التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب تزويج المعسر

          ░14▒ (بَابُ: تَزْوِيجِ المُعْسِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:22]).
          5087- ذكر فيه حديثَ سهلٍ في قصَّة الواهبة، وفي آخره: (اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكهَاَ بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ).
          وقد سلف بالتَّرجمة المذكورة، وذكره في اللِّباس [خ¦5871] والوكالة [خ¦2310] وفضائل القرآن [خ¦5029]، وأخرجه مسلمٌ.
          وهو دالٌّ على جواز نكاحٍ المُعسرٍ، وأنَّ الكفاءة إنَّما هي في الدِّين لا في المال، فإذا استجازت المرأة أو الوليُّ التَّقصير في المال جاز النِّكاح، والأصحُّ عندنا: أنَّ المال ليس شرطًا في الكفاءة، وقد رُوي عن عمرَ بن الخطَّاب ☺ أنه قَالَ: ابتغوا الغِنى في النِّكاح، ما رأيت مَنْ قعد بعد هذه الآية {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، وفي «مستدرك الحاكم» مِنْ حديث عائشة مرفوعًا: ((تزوَّجوا النِّساء فإنَّهنَّ يأتينكم بالمال))، ثُمَّ قَالَ: صحيحٌ على شرط الشَّيخين، وصحَّ أيضًا مِنْ حديث أبي هريرة ☺: أنَّ رسول الله صلعم قَالَ: ((ثلاثةٌ حقٌّ على اللهِ أن يُعينَهم: المجاهدُ في سبيل الله، والنَّاكحُ يريد العفافَ، والمكاتب يريد الأداءَ))، وَقَالَ ابن الجَلَّاب: إذا عَلِمَت المرأة بفقره عند النِّكاح فلا قيام لها.
          فصلٌ: في حديث سهلٍ جوازُ خطبة المرأة الرَّجل لنفسها إذا كان صالحًا ولا عار عليها في ذلك، وفيه أنَّ النِّساء يخطبن إلى الأولياء، فإن لم يكن وليٌّ فالسُّلطان وليُّ مَنْ لا وليَّ له، وفيه إجازة النِّكاح بلفظ الهبة مِنْ قولها: جئت أهب نفسي لك. وكذا البيع وكلُّ لفظٍ يقتضي التَّأبيد دون التَّأقيت، قاله القاضيان: ابن القصَّار وابن بُكَيرٍ.
          وذكر أبو حامدٍ عن مالكٍ: إن ذكر المهرَ مع هذا اللَّفظ صحَّ وجاز العقد وإلَّا لم يجز، ولم ينعقد النِّكاح، وكذا قوله: (مَلَّكْتُكَهَا)، وَقَالَ المغيرة والشَّافعيُّ: لا ينعقد النِّكاح إلَّا بلفظ التَّزويج أو الإنكاح. والأوَّل مِنْ خواصِّه، كما أنَّ له أن يتزوَّج بغير مهرٍ ووليٍّ، ولأنَّ المخاطب لا يدخل في الخطاب إلَّا فيما كان مِنْ أمر الله كما قاله القاضي أبو بكرٍ والجمهور كما حكاه ابن التِّينِ خلافًا لبعض أصحابنا، وليس منعُنا أن يتزوَّج بلفظ الهبة منعًا للشَّارع، وكذلك الولاية في النِّكاح لأنَّه تزوَّج أمَّ سلمة بغير وليٍّ، وهو أولى بالمؤمنين مِنْ أنفسهم وأموالهم.
          وادَّعى ابن حَبيبٍ أنَّ حديث سهلٍ هذا منسوخٌ بقوله: ((لا نكاح إلَّا بوليٍّ وشاهدي عدلٍ)).
          ورواية: (مَلَّكْتُكَهَا) الصَّحيح رواية: (زَوَّجْتُكَهَا) بإجماع أهل الحديث، والأُولى وهمٌ مِنْ مَعمرٍ، لكنَّ البُخاريَّ ذكرها عن غيره، ولأنَّها قضيَّة عينٍ فليس الاحتجاج بأحدهما أولى مِنَ الآخر.
          فصلٌ: (وَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ) فيه جواز النَّظر إلى المرأة إذا أراد نكاحها، وهو قول الأئمَّة مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ، وعن بعض المتأخِّرين منعه.
          فصلٌ: وقوله: (ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ الله صلعم رَأْسَهُ) هو حشمةٌ منه وحياءٌ ولم يواجهها إنِّي لا أتزوَّجك، وإن ذكر في باب: إذا قَالَ الخاطب للوليِّ: زوِّجني فلانة [خ¦5141] فقال: ((مَا لِي اليومَ في النِّساء مِنْ حاجةٍ)).
          فصلٌ: فيه أنَّ الشَّارع له الاجتهاد، وهو ظاهرٌ.
          فصلٌ: قوله: (وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) فيه كما قَالَ ابن المُنْذرِ أنَّ أقلَّ المهرِ لا توقيت فيه إذ الخاتم مِنْ حديدٍ لا يساوي عشرةً كقول أبي حنيفة، ولا ربع دينارٍ كقول مالك، أو ثلاثة دراهم، قَالَ الشَّافعيُّ: ما جاز أن يكون ثمنًا أو أجرةً جاز أن يكون صداقًا، وَقَالَ ربيعة وابن وَهْبٍ عند ابن حبيبٍ: يجوز بالدِّرهم والسَّوط والنَّعلين أخذًا بظاهر هذا الحديث، ورُوي عن ربيعة: نصف درهمٍ، وقيل: ما يساوي ثلاثة دراهم، وَقَالَ النَّخَعيُّ: أقلُّه أربعون درهمًا، وَقَالَ سعيد بن جُبَيْرٍ: خمسون، ولا وجه لهما.
          فصلٌ: فإن كان الشَّيء حقيرًا فسدت التَّسمية عندنا، ورجع إلى مهر المثل، وعند ابن القاسم: إذا تزوَّج على أقلَّ مَنْ ربع دينارٍ أو ثلاثة دراهم، إن لم يدخل خُيِّر بين أن يتمَّ لها ثلاثة دراهم أو يُفرَّق بينهما، وإن دخل أُجبر على أن يتمَّ ربع دينارٍ أو ثلاثة دراهم، وإن طلَّق قبلَ البناء كان لها نصف الدِّرهمين لأنَّه صداقٌ مختلفٌ فيه. وَقَالَ غيره: يفسخ قبل ويثبت بعدُ ولها صداق المثل.
          واختلف إذا لم يتمَّ قبل البناء ربع دينارٍ وفُرِّق بينهما، فقال مُحمَّدٌ: لها نصف ما كان أصدقَها، وَقَالَ ابن حَبيبٍ: لا شيء لها، وهو أبين كما قَالَ ابن التِّينِ، واختار الشَّيخ أبو الحسن بن القابسيِّ قول مُحمَّدٍ، وأجاب الأَبْهَريُّ عن الخاتم بأنَّه خاصٌّ بذلك الرَّجل، ولا دليل يشهد له، وقال ابن القصَّار: يحتمل أن يكون أراد منه تعجيل شيءٍ يقدِّمه مِنَ الصَّداق لأنَّه لم يقل: إنَّ ذلك الشَّيء إذا أتى به يكون جميع الصَّداق، وهو بعيدٌ أيضًا.
          فصلٌ: فيه دِلالةٌ على أنَّه إذا قَالَ: زوِّجني، فقال: زوَّجتك، أنَّه لا يحتاج أن يقول ثانيًا: قبلت نكاحها، وهو قول مالكٍ وأبي حنيفة / والشَّافعيِّ كالبيع خلافًا لأبي حنيفة، حيث قَالَ: لا بدَّ أن يقول: قبلت، وهو أحد التَّأويلات في قوله في «المدوَّنة»: يعني سلعتك، أنَّ المشتري لا يلزمه، وأوَّل بعضهم: بِعْني، أي تبيعني.
          فصلٌ: قَالَ الشَّيخ أبو مُحمَّد بن أبي زيدٍ: قوله: (بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ) هذا خاصٌّ بذلك الرَّجل، قلت: لا، قَالَ: والدَّليل على ذلك أنَّه زوَّجها مِنْ ذلك الرَّجل ولم يستأمرها في تزويجه، وليس في الحديث ما يدلُّ أنَّها أرادت غيره، قلت: هو وليُّ المؤمنين، قَالَ: وأيضًا فلم يُعلم ما معَه مِنَ السُّوَر، وظاهر الحديثِ أني زوَّجتك لأنَّ فيك قرآنًا.
          قلت: قد أسلفنا في باب: تزويج المعسر: ((قم فعلِّمها عشرين آيةً وهي امرأتك))، وَقَالَ الشَّافعيُّ: زوَّجها منه ليُعلِّمها السُّوَر، وكذلك احتجَّ به القاضي عبد الوهَّاب على صحَّة العقد في النِّكاح بالإجارة.
          قَالَ: وفي «كتاب مسلمٍ»: ((انطلِقْ فقد زوَّجتُكها فعلِّمها مِنَ القرآن))، وقد اختلف في النِّكاح بالإجارة على ثلاثة أقوالٍ، فقال مالكٌ وهو عند مُحمَّدٍ: هو مكروهٌ، وَقَالَ أصبغ: هو جائزٌ، وَقَالَ ابن القاسم: هو ممنوعٌ ويفسخ قبل البناء.
          وقيل: معنى (بِمَا مَعَكَ) أي لأجل فضيلة القرآن، ورُدَّ عليه بأنْ قيل: لو كان كذلك لقال: لِما معك؛ لأنَّ الباء إنَّما هي للبدل والعِوَض، كقولك: بعتك ذا بكذا، ولأنَّه سأله عما يُصْدِقها ولم يطلب فضله، إذ لو قصده لسأله عن نسبه، وهل هو قرشيٌّ أو غيره، وإنَّما قصد المهر، فإن قيل: فقد لا تتعلَّم فينقض بجواز تعليمها الكتاب، وقد لا تتعلَّم، وعند المالكيَّة خلافٌ في حذق المتعلِّم، واشترطه ابن سُحْنون.
          فصلٌ: وفي الحديث دِلالةٌ على صحَّة النِّكاح وإن لم يتقدَّمه خُطبةٌ _بالضَّمِّ_ وخالف فيه داود.
          فصلٌ: وفيه أنَّ المراد إذا زوَّجها الوليُّ فرضيت بالقرب جازَ، وفيه اختلافٌ عن مالكٍ؛ قَالَ مرَّةً: لا أحبُّ المُقام عليه، وَقَالَ: لا يجوز إذا رضيت، فلم يفرِّق بين قربٍ وبعدٍ، وأجازه مرَّةً إذا قرُب، ومنعه إذا بعُد، حكاه أصبغ.
          فصلٌ: وفيه جواز القراءة عن ظهر قلبٍ، وقد بوَّب البُخاريُّ لذلك فيما سلف قريبًا.
          فصلٌ: وفيه أنَّ المؤمنين ليس عليهم أن يصَّدَّق بعضهم عن بعضٍ كمواساة الأكل والشُّرب، وفيه ابتغاء الجَمال، وفيه أنَّ السُّلطان وليُّ مَنْ لا وليَّ له، وكذا ترجم عليه البُخاريُّ، وفيه المراوضة في الصَّداق، وفيه خطبة الرَّجل لنفسه، وفيه أنَّ الزَّوج يقدِّم شيئًا مِنَ الصَّداق، وقد قَالَ عيسى عن ابن القاسم: وإن أهدى إليها فلا يدخل حتَّى يقدِّم ربع دينارٍ، وأجازه بعضهم، وما أحبُّ ذلك حتَّى يقدِّمه. وفيه أنَّ النِّكاح لا يكون إلَّا بصداقٍ.