الأيَّام اليسيرة بعدهما عند مالكٍ، وقد اضطرب أصحابه في تحديدها، فالكثير يقول: شهرٌ، وكان مالكٌ يشير إلى أنَّه لا يفطم الصَّبيُّ دفعةً واحدةً في يومٍ واحدٍ، بل في أيَّامٍ وعلى تدريجٍ، فتلك الأيَّام الَّتي تحاول فيها فِطامَه حكمُها حكم الحولين لقضاء العادة بمعاودة الرَّضاع فيها، وجمهور العلماء _كما قَالَ ابن بَطَّالٍ_ أنَّ ما كان بعد الحولين لا يحرِّم، رُوي عن ابن مسعودٍ وابن عبَّاسٍ وعامرٍ الشَّعْبيِّ وابن شُبْرُمة، وهو قول الثَّوْريِّ والأوزاعيِّ ومُحمَّدٍ وأبي يوسف والشَّافعيِّ وأحمد وإسحاق وأبي ثورٍ، وهو قول مالكٍ في «الموطَّأ».
          وفيه قولٌ آخر: روى الوليد بن مسلمٍ عن مالكٍ: ما كان بعد الحولين شهرًا وشهرين يحرِّم.
          وقولٌ آخر عن أبي حنيفة: ما كان بعدها بستَّة أشهرٍ فإنَّه يحرِّم.
          وقول آخر: قَالَ زُفَرُ بن الهُذَيْل: ما دام يجتزئ باللَّبن ولم يطعم، وإن أتى عليه ثلاث سنين فهو رَضاعٌ، وَقَالَ الأوزاعيُّ فيما نقله ابن حَزْمٍ: إن فُطم وله عامٌ واحدٌ واستمرَّ فطامه ثُمَّ رجع في الحولين لم يحرِّم هذا الرَّضاع الثَّاني شيئًا وإن تمادى رضاعه.
          وجمع ابن التِّينِ خمسة أقوالٍ في «المدوَّنة»: الرَّضاع حولان وشهرٌ وشهران، وفي «المجموعة»: الأيَّام اليسيرة، وَقَالَ عبد الملك: الشَّهر ونحوه، وعنده في «المبسوط» تعتدُّ نقص زيادة الشُّهور، وقاله سُحْنون عن أبيه، وَقَالَ مُحمَّد بن عبد الحكم عن مالكٍ: لا يحرِّم ما زاد على الحولين، وذكر الدَّاوُديُّ عنه: يحرِّم بعد سنتين ونصفٍ.